‘طبائع’ اليوناني تيوفراست: الشخصية وتحولاتها عبر التاريخ
يتحدث اليوناني تيوفراست (371-287 قبل الميلاد) في كتابه ‘طبائع’ عن صور البؤس في الشخصيّة الإنسانيّة وتمظهراتها التي تتجلّى في السلوكيّات عبر التاريخ وتناسلها وانتقالها من جيل إلى آخر ومحافظتها على طبيعتها البائسة وتلويثها مَن تطالهم بسوء وأذى. ترى ما هي الحدود الفاصلة بين السرد الروائي والسيرة الذاتية؟ وهل ثمة حدود؟
أرى أن ليست ثمة حدود في الفنون، لا بمعنى تحولها إلى انفلات وفوضى، بل حدود تكاد تكون هلامية، لكن فيها شيء من عقل وفن، لذا فاني إذ أقرأ العمل الروائي، الذي كتبه الأديب العراقي المغترب قسراً، فثمة من غادروا الأوطان ترفاً وبطراً، وبحثاً عن حياة فضلى، ما عادوا يجدونها في الوطن المضطرب منذ عقود، إني إذ اقرأ رواية «السراب الأحمر.. سيرة حياة هشام المقدادي» الذي هو جزء من رباعية روائية خطتها يراعة القلم الأنيق الجوال علي الشوك، لتكون روايته «فتاة من طراز آخر»، الحلقة الرابعة والأخيرة من مشروعه الرّوائي الرباعي، وهي متّصلة بسابقاتها، ومستقلة عنها في الوقت معاً، كما دوّن ذلك على واجهة غلافها الأول.
يرسم تيوفراست عدداً من التنويعات من الحالات الإنسانية، يتغلغل من خلالها إلى النفس البشريّة، يفكك مكامن العلل والضعف والضعة والانحطاط فيها ويشكّل مدخلاً لتحليل الشخصيّة الإنسانيّة من خلال طبائعها وكيفية تبلورها عبر أفعال تدفعها طبائع قارة في النفوس لا يمكن التعتيم عليها بأيّ طريقة من طرق التحايل والتحوير.
يفصل تيوفراست في كتابه (منشورات التكوين، دمشق، ترجمة عبدو زغبور، 2016) طبائع البشر وصفاتهم الداخلية التي توصف بالشريرة، ويصف العيوب وكيف أن الطبائع تنتقل من عصر إلى آخر وتحتفظ بطبيعتها وتأثيراتها برغم اختلاف الأمكنة والأزمنة وتغير الظروف. وكأنّ البشر يستعيدون سير بعضهم بعضاً من زمان إلى آخر أو يتلوّنون بألوان جديدة تحتفظ بالهيئات والطبائع المتأصّلة التي تبرز حقيقتهم ووجودهم.
يرسم صورة “المنافق” ويقول إن المرء يستطيع أن يرى في النفاق، إذا ما أراد رسم جوهره، نوعاً من الرياء الذي يستند إلى سوء الطوية في التصرّف كما في الكلام. يحرص المنافق، إذا ما التقى بأعدائه، على التكلّم إليهم، بيد أنّه يخفي حقده عليهم. ويمدح الذين يطاردهم في الخفاء أثناء وجودهم ويعبّر لهم عن عطفه إذا ما أصيبوا بمصيبة. ويرفق متسامحاً بالذين يتكلّمون عنه بالسوء والذين يلصقون به التهم. يبيع شيئاً، يزعم أنّه لم يبع أيّما شيء، لا يبيع شيئاً، يؤكّد العكس. ينكر بأنّه سمع شيئاً ولا يعترف بأنّه رأى شيئاً ولا يتذكّر بأنّه وعد بشيء.
يصف الوضاعة التي يتحلى بها “المتملّق” الذي لا يتحلى بأيّ قيمة وتخلو ممارساته وسلوكياته من أيّ كرامة، يستخدم حيلاً بائسة لتعظيم أناس يمضي في ظلهم ويحاول أن يستفيد منهم. ينتهز أيّ فرصة لإسباغ صفات مضخّمة عليهم. يقول عن هذه الحالة إنّه تحت التملّق يفهم المرء عادة على أنّه سلوك خال من الكرامة في العلاقة مع الآخرين والذي يتوخّى الاستفادة من المتملّق إليه.
يفكك شخصية “الثرثار” فيقول إنّ الثرثرة تفصح عن نفسها في الإسهاب وعدم التمعّن في كلامه، وإنّ الثرثار يسرد ثرثراته الجوفاء على مسامع الغرباء أينما حلّ وارتحل، يتحدّث عن كلّ شيء وعن لاشيء. ثم ينتقل إلى توصيف طباع الجِلف وكيف أنه تحت سلوك الرجل الجلف يفهم المرء عادة نقيصة مزعجة في التهذيب وآداب اللياقة.
يرسم شخصية “المتزلّف” ويفصل في تفكيك التزلف، وكيف أنه إذا أراد المرء تحديد جوهره يجده نوعاً من السلوك الذي يعمل على بعث الإعجاب من دون طوية حسنة. وحالة الرجل المتزلّف الممتدح لكل من يقابله. وينتقل إلى وصف انعدام الضمير ويعني به الإصرار على الاستهتار بالفضيلة والشرف أثناء الكلام والسلوك. يصفه الشخص عديم الضمير بأنه قادر على لعب دور المتّهم في المحكمة كقدرته على أن يكون المُدعى عليه، يتلوّن بحسب انتهازيته ومصالحه.
يتحدّث عن “مروّج الشائعات” ويشير إلى أنّ ترويج الشائعات ينحصر في جمع القصص والوقائع غير الصحيحة التي نقلها المروّج وينبغي على المرء تصديقها. كما يتحدّث عن “الوقح” ويصف الوقاحة بأنّ المرء إذا أراد رسم جوهرها فهي زراية سمعته الشخصية بغية منافع مهينة، ويشير إلى أن الإنسان الوقح إذا أراد استعارة شيء فإنّه يقصد ذاك الذي أضرّ به يوماً، ثمّ يقصد بعد ذلك شخصاً آخر. وتراه يطالب لأصدقائه الضيوف بالحقّ في مقعد في المسرح بينما هو يشاهد دون أن يسدد ما يترتب عليه ثم يتمادى ويجلب آخرين معه تالياً.
يكمل تيوفراست سلسلة توصيفاته لطبائع الشخصية البشريّة ويرسم صفات “المقتّر” الذي يغالي في الحرص على التوفير بما يتعلّق بالأمور المالية. يقول إنه إذا أراد الشخص المقتّر بيع شيء فإنّه يطلب ثمناً مرتفعاً إلى درجة أن شراءه من قبل المالك الجديد يصبح دون قيمة، ويمنع كثيراً من الأشياء البسيطة ويعلّل حظره لها بأنّ تلك الأشياء الصغيرة تكوّن مع مرور السنين مبلغاً طائلاً.
يحلّل بنية الارتياب بالاعتماد على طبع المرتاب ويجد أنّ الارتياب مظنّة ضدّ كلّ شيء، وكأنّ شيئاً يحدث من دون حقّ. ويقول إنّ الإنسان المرتاب يرسل أحدهم لشراء مواد ويدفع بآخر وراءه كي يخبره كم دفع ثمن كلّ سلعة. أو تراه يحمل نقوده معه ويجلس ليعدها بعد كل مسافة قصيرة.
يتحدث عن صفات أخرى لشخصيات عديدة منها: الفظّ، الأبله، المتحمّس، شارد الذهن، المتعجرف، المؤمن بالخرافة، المتذمر، المرتاب، المثير للقرف، قليل الذوق، المغرور، البخيل، الجبان، المتخلف، المفتري، صديق الأشرار، الجشِع، وغيرها من الطبائع التي تلوّث المرء وتخرجه عن طوره وإنسانيّته وتضعه في خانة العداء للقيم الاجتماعيّة والأخلاقيّة.
كأنّ تيوفراست يؤلّف في عمله معجم الشخصية الإنسانيّة، يجمع معجم الصفات وتحليل الشخصيات من خلال طبائعها وممارساتها التي تفترضها وتحدّد مسارات تحركها وعلاقاتها وتواصلها مع محيطها وترسم خطط تحرّكاتها داخل عالمها المشكّل بناء على ركائز يتوهّمها صاحبها ويبقيها سبل حماية ووقاية له في واقعه وعلاقاته.
يشار إلى أنّ تيوفراست الذي ولد سنة 371 قبل الميلاد في بلدة إريسوس في جزيرة ليسبوس كان قد تتلمذ على يدي الفيلسوف أفلاطون وارتبط بصداقة مع أرسطو ورافقه إلى آسيا الصغرى، ولبثا هناك فترة ثم عادا إلى اليونان، وحين أصبح أرسطو سنة 343 معلماً للإسكندر لحق به تيوفراست، وخلفه في ترؤّس مدرسته التي أنشأها حتى وفاته سنة 287 قبل الميلاد.
مجلة الجديد اللندنية