طه حسين قارئاً «الدكتور جيفاكو»: الرواية «الفائقة الروعة»

طه حسين

كان الكاتب المصري حلمي مراد سباقاً في ترجمة رواية «الدكتور جيفاكو» للكاتب الروسي الكبير بوريس باسترناك إلى العربية وأصدرها في سلسلة «كتابي» التي أسسها العام 1952 وأشرف عليها طوال سنوات وهي تعنى بترجمة عيون الأدب العالمي إلى العربية. وعندما صدرت «الدكتور جيفاكو» العام 1957 في إيطاليا بعد منعها في الاتحاد السوفياتي والضجة التي أحدثتها سارع مراد العام 1959 إلى ترجمتها إلى العربية من الفرنسية ربما أو الإنكليزية، محققاً سبقاً أدبياً وربما سياسيا آنذاك في تعريف القراء العرب بهذه الرواية التي فاز عليها صاحبها بجائزة نوبل ومنعه النظام البولشفي من قبول الجائزة وتسلمها في أوج الحرب الباردة. وعهد المترجم إلى طه حسين مهمة تقديم الرواية والترجمة إلى القراء العرب فكتب المقدمة التي ظلت مجهولة مع نفاد طبعة الرواية المترجمة.

في الذكرى الستين لصدور «الدكتور جيفاكو» التي تحتفي بها روسيا هذه السنة، ننشر مقدمة طه حسين البديعة التي أحاط بها الرواية من جوانب عدة. وقد أعادت دار التنوير نشر هذه الترجمة مع المقدمة في طبعة جديدة صدرت حديثاً.

طه حسين

< أما أن القصة رائعة فائقة الروْعة، فشيء لا يشكُّ فيه إلا الذين لم يقرؤوها ولم يتعمَّقوها، أو الذين تقصُر أذواقهم عن إساغة الأدب الرفيع!

ولكنها تحتاج في قراءتها وتعمّقها إلى صبر، أيِّ صبر، وإلى الأناة كل الأناة.. وربما احتاجت إلى أن تُقرأ مرتين أو أكثر من ذلك.. وربما احتاجت إلى أن يعيد القارئ قراءة بعض فصولها غير مرَّة!

ومصدر ذلك أولًا أنها طويلةٌ شديدة الطول، تتجاوز صفحاتها المئات الست. وأن أشخاصها من الكثرة والاختلاف وتباين الأهواء والأمزجة، بحيث يصعُب على القارئ استحضارهم في ذهنه منذ أن يبدأ القصة إلى أن يتمَّها، ولأن أماكنهم متباعدة أشدَّ التباعد، بمقدار ما يكون من التباعد في بلاد متنائية الأطراف، كالبلاد الروسيّة، التي تختلف أقطارها في طبيعة الجو، والإقليم، واللغة، والذوْق، وغير ذلك من العادات والتقاليد..

ولأنها آخر الأمر، لا تقع في عام أو عامين، أو أعوامٍ قليلة.. وإنما تبدأ أوائل القرن الحالي (العشرين) وتنتهي عند ثلثه الأول، أو قبله أو بعده بقليل.

فكل هذا يفرُق نفس القارئ، ويجعل جمع أحداثها في ذهنه عسيرًا أشد العسر.. وأعترف بأني قرأتها للمرة الأولى، ثم اضطرُرت إلى أن أعود إلى قراءة فصولٍ مختلفة منها. وأنا بعد هذا كله عاجزٌ عن تلخيصها!

وما أحسب أن غيري من النقّاد يبلغ من هذا التلخيص ما قصَّرتُ عنه، لكل الأسباب التي ذكرتها آنفًا.. فحسبي إذن أن أصوِّر الخصائص التي تمتاز بها هذه القصة من القَصص الروسي المعاصر الذي أتيح لي أن أقرأه.

***

تبدأ القصة –كما قلت– أوائل القرن الحالي، قُبيل الثورة التي شبَّت في روسيا سنة 1905. وهي تحدِّثنا عن صبية يختلفون إلى المدارس، وعن أسر هؤلاء الصبية. وهي تصف لنا -أدقَّ الوصف وأقواه- ما يضطرب في نفوس هؤلاء الصبية من الخواطر التي تثيرها الأحداث من حولهم، ولا سيَّما حين تمسُّ أسرهم من قريبٍ أو بعيد.. وما تثيره في نفوسهم من الخواطر تلك الحركات الاجتماعية. حركات العمَّال حين يُضرِبون عن أعمالهم فيملأون شوارع موسكو ضجيجًا وعجيجًا واضطرابًا.. وحركات الشرطة حين تفرِّق تظاهرات العمَّال، والطلاب أيضًا.. وتأثير هذا كله في نفوس هؤلاء الصبية الذين لم يبلغوا الثالثة عشرة بعد. وهي حين تتعرَّض لأسر هؤلاء الصبية لا تقف عند تأثُّر هذه الأسر بالأحداث، وإنما تضطر إلى وصف حياة الآباء والأمهات، وتصوير سِيَرهم وأحاديثهم وحُكمهم على الأشياء.

وتتردَّد أصداء هذا كله في نفوس هؤلاء الصبية فتصوغها وتطورها وتُحدِث فيها ألوانًا مختلفة من التأثُّر.. فإذا هم يفكرون في أشياء لم يتعوَّد صبية أمثالهم أن يفكروا فيها، فيألمون ويحزنون مما لا يؤلم الصبية ولا يحزنهم عادة.

والقصة على هذا كله تصاحِب هؤلاء الصبية في مدارسهم الأولى، والثانوية، وفي الجامعة على اختلاف كليَّاتها، فهي تصحبهم من الصبا إلى أوَّل الشباب، حين تدهمهم الحرب العالمية الأولى فيُدفعون إليها دفعًا. منهم من تفرضها عليهم سِنّهم، ومنهم من يتطوَّعون لحرب العدو حبًا بوطنهم ودفاعًا عنه.

وتصوِّر القصة أثر الحرب في حياة المدنيين المادية والمعنوية جميعًا.. كما تصوِّر عمل هؤلاء الفتيان في الميدان وبلاءهم في الحرب، حين تتقدَّم الجيوش الروسيَّة وحين تضطر إلى التقهقر.. وفي أثناء ذلك، تحدث الثورة الكبرى سنة 1917، فتصف القصة صدى هذه الثورة في الجيش، واضطراب الجُند وضبَّاطهم، بين مصممٍ على القتال وبين مُؤثِرٍ السِّلم والعافية.. حتى إذا وصلت أوامر الثورة إلى الجيش زاد اختلافهم وتفرُّقهم.

***

ثم يكون الصلح الذي انفردت به روسيا من دون حلفائها. ولكن الثورة أثَّرت في كل شيء: في حياة الجنود المحاربين، وفي حياة المدنيين القلقين. وإذا بالأمور كلها تختلط أشد الاختلاط، وإذا الناس بين مؤمن بالثورة مُخلص لها مُندفع معها حتى تبلغ ما رسمت لنفسها من غاية.. ومنكر للثورة جريء على الإنكار، ومُشفق من الثورة يخشى عواقبها، ومقاومتها أيضًا! وقد أخذت الحياة تشقُّ على الناس وتضيق بهم: طبيعةٌ قاسيةٌ من جهة، وتعرُّضٌ للجوع والبؤس من جهة أخرى.. وفرارٌ من المدينة إلى حيث يمكن أن تلين الحياة ويُكفل الأمن.

وتتبع القصة بعض هؤلاء الفتية الذين عرفناهم في طورْ الصبا، فلا تفارقهم حتى تنتهي حياتهم أو تنتهي القصة عنهم وهم أحياء.. منهم من هاجر إلى البلاد الأجنبية، ومنهم من أقام في وطنه، واحتمل فيه ألوان البؤس وفنون الشقاء والجهد ما لا سبيل إلى وصفه.

هذه هي الصورة المُجملة أشد الإجمال لموضوع القصة، فهي اجتماعية بأدق معاني هذه الكلمة من جهة، لأنها تصف حركات الجماعات المؤيِّدة للثورة والأخرى المقاوِمة لها أبرعَ الوصف وأشده تفصيلًا.. وهي مع ذلك فرديَّة بأدق معاني هذه الكلمة أيضًا، لأنها تتبع هؤلاء الأفراد من الفتية الذين رأيناهم صبية، لا تفارقهم، ولا تدع شيئًا ممّا يجري عليهم من الأحداث أو يضطرب في نفوسهم من الخواطر أو يعرض لهم حين يخلون إلى أنفسهم، إلا صوَّرته أبرعَ التصوير وأدقه.

***

وهي تتبع من بينهم شخصًا بعينه هو الدكتور جيفاغو، لا تفارقه منذ ماتت أمه وهو صبي لم يجاوز العاشرة إلى أن مات هو في نضرة شبابه وقد بلغ الأربعين أو كاد يبلغها.. تتبعه هادئًا ومضطربًا، خائفًا (وما أكثر ما كان يخاف) وآمنًا (وما أقل ما كان يأمن).. وتتبعه محاربًا لخصوم الثورة على رغمه، وهاربًا من الحرب يترقَّب القبض عليه بين لحظة وأخرى.

وتتبعه مع أهله وقد تزوَّج فتاة عرفها صبيًا واقترن بها في أول شبابه.. ثم تتبعه هاربًا معها.. ثم تتبعه وقد أُخذ للحرب على غير علمها.. ثم تتبعه وقد هرب من الحرب وعاد إلى بيته فلم يجد أهله.. فرَّت زوجته بابنها.. ثم تتبعه آخر الأمر وهو ينعم مع الخوف أشدَّ الخوف، بشيئين متناقضين أشدَّ التناقض: ينعم بحياة الحب القوي إلى أقصى غايات القوة مع صديقة عرفها أيام الصبا.. وينعم إذا كان الليل بالفراغ إلى القلم والقرطاس يلقي إليهما ما يملأ نفسه من الشِّعر والنثر.. فهو طبيبٌ بارعٌ، ولكنه أديبٌ ممتازٌ في الوقت ذاته. وتتبعه آخر الأمر وقد عاد إلى موسكو بعد أهوالٍ أي أهوال، فجعل يصدر فيها رسائل يقرأها الناس ويتحدَّثون عنها، ثم يعيش بعد ذلك عيشة فارغة لا معنى لها ولا غاية!

ثم يهبط من الترام ذات يوم ليسقط ميتًا قد وقف قلبه عن الحركة فجأة، وتمرُّ وقد تجمَّع الناس حوله.. سيدة تقف وتنظر ثم تمضي لشأنها، ولكنها لا تلبث أن تعلم شخص هذا الصريع، وإذا هي صديقته تلك التي عاش معها في أقصى الشرق ناعمًا بالحب والأدب معًا.. فتعود إليه بعد أن نُقل إلى داره، وتخلو إلى جثمانه فتحدِّثه بما اختلف عليها من الأهوال مذ فارقته في أقصى الشرق، ثم لا تدعه حتى يُوارَى في قبره. وإذا انتهت القصة على هذا النحو الرائع المروِّع معًا، ألحق الكاتب بها شيئًا من شِعر الدكتور الفقيد.. ولست أتحدث عن هذا الشعر لأني قرأته مُترجَمًا إلى الفرنسية.

وما أكثر ما تضيِّع الترجمة روْعة الشعر.. ولا سيما حين يترجم إلى شعرٍ مقيَّدٍ بالوزن والقافية أو محرَّرٍ منهما.

***

ولأعدْ إلى القصة بعد أن عرضت ما استطعت أن أعرضه عليك من موضوعها. أعود إليها لأقف وقفاتٍ قصارًا عند بعض خصائصها التي تفيض عليها جمالها الرائع وقوّتها المروِّعة:

فهي تتحدَّث عن جيل من الروس نشأوا قبل الثورة، وأدركتهم الثورة في أوّل شبابهم.. ثم عاشوا معها حتى استقرّ منها ما كان مضطربًا، وحتى أمِنت أعداءها واستطاعت أن تنتصر عليهم.. وحتى فرغت لحياة روسيا الداخلية والخارجية، تقيم بناءها على نُظُمها الجديدة بعد أن ملأت قلوب الناس روعًا، وعرَّضتهم وتعرَّضت معهم لمشكلات شدادٍ إلى أقصى غايات الشدة. وصاحب القصة لا يصوِّر «حقائق الثورة»، وإنما يُعنَى قبل كل شيء «بآثارها» في نفوس الناس، وفي نفوس الذين لم يؤمنوا بها خصوصاً، وإنما اضطروا إلى الإذعان لها كارهين ولقوا من أهوالها شيئًا كثيرًا.

ولستُ أعرف كاتبًا روسيًا صوَّر الهلع والفزع والجزع الذي يملأ قلوب الناس ونفوسهم وعقولهم ويملك عليهم أمرهم كله، كما صوَّر ذلك صاحب هذه القصة.. فالذين احتملوا أهوال هذه الثورة أبطالٌ حقًا، لأنهم شَقُوا كما لا يشقى الناس، وذاقوا من البؤس والجوع ومن قسوة الطبيعة أهوالًا تقرأها فلا تكاد تصدِّقها، لأنها بلغت من القسوة والشدة وامتحان النفوس ما لا يُصدَّق إلا بعد جهد، وأيِّ جهد.

***

ولست أعرف كاتبًا روسيًا معاصرًا صوَّر قسوة الطبيعة كتصويره، حين يشتد الشتاء، وينهمر الثلج، وتجمد الأنهار، وتنقطع حركة المواصلات، ويهلك الزرع قبل أن يؤتي ثمره، ويشقى الناس بهذا كله فلا يجدون ما يأكلون ولا ما يلبسون ولا ما يدفعون به عن أنفسهم هذا البرد القارس.. وهم مع ذلك خائفون ملأ الهوُل قلوبهم واستأثر اليأس من الحياة بنفوسهم، فهم ينتظرون أن يُؤخذوا في كل لحظة ليقدَّموا إلى الموت أو ليقدَّم إليهم الموت.. وهم لا يسمعون نأمة ولا يحسون حركة إلا ظنوا أنْ قد أقبل الذين سيأخذونهم ويمضون بهم إلى حيث لا يعودون! وليس منهم إلا من يفكِّر في صبي سيتعرَّض بعده للهول، أو زوْجٍ ستشقى بعده ألوانَ الشقاء.

لا أعرف كاتبًا روسيًا معاصرًا صوَّر هذا كله كما صوَّره باسترناك في هذه القصة.. ولا أعرف كاتبًا آخر صوَّر مثله جمال الطبيعة حين يقبل الربيع وتشرق الشمس وتعود الحياة إلى كل شيء إلا إلى هذه النفوس الوَجِلة، التي لا تفكِّر، أو لا تكاد تفكر إلا في مصاعب الحياة ومشكلاتها، وفي هذا الموت الذي يوشك أن ينقضَّ عليهم فيختطف منهم عائلًا أو حبيبًا.

ولا أذكر أني قرأت تصويرًا لحركة الجماعات في الخوف والأمن، وفي السُّخط والرضا كما قرأته في هذه القصة، ولا أعرف أحدًا غيره وصف حياة الهاربين في القطارات، التي تمضي بهم لا تقف حتى ييأسوا، أو يوشكوا أن ييأسوا من حركتها، وهم مع ذلك يهربون من الموت أو مما يشبه الموت.

كل هذا نجده في هذه القصة، بل أنت واجدٌ فيها أكثر جدًا من كل هذا، بشرط أن تقرأها صابرًا نفسك على قراءتها وفارضًا على نفسك ألا تتحوَّل عنها أثناء القراءة قيد إصبع لخاطر يعرض لك أو شيء يجري من حولك.. بل أنت ملزم إن شئت قراءتها والاستمتاع الصحيح بها، أن تُقتصر عليها أثناء القراءة عقلك وقلبك وذوقك جميعًا. وسترى، إن فعلت ذلك، أنك ستربح متعةً قلَّما تربح مثلها من قراءة كتاب!

صحيفة الحياة اللندنية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى