طه حسين وأدباء المغرب العربي
منذ أن ألقى طه حسين خطابا في الجامعة الأميركية دعا فيه إلى الاهتمام بالمغرب العربي وما يزخر به من فكر ومن أدب وثقافة، سعى هو بذاته إلى تنفيذ مضمون خطابه عبر الاهتمام بأدب المغرب العربي على ما في ذلك من صعوبة لعل أهمها صعوبة الحصول على مؤلفات المغاربة خاصة أيام الاحتلال الفرنسي للشمال الأفريقي وسعي فرنسا الدؤوب إلى محاربة العربية ومقومات الشخصية المغاربية.
وقد سرت من قبل في المشرق أراء متوارثة عن السلف في اعتبار المغرب العربي كم الثوب وذيل الطائر منذ أن وصم الصاحب بن عباد أدب المغرب- مع الأندلس- بأنه اجترار وتكرار للثقافة المشرقية “بضاعتنا ردت إلينا” تعليقا على كتاب “العقد الفريد” لابن عبدربه الأندلسي.
كسر طه حسين هذه العقدة وسعى إلى التعريف بالإبداع المغاربي في المشرق بل زار تونس عام 1957 وألقى محاضرة بحضور رئيس الحكومة الحبيب بورقيبة الذي كان معجبا بطه حسين أيما إعجاب كما وجد الترحاب والاحتفاء من قبل الشيخ الطاهر بن عاشور وابنه الفاضل وقد حرك ذلك وجدانه وتذكر ما لاقاه من عنت شيوخ الأزهر وقهرهم منذ أزمة في “الشعر الجاهلي”.
كما زار المغرب الأقصى عام 1958 ولقي كل الترحاب من قبل الملك محمد الخامس وولي عهده الحسن الثاني وقلد وسام الكفاءة الفكرية وأشاد الملك الراحل بوقوف طه حسين مع المغرب في محنته من أجل الاستقلال منذ نفي الملك محمد الخامس وكرمته جامعة الجزائر عام 1964 بمنحه الدكتوراه الفخرية.
طه حسين الذي داهن الاستعمار الفرنسي للجزائر أيام كان طالبا بالسوربون وأهدى رسالته الجامعية عن ابن خلدون إلى السلطات الفرنسية التي تقاوم البرابرة في الشمال الأفريقي وتنشر الحضارة، استدرك لاحقا الخطأ وأسقط الإهداء في الطبعات اللاحقة للكتاب الذي عربه محمد عبدالله عنان بل كتب في جريدة الجمهورية عام 1958 (إن كل شيء ممكن إلا أن تزعم فرنسا أنها تملك قلوب الناس في مستعمراتها، حقا قد تملك أجسامهم إلى حين أما قلوبهم فيملكها شيء آخر غير فرنسا يسمى الاستقلال).
وهذا المقتطف من مقالة في تحية الجزائر وكفاحها عام 1958 كتبها مع مقالات أخرى للشيخ البشير الإبراهيمي ولويس عوض وأحمد بهاء الدين ومحمود أمين العالم وأنور عبدالملك وأحمد بهاء الدين وصدرت كل تلك المقالات في كتاب بعنوان “مع الجزائر” بمقدمة ليوسف السباعي.
ليس غريبا بعد كل هذا أن يتناول عميد الأدب المغاربي تعريفا ونقدا وكان أول أديب تناوله بالتعريف والنقد هو الكاتب التونسي محمود المسعدي صاحب رواية “السد” في كتابه من”أدبنا المعاصر” وقد أشاد كثيرا بلغة القصة ومضمونها الفكري والفلسفي فكأن لغتها قدت من صخر واغترفت المعاني الفلسفية من بحر.
كما أبدى إعجابا كبيرا بكتاب العلامة المغربي عبدالله كنون صاحب كتاب”النبوغ المغربي” وهو عضو مجمع اللغة العربية ومن العنوان يدرك القارئ أن الكاتب يسعى إلى الحديث عن نبوغ المغاربة وكسرهم للطوق المضروب عليهم وتبعيتهم للمشرق ومساهمتهم الجادة في ترقية الأدب العربي فلم يعد المغرب كم الثوب ولا ذيل الطائر ولكنه الأدب المغربي في هذا الجزء من الوطن العربي مستقل الروح يتمثل تاريخ المكان وخصوصيته الثقافية والفكرية.
وجاء في تقريظ الكتاب قول طه حسين (هذا كتاب ممتع كل الإمتاع نافع كل النفع للذين يعنون بالأدب العربي وتاريخه فهو يفصل لنا كل التفاصيل التاريخ السياسي والأدبي والعلمي للمغرب الأقصى).
كما تناول في كتابه” نقد وإصلاح” رواية الكاتب الجزائري مولود معمري”الربوة المنسية” وقد تولى الكاتب إرسال نسخة من الرواية مع رسالة مكتوبة بالفرنسية والقصة تدور عن العزلة التي تحياها قرية من قرى الأمازيغ معزولة عن القسم العربي بالجبال وخضوعها للتقاليد وللاستعمار يتعاورها الحرمان والصبر ولكنها تحيا في تآلف على الرغم من مشاق الحياة في الأربعينيات زمن الحرب الكبرى وتجنيد الشباب الجزائري للحرب مع الحلفاء ضد النازية وما يتبع ذلك من حرمان الآباء والأمهات من فلذات أكبادهم، ثم هاته التقاليد التي اختلط فيها الدين النقي بالشرك عبر تقديم القرابين للأولياء والتبرك بأضرحتهم والخضوع إلى سلطانهم وهم في قبورهم ولكنه خضوع محبوب يستأنس به الأهالي وخضوع آخر للاستعمار وأعوانه قساة القلوب جباة الضرائب ولكنه خضوع هذه المرة غير مرغوب فيه إنه حكم الاضطرار لا حكم الرضا. وقد كانت القصة فرصة أخرى لطه حسين لمراجعة موقفه فعبر مولود معمري الذي امتدح جما روايته تمنى لو كتبت هذه القصة بالعربية فالعربية على حد قوله لم يتح لها الاستعمار أن تكون لغة أدب إلا قليلا وقد أخطأ الفرنسيون حين اعتبروا الاستعمار نعمة لم يحسن الجزائريون شكرها فقد كان الرد لا حقا هو الثورة العارمة عام 1954.
وقال في ختام مقاله عن الكاتب وروايته (ما أشد إعجابي بهذا الكتاب الذي لا أنكر من أمره شيئا إلا أنه لم يكتب بالعربية وكان خليقا أن يكتب بها ولكن هذا عيب لا يؤخذ به الكاتب وإنما يؤخذ به الاستعمار وما أكثر ما يؤخذ به الاستعمار من الخطايا والذنوب!) بل تمنى لو أن الكتاب نال جائزة من هذه الجوائز التي تمنح في فرنسا لقصص هي أقل شأنا من هذه الرواية حسب رأيه واقترح على الكاتب لو أن العنوان كان “خطيبة الليل” ففي القصة يلعب الحب دوره في دفع مصائر الشخصيات نحو التأزم وهي إجمالا قصة الحرمان المتصل والطارئ.
وفي أواخر الستينيات أدى الكاتب مولود معمري زيارة مجاملة لطه حسين في بيته بفيلا “رامتان” بصحبة محمد النويهي (مصر) وعبدالله الأمين(السودان) وسهيل إدريس( لبنان) وأدونيس( سوريا) وكان ذلك تحديدا عام 1966،زيارة شكر للكاتب وتقدير له على احتفائه بالكاتب الجزائري وبمضمون روايته وتعريفه بها في مصر والمشرق عامة، فلم تعد اللغة حاجزا ولو أن الرواية مكتوبة بالفرنسية إلا أنها تعبر عن الذات الجزائرية في محنة العزلة والحرمان والصبر والمقاومة في هذه الجبال الشاهقة من بلاد الأمازيغ.
هكذا إذا نفذ العميد مضمون كلمته في الجامعة الأميركية بكسر الطوق الذي ضرب على المغرب العربي زمنا طويلا ومارس حوارا فعليا حضاريا تجتمع فيه البلاد العربية برمتها على جلال الكلمة ونقاء المعنى وسمو الإبداع.