ملحمة “طوفان الأقصى”، في إنجازاتها الهائلة، لا تنحصر نتائجها في حركة حماس فقط، ولا في حركات المقاومة، ولا في كل أهل فلسطين، بل تشمل كل القوى العالمية، الباحثة عن استقلالها.
تداعى القادة العرب إلى مؤتمرهم العاجل، بعد مرور أكثر من خمسة وثلاثين يوماً، على الحرب الاستئصالية لغزة، في إثر تداعيات ملحمة “طوفان الأقصى”، التي ما زالت تصدعاتها الارتدادية تتمدد وتتعمق، في الوجدان والعقول لمن يمتلكون القدرة على التحرر من هيمنة سرديات إجرام النظام الغربي، وخصوصاً لدى أبناء مجتمعاتهم. فأي رهانات يمكن للقادة العرب أن ينجزوها، في ملتقاهم المقبل؟
لم يكن مسار اهتمام الغرب بمركز العالم القديم، والذي خرجت منه الحضارات والإمبراطوريات، متوقفاً على إنشاء الكيان فقط، بل سار في مسارين متوازيين، بعد أن قفز نابليون بونابرت إلى مصر عام 1798، ومحاولته الوصول إلى بلاد الشام، عبر فلسطين.
كان المسار الأول هو الاقتراح الذي طرحه اللورد بالميرستون البريطاني عام 1838، بشأن إنشاء كيان لليهود، قبل أن يصبح وزيرا للخارجية البريطانية، ثم مؤتمر بال عام 1897، الذي دعا إليه هرتزل. وتبعت ذلك وثيقة كامبل بنرمان 1907، التي وضعت المرتكزات الأساسية للمشروع الغربي، المتلقف للرايات، من فرنسا إلى بريطانيا، وأخيراً الولايات المتحدة.
المسار الثاني ارتكز على إيجاد بيئة إقليمية حاضنة، وحامية للوليد المُزمع إنجابه، من رحم القوة المفرطة للقوى الغربية، فتم العمل على تحطيم المنطقة، وإنهاء الإمبراطورية العثمانية المتهالكة، عبر إنشاء كيانات سياسية محيطة بفلسطين، وقريبة منها، وعلى امتداد عالم العرب، منعاً لتشكل أنظمة سياسية، تُعبّر عن رأي شعوبها، وقواها السياسية، الرافضة قطعياً لوجود هذا الكيان.
تلاقى المساران بفارق زمني بسيط، مع اندلاع الثورة العربية عام 1916، بقيادة بريطانيا، واتفاق سايكس بيكو في العام نفسه، وتلاه في عام 1917 وعد بلفور البريطاني، ليتم العمل في كلا المسارين، أحدهما مع الآخر، فكان الأردن الذي يشكل الحاجز الأكبر، بحدود 600 كم، والعمل في سوريا من خلال علاقات الوكالة اليهودية العالمية، مع الكتلة الوطنية السورية، التي رفضت خمس شخصيات فقط الاجتماع بإلياهو ساسون وإلياهو أبشتاين، عام 1936، وهم سلطان الأطرش ورشدي الكيخيا وهاشم الأتاسي وناظم القدسي وسعد الله الجابري، مع العلم بأن الشخصيات اللبنانية الفاعلة في تلك المرحلة كانت جزءاً من هذه الكتلة.
وقد يكون كتاب “المتاهة اللبنانية” لكاتبه الإسرائيلي رؤفين أرليخ الأكثر دقة في تحديد ما عملت عليه الوكالة في لبنان، واختراقها وتجنيدها شريحة واسعة، من القوى اللبنانية، حتى عام 1958.
ونجحت القوى الغربية في العمل على كلا المسارين، إن كان بدفع اليهود إلى الهجرة الاستيطانية، منذ نهايات القرن التاسع عشر، وبقبول ورضا من السلطان عبد الحميد العثماني، أو بتسنم النخب السياسية المرتبطة بالمشروع الغربي سلطات لبنان وسوريا والأردن ومصر، بالإضافة إلى أغلبية الدول العربية الباقية، وتواطئها مع الوكالة اليهودية العالمية، الأمر الذي تسبب بالنكبة الفلسطينية عام 1948، على رغم اندفاع الموجات الشعبية، للتطوع دفاعاً عن فلسطين.
قد يكون الاستثناء الوحيد من خارج هذه الدائرة، هو المحاولات التي تمت في مصر، من عام 1952 حتى عام 1970، وفي سوريا بعد عام 1963، وفي العراق بعد عام 1968، وهي مستمرة حتى الآن، عبر مستويات وطرائق متعددة.
تشكل حرب غزة المستمرة حتى الآن، بعد ملحمة “طوفان الأقصى”، أهم فرصة في تاريخ العرب الحديث. فهي، عبر ارتداداتها المتلاحقة والمستمرة، قادرة على تحويل مسارهم التاريخي الحديث، نحو آفاق مغايرة عن كل ما سبق. فالأمر الأول هو أن هذا الكيان أثبت لجميع العالم أنه عاجز عن تقديم الحماية إلى أحد، بل هو من يحتاج إلى الحماية، التي تدفقت إليه عبر أكبر تجمع قوى بحرية، بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك حاملات الطائرات وغواصة أوهايو، المزودة بأربعة وعشرين صاروخاً نووياً متعدد الرؤوس.
الأمر الثاني يتعلق برهانات التطبيع، فهناك تجارب سابقة في مصر والأردن، وهما البلدان اللذان دفعا ثمناً باهظاً لهذا التطبيع، فأفقد مصر دورها الجيوسياسي الأهم في أفريقيا والعالم العربي، وحتى عالمياً، ونقلها إلى أزمات اقتصادية متلاحقة، وفقدانها سيادتها على ثرواتها الغازية شرقي المتوسط، وكذلك الأردن الذي سقط في أوهام البحبوحة الاقتصادية، فإذا بمرابح التطبيع، تصب جميعها في الجيب “الإسرائيلي”.
أثمان التطبيع لا تتوقف، فهذا الكيان، في طبعه، يعمل على استنزاف الدول التي يدخلها، بدءاً بالتشريعات السياسية والقانونية والاقتصادية، وانتهاءً بالسيطرة على كل مفاصل الحياة.
الأمر الثالث هو الهامش الكبير للحركة، بعد الصعود الصيني والصمود الروسي، ومنافستهما الحقيقية للقوة الأميركية، على رغم استمرارها كقوة أعظم في العالم. ويستطيع النظام العربي العام أن يتحرك وفق هامش واسع، يضيف قوة وازنة إلى الدورين الصيني والروسي، على نحو يجعله رقماً صعباً في النظام العالمي الجديد، وقيد الولادة، في موقعه الجيوسياسي الأهم عالمياً، وبموارد دوله النفطية والغازية الهائلة. وهذا يمنح النظام العربي القدرة على الضغط على كل الأطراف الدولية، ويجعله لاعباً أساسياً وشريكاً على المستوى العالمي.
الأمر الرابع هو مجمل المتغيرات الإقليمية، الباحثة عن استقرار هذا المشرق، ودفعه نحو رؤية مغايرة، من أجل إخراجه من دائرة الصراع والمواجهة، إلى إطار من التعاون الإقليمي، بعد أن تعب الجميع من الصراعات المستمرة. والأمر لا يمكن أن يتحقق عبر استمرار بقاء هذا الكيان، المسؤول الأول عن تفشي العنف والاضطرابات. كما أن الدور الإقليمي الأكبر لا يمكن أن يتحقق بالملاءة المالية فقط، من دون حيازة دور إقليمي كبير، لا يمكن أن يتحقق، إلا من خلال بوابة فلسطين.
ليس المطلوب من قادة العرب، في هذه المرحلة، أن يعلنوا موقفهم المعارض لهذا الكيان، بإعلانهم المقاومة، أو دعم المقاومة، عسكرياً ومالياً. فطريق الاستقلال الاستراتيجي، وفقاً للتعبير الصيني، مساره طويل، ولا يمكن أن يتحقق مباشرةً، ومرتبط بانبثاق النظام الدولي الجديد، لكنهم يستطيعون خدمة أنفسهم في فلسطين، عبر منع تحقق الأهداف الأميركية ـ الإسرائيلية، باستخدام أدنى قدراتهم، من أجل إيقاف إطلاق النار، وفتح المعابر، وتدفق المساعدات العاجلة، والعودة، في الحد الأدنى، إلى طرح مبادرتهم عام 2002، التي قد تشكل مخرجاً موقّتاً في طريق زوال الكيان.
ملحمة “طوفان الأقصى”، في إنجازاتها الهائلة، لا تنحصر نتائجها في حركة حماس فقط، ولا في حركات المقاومة، ولا في كل أهل فلسطين، بل تشمل كل القوى العالمية، الباحثة عن استقلالها، وخروجها من دائرة الهيمنة والنهب، إلى آفاق جديدة من التنافس والصراع الإيجابيَّين والمنضبطَين. وهي الفرصة الأخيرة للقادة العرب، يجب أن يستثمروها لمصلحتهم المديدة، وإلّا فإن الإذلال والهيمنة سسيتعمّقان أكثر وأكثر.
الميادين نت