ظاهرة عرضية وقد تكون صحية وطبيعية

جميع الدراسات والتقارير تفيد بأن الأيديولوجيا تتراجع لفائدة البراغماتية السياسية، وهذه الظاهرة العالمية لا تخص تونس وحدها كديمقراطية ناشئة بعد أن تخلصت من هيمنة الحزب الواحد، ومسرحية الأحزاب الكرتونية ذات الدور التزييني بل تعرفها أعتى الديمقراطيات وأعرقها.

وهذا التراجع الأيديولوجي الذي يشهده العالم يهم الأحزاب مثلما يهم الأفراد، ما يعني أن الحاجز المرهب الذي كان يحول دون الهجرة من فضاء سياسي إلى آخر قد زال وانتفى مع سقوط جدار برلين.

ولعل خير مثال على نجاح ديناميكية التجدد والبحث عما هو أفضل وأنسب هو الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، الذي كان اشتراكيا ومستشارا للرئيس الفرنسي السابق الاشتراكي فرنسوا أولاند.

ورغم تحوله إلى مستقل منذ 2009 فقد بقي يحن إلى اليسار ويدافع عن يمين اليسار، كما انه تحدث خلال مارس 2016 عن تأييده المطلق لترشيح أولاند لولاية ثانية، لكن لم يحل شهر أفريل الموالي حتى أعلن عن تأسيس حركة إلى الأمام (أصبح اسمها الجمهورية إلى الأمام).

وبفضل هذه الحركة أزاح ماكرون كل زعماء اليسار من طريقه إلى قصر الإيليزيه وفرض عليهم الوقوف إلى صفه في الدورة الثانية ضد منافسته اليمينية المتطرفة مارين لوبان فكان خير من يهرب من اليسار إلى اليمين (هناك من يضعه في يمين الوسط) من أجل الرئاسة مع مراعاة “الهدنة” الحزبية فقد كان مستقلا  ما بين 2009 و2016.

ومن يساري إلى يمين اليسار إلى مستقل إلى يمين الوسيط أو اليمين إلى رئاسة الجمهورية، يمكن أن نعتبر ماكرون نموذجا للسائح الحزبي الناجح.

وبالعودة إلى تونس التي تشهد فيها السياحة الحزبية هذه الأيام حركية لافتة أسالت الكثير من الحبر في الصحافة المكتوبة، وضجت بها البلاتوهات التلفزيونية فإن هذه الظاهرة مردها إلى حالة يمكن وصفها بالطبيعية ـ إن لم نقل صحية ـ في بلد يتلمس طريقه نحو الديمقراطية والتعددية الحزبية.

ومن المراقبين من يعدّ الظاهرة حالة حزبيّة عرضيّة، لا تؤثّر في مسار الانتقال الديمقراطي، وترجع أساسًا إلى ضيق بعض النوّاب من غلبة البيروقراطيّة والرّأي الواحد، وغياب الشفافية والمؤسّسية في أحزابهم، ما يدفعهم إلى هجرها نحو أحزاب أخرى.

ولا يمكن وصف كل سائح حزبي بالانتهازي فالمسألة تتعلق بقناعات فكرية تتغير وتتطور وتتفاعل مع مستجدات المرحلة. ولطالما خيبت أحزاب ظنون من التحقوا بها فليس بالضرورة أن يجد المرء ضالته في الحزب الذي اختاره من المناسبة الأولى، والتاريخ الحديث يشهد على شخصيات فاعلة ومؤثرة في المسرح السياسي وقد جربت الانتقال بين أكثر من مؤسسة حزبية.

وقبل إدانة ظاهرة الارتحال الحزبي، والتذمر منها في المشهد السياسي التونسي، كان حليا على المرء أن يسأل عن أسبابها ويستقصي عللها، فهي رد فعل طبيعي على حالات الشخصنة والتغول التي تصيب القيادات، بالإضافة إلى كونها تمردا وإدانة للاصطفافات المتعلقة بالمصالح الفئوية الضيقة.

إذا كان للسياحة الحزبية من مناقب ومزايا فهي عدم الركون للجمود، رفض للإقطاع السياسي وبحث عن دماء جديدة من شأنها أن تطور في الأداء الحزبي. كما أن الجانب الحميد في الارتحال السياسي يتمثل في كسر جانب الخوف والتقديس لبعض القيادات الحزبية الشبيهة بالمستحثات والمورثة للزعامات كما هو الحال لدى أحزاب يسارية وقومية عربية كبعض الأحزاب اللبنانية والحزب الشيوعي وحزب البعث في سوريا على سبيل المثال.

التقييم الأخلاقي لظاهرة الارتحال السياسي، هو نفسه يجانب المعطى الأخلاقي حين يحاكم المنشق عن حزبه ويعتبره كائنا انتهازيا دون أن يسبّق حسن النوايا ويلتمس الأعذار متسائلا عن سبب هذا التغير في الرأي. إنها سنة التغيير والتطوير والتماس البركة في الحركة، فوحدهم الحمقى والأغبياء لا يغيرون من أفكارهم، ويظلون مصرين على اختيارهم الأول، وكأنه مقدس، دون مراعاة لمبدأ التجدد.

لنكن أصحاب تفكير إيجابي بدل تمثل ذهنية التشكيك والتخوين، فالنواب الذين انتقلوا من كتل برلمانية إلى أخرى لا يمكن أن يكونوا بالضرورة ” خونة” في نظر ناخبيهم بل لماذا لا نعتبرهم أوفياء لهؤلاء الناخبين الذين فوضوهم البحث عن مصالحهم؟

مسألة أخرى ينبغي التنبه إليها: ألم يلاحظ جميع المراقبين بأن حالة الانشقاق لم تصب جماعة الإخوان في البرلمان التونسي؟ الجواب هو أن التنظيم الهرمي للجماعة وما يرافقه من طقوس الانتساب والقسم، يجعل العضو لديهم أشبه بأفراد المحافل والعصابات الخطرة التي تحتكم إلى فكرة الولاء المطلق أو الاغتيال.

خلاصة القول أن الانشقاق والانتقال من كتلة حزبية نحو أخرى حالة صحية لا غبار عليها، وتظل أحسن من تلك الولاءات الغامضة والمرعبة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى