عابد عازرية: قيثارة الشعر

عابد عازرية السوري نشأ في بيئة غير موسيقية إلا أنه تزود بمخزون كبير من الشعر، ما إن نال البكالوريا حتى طار إلى باريس. هناك بدأ عمله الموسيقي على الشعر العربي وتعداه إلى حافظ الشيرازي وغوته ليقدم على مسرح الأوبرا في دمشق إنجيل يوحنا الذي كان ثمرة تعاون موسيقي مع فرنسيين.

عند أسوار أوروك ما يزال يقف عابد عازرية (حلب ـ 1945) ملتمساً ملحمته الموسيقية في اسطوانته (جلجامش ـ 1977) ناقلاً هذا الأخير من الرُقم السومرية القديمة (2500 ق.م)؛ ليرجَّ الغرب بصرخة الشرق في وجه الموت؛ مقتبساً أكثر حكايات البحث عن الخلود؛ فالبحّاثة السوري لا يرى أنّ ثمة شرقاً وغرباً لموسيقى العالم؛ كون حوار الشرق والغرب أمراً بديهياً، والتناقض بين الحداثة والأشكال الفنيّة القديمة لدى (عازرية) ـ كما قال يوماً لمجلة (نوفيل أوبسرفاتور) الفرنسية: «جدل لا طائل منه» فأعماله برهان إضافي على رأيه هذا.

ملامساته الأولى كانت على متن (الموسيقى) قاربه النشوان الذي ما برح ينقّله منذ أكثر من نصف قرن من لجة إلى لجة؛ مرتحلاً من مياهه السورية الأولى نحو أقاصي الأرض ومجاهل أصواتها؛ مؤرخاً بذلك عبر أسفاره البعيدة في ثقافات الشعوب وحفلاته على أشهر مسارح الأرض؛ ما يشبه (ديناً) موسيقياً جديداً، ففي فترة الخمسينيات التي قضاها الفتى الصغير في مدينته (الشهباء) مقتفياً ولهه بالأصوات والأنغام؛ تعرّف (عابد) إلى إيقاع قلبه وضروب هواه؛ إذ يروي لنا عن تلك الفترة من حياته: «الثقافة والموسيقى كانتا معدومتين في الوسط الذي كنتُ أعيش فيه في تلك الأيّام، وأعتقد بأنّ شغفي وفضولي وحبّ الإطلاع هي من قادني إلى المعرفة في شتّى الاتجاهات. أستطيع القول إن السينما هي الفن الأوّل الذي شدّني إليه بقوّة وأمسك بيدي منذ طفولتي، لا بل هو الذي فتح لي عوالم فنية متعدّدة ومتشعّبة. بدأتُ الانجذاب إلى سينما هوليوود في البداية وأثناء المراهقة تعلّقتُ بالأفلام الإيطالية والفرنسية وغيرها».

في تلك الأثناء كانت البيئة الموسيقية الممكنة الوحيدة ـ كما يخبرنا صاحب (أغنيات الشجرة الشرقية ـ 1985) هي الموسيقى الروحية على مصادرها كافّة، فالمناسبات والطقوس التي لا حصر لها لدى مختلف الطوائف وخدمة القدّاس باللغة والألحان الآرامية السريانية اليومية في المدرسة؛ كوّنت لدى الفتى الصغيرالأشكال البدائية الأولى للأنغام: «كانت والدتي مولعة بالطقوس الإسلاميّة لا تفرّق بين طقوس عيد الفصح أو الموالد النبويّة والذكر التي كانت تصطحبني إليها؛ ممّا ولّد فيّ انجذاباً إلى كل هذه الطقوس دون الموسيقى السائدة».

الهجرة

المدرسة في طفولته ما كانت شيئاً محبّباً لديّه على الإطلاق ـ يبوح صاحب اسطوانة (المتصوفة ـ 1983) مستعيداً ضجة الأمكنة الحلبية: «بالرغم من ولعي العميق بالتعلّم، إلا إنني كنتُ أنفر من المدرسة؛ إذ يعود ذلك باعتقادي لسببين على الأقل، الأوّل طريقة التعليم آنذاك المبنيّة على حفظ المعلومات واجترارها عن ظهر قلب للحصول على أعلى العلامات، وليس حب المعرفة. كنتُ أتسوّل القراءات في ذلك الوقت، أية قراءات، وأحسُّ في داخلي أنّ الكتاب كان يحميني من الابتذال والحياة المُبْتَذلة. أمّا السبب الثاني فهو تلك القسوة في المعاملة التي كان يواجهها أي طفل من قِبل محيط المدرسة والبيت إذا كان مشدوداً أو إذا كانت تستهويه أمورٌ لا تتعلّق فقط بالواجبات والوظائف المفروضة، فالقراءات بأنواعها والفنون والثقافات كافة؛ ليست إلا أموراً ترفيهية تُحيدنا وتُبعدنا عن الدراسة والمستقبل».

تجول الشاب الصغير كثيراً بين حارات حلب القديمة؛ مطارداً ضالته الموسيقية بخطى (ميلودية) هائماً على وجهه؛ كأنما جنيّة النغم قد تلبست جوارحه الطرية؛ وبما أنّ الناس كافة في فترة الخمسينيات كانت تستمع إلى الأغاني العربية نفسها والبرامج المُمِلّة ذاتها التي تبثّها الإذاعات، كان (عازرية) ـ كما يقول ـ يهرب عبر الموجات الطويلة لاكتشاف إذاعات بعيدة تبثُّ موسيقات مختلفة: «كنتُ أتنزّه بين الحين والآخر طوال جادة صالات السينما المسمّاة بـ (جادة بارون) التي تجمع على أرصفتها بعض مخازن الأسطوانات المستوردة من العديد من البلدان، وكنتُ أنظر بتمعنٍ إلى الأغلفة عبر الزجاج، ثم أجرؤ أحياناً وأدخل المخزن طالباً من الموظّف الاستماع ولو لدقائق قليلة إلى إحدى الأسطوانات المعروضة في الواجهة، وكم كانت لذّة ما بعدها لذّة في كل مرّة أكتشف فيها موسيقى جديدة وأصوات وآلات جديدة».

بين أبواب حلب الخمسينيات تفتحت مداركه السمعية وانتشت بمقامات مدينة القدود والموشّحات: «كلّ ما عشته ومارسته في حلب بعيداً عن المؤسّسات، كان في غاية الروعة. الأهل والأصدقاء والسير المتواصل وحيداً أو مع الأصحاب عبر أحياء المدينة والذهاب إلى الحمّامات متأخراً في الليل، ورائحة صالات السينما والرسائل المُتَبادلة مع الفتيات، وأصوات الباعة الشعبيين، وأصحاب المكتبات، ووداعة والدتي، وألوان وروائح الربيع، واحتراق الحطب في الشتاء».

فكرة الترحال عن سوريا نحو أفقه الجديد كانت حاضرة على الدوام: «وكأنّني كنتُ أعرف منذ البدء؛ بأنّني لن أبدأ دراسة وممارسة الموسيقى إلا بعد السفر إلى أوروبا، وهذا ما كان! فمنذ سن الرابعة عشرة بدأت تنمو في رأسي فكرة السفر والعمل داخل الأجواء التي استهوتني في الأفلام الغربية».

غادر الموسيقار السوري حلب فور حصوله على شهادة البكالوريا إلى باريس؛ ليبدأ دراسة الموسيقى في (الإيكول نورمال) حيث استفاد كثيراً من العمل مع صديقه (ضيا سكّري) كما تعلّم الكثير من العمل مع موسيقيين محترفين فرنسيين وعرب ومن بلاد مختلفة، فالتجربة الفنيّة والموسيقيّة ـ كما يقول عنها ـ واحدة برغم تنوعها.

دراسته للموسيقى في باريس لم تشعره بأية غربة؛ حيث استطاع برغم الصعوبات المعيشيّة الكثيرة والفقر أن يجد مكانه في هذه (المدينة العجيبة) ـ كما يصفها: «باريس تركَتْني أجدُ نفسي بنفسي. وفي السنة الرابعة من إقامتي أصدرتُ أول أسطوانة بعنوان (الغناء الجديد للشعراء العرب ـ 1971 ـ إنتاج الشركة الفرنسية ـ Le chant du monde). وكانت هي الأسطوانة الأولى التي صدرت في أوروبا باللغة العربية».

بين حلب وباريس كانت رحلته تغتني يوماً بعد يوم فتتغلغل مساراتِ بحثها في تأملاتٍ مطوّلة، لتكوين وعي جديد بالموسيقى التي كان يصبو إلى تحقيقها؛ بعيداً عن السائد في المكتبة الموسيقية العربية؛ ليمضي (عازرية) بعدها وقته كاملاً في العمل على نفسه: «كنتُ أجهلُ اللغة الفرنسية قبل وصولي إلى باريس، فأمضيتُ غالبية الوقت في أمرين، الأول تعلّم وإجادة اللغة الفرنسية من ناحية، التي استطعتُ من خلالها التواصل مع الكثير من ثقافات العالم، ومن ناحية ثانية؛ اكتشاف الموسيقى الغربية بتشعباتها وكذلك موسيقى الشعوب، ونهمي المستمرّ في هذا الاتّجاه هو الذي جعلني أعشق عن قُرب الكثير من الموسيقات، وساعدني أيضاً أن أجد مسافة بيني وبينها».

الشعر

منذ وصوله إلى العاصمة الفرنسية عام 1967، كانت زوّادته الموسيقية فقيرة للغاية؛ لكن جعبته من الشعر العربي، قديمه وجديده، كانت مليئة؛ فبدأ شيئاً فشيئاً وعلى مدى ساعات طويلة كلّ يوم العمل على مَوْسَقَة بعض أشعار أدونيس وخليل حاوي ومحمود درويش؛ إلى جانب عمله المتواصل على دراسته: «كان ضيا سُكّري، الموسيقي الأوّل الذي شجّعني على ألحاني عن حق، ولمّا زارني في بيتي واستمع إلى أولى القصائد ملحّنةً، عرض عليّ العمل معي وتولّى القيادة الموسيقيّة. أحسستُ في تلك الأيّام أنّني وُلِدْتُ لأقوم بتلحين الشعر واللغة العربية».

السهروردي وعمر الخيام وابن عربي وأدونيس والمعّري وطرفة والمتنبي وأنسي الحاج والشعراء الأندلسيون؛ جميعهم عمل الفنان السوري على نصوصهم؛ مقدّماً إياها في قالب لحني جديد للغاية؛ فالشعر العربي عبر موسيقى (عازرية) حاول أن يؤسس لعلاقة جديدة بين الفنان والمتلقي؛ ليؤلف ويغني حتى الآن عشرين أسطوانة في هذا السياق، كل نصوصها لم تُكْتَبْ أصلاً لِتُغَنّى ـ كما يخبرنا: «بتلحيني لها وغنائها أسعى حتماً، وبطريقة غير مطروقة، أن أقيم علاقة جديدة، بقوالب غير معروفة في السّابق، بين العمل الفنّي والمُستمِع. وهذا النوع من العمل الجديد يحتاج أيضاً لمُسْتمِع جديد وأذن جديدة لها مصادرها الفنّية والموسيقية حتّى تستطيع أن تواكب العمل الفنّي وتستمتِع إليه بمقوّماته كافّة».

تمكنت موسيقى عابد عازرية وطريقته الخاصة في أدائه لها من جذب إعجاب فنانين وأدباء كبار ومختلفين من مثل: (يهودي منوهين، جون كيل، جون آدامز، ليونار كوهن، كايتانو فيلوسّو، أستور بياتزولا، ديفيد بيرن، جيف باكلي، بيتر سيلارز، رينيهشار). حيث استطاع من خلال جولاته الفنية التي دعي إليها في مختلف العواصم الأوروبية والأميركية؛ أن يشكّل جمهوراً عريضاً لموسيقاه، من السويد إلى فرنسا، ومن الولايات المتحدة الأميركية إلى إيطاليا واليابان؛ وجد هذا الجمهور عبر ألحانه شخصيةً عالمية لموسيقى عابرة للأديان والأعراق؛ ساعده في ذلك انعتاقه من الهُنا والهناك؛ ودرْبته الكبيرة في تدوين الشعر العربي موسيقياً وكتابته من جديد لآلات الأوركسترا؛ ناقلاً القصيدة العربية من أشكالها الأدبية إلى قوالب لحنية درامية شيقة، لتكون ملاذاً للقافية العربية ولخروجها على أوزانها القديمة؛ واضعاً بذلك الكثير من تلك المؤلفات في متناول عشرات الباحثين في أكاديميات الموسيقى في العالم؛ مما كرّس تجربة هذا الفنان؛ فكان لها كبير الأثر في إغناء فكر موسيقي خارج النزعة الاستشراقية التقليدية.

(للصغار فقط (بصوت الأطفال) ـ CDA 1989) كانت اسطوانته التي تبعتها الكثير من الاسطوانات التي عملت على اكتشاف الطاقة المخبوءة في جسد القصيدة العربية؛ لتأتي اسطوانته (توابل ـ Nonesuch/Warner ـ 1989) التي حازت على جائزة: CHOC du Monde de la Musique مجلة لوموند الموسيقى) بينما كانت اسطوانته المعنونة (نصيب) مع بيدرو أليدو عام Harmonia mundi ـ 1994) أندلسية الهوى؛ ففي هذا العمل كان لقاؤه الحقيقي مع موسيقى الفلامنكو والموسيقى الأسبانية؛ إذ عمل في هذا الألبوم المقتبس من الموشحات ومن القصيدة الأندلسية؛ على استحضار ثقافتين، عربية وإسبانية، مزاوجاً بين الغناء وتقاسيم الغيتار والإيقاعيات والأكورديون والوتريات المجتمعة في الثلاثي الوتري والآلات الشرقية.

قدم بعدها (عازرية) العديد من الأعمال كان أبرزها: (لازورد Columbia/Sony ـ 1995) و(عمرالخيام ـ 1999 Columbia/‬Sony) و(فينيسيا مغنّاة بلغة مدينة البندقية ـ Harmonia Mundi 2000) و(أغاني الحب والنشوة ـ أسطوانتان ـ تسجيل حيّ في راديو فرنسا عام Harmonia Mundi ـ 2005) و(صوفيّة ـ عن قصائد صوفية من القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر 2007).

إنجيل يوحنا

عام 2009 وقف (عازرية) على مسرح دار الأوبرا السورية بدمشق؛ مقدماً العرض الأول لعمله الأوبرالي الضخم (إنجيل يوحنا) برفقة (أوركسترا شباب البحر الأبيض المتوسط) وعبر تعاون فني بين موسيقيين سوريين وفرنسيين؛ بقيادة المايسترو الفرنسي (آلان جوتار) وبصحبة جوقة ضمت وقتها خمسة عشر مغنيّاً ومغنية: «هذا العمل كان بمثابة الحلم الذي راودني لسنوات عديدة، ولذلك اشتغلتُ وقتها طويلاً على النص الكامل للإنجيل؛ وقمتُ بإعداد ثلاثين صفحة من أصل مئتي صفحة؛ حافظت فيها على روح النص من دون المساس بشعريِّته العالية؛ فالإنجيل يُعتبر من النصوص المؤسسة لثقافة البحر المتوسط وإذا حذفت التاريخ الثقافي لمصر وبلاد الرافدين والمتوسط فلن يبقى شيء للحضارة الإنسانية؛ وإذا حذفت الحرف والرقم والصفر (الاختراع الكلداني العظيم) إضافة إلى الأديان السماوية الثلاثة، فهذا سيلغي باخ ودافنشي ومايكل آنجلو من الثقافة الغربية».

حاول (عازرية) من خلال (إنجيل يوحنا) أن تأخذ الجوقة دور السوليست، مقدماً الجانب الاحتفالي من خلال وجود التخت الشرقي؛ وعبر 46 حركة قسمها إلى قسمين، الأول افتتحه بمؤلف موسيقي للأوركسترا، ثم حوار بين المغنين والآلات الموسيقية؛ منتصراً لشكل المسرحية الغنائية /الأوراتوريو/: «عملتُ على ذلك لشعوري أننا لم نقدم على مدى قرن من الزمن أي نوع من هذا الفن، حتى في تلك المسرحيات التي كتبها سيد درويش؛ ووصولاً إلى الرحابنة؛ لم أجد أي أثر للمسرحية الغنائية، بل كان هناك حوار يتلوه غناء؛ ففي المسرحية الغنائية الأصيلة لا وجود للحوار غير الملحن».

أسطوانته الأخيرة جاءت عن أشعار الفارسي (حافظ الشيرازي) و(الديوان الشرقي) لغوته بعد كوكبة من الأعمال التي عمل فيها على نبش النصوص وتقديمها في حلة موسيقية مغايرة لما هو سائد في الموسيقى العربية: «تعود قراءتي للديوان الشرقي لغوته، لسنة 1974؛ كنتُ يومها في القاهرة، وحصلتُ على نسخة باللغة العربية من تحقيق عبد الرحمن البدوي، وبرغم قراءتي السريعة يومها، أدهشني الكتاب وأدهشني غوته الألماني ودعوته للعودة إلى قِيَم الشرق القديم والى حافظ الشيرازي. لكن وبعد مضي أربع وثلاثين سنة وبعد قراءتي لشعر (حافظ) مُقْتَبَساً بالعربية؛ وجدتُ نفسي وجهاً لوجه مع الشاعرين في الأرجنتين! فوضعتُ موسيقى على أوزان (التانغو) المعاصر لتجمع بين (حافظ) و(غوته). فجاءت نصوص (حافظ) بالعربية ونصوص (غوته) بالألمانية مع أربع موسيقيين أرجنتينيين. شاركني في غناء قصائد غوته المغني الباروكي (جان كوبو jan Kobow).

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى