«عاصفة الحزم» ولا نسمة نجاح هذه أمة تنتسب إلى الفشل
حرب أخرى بدأت باسم «عاصفة الحزم»، بقيادة المملكة العربية السعودية. أما بعد: هذه أمة تنتسب إلى الفشل.
قرن كامل من الركام. ركام يكنس ركاماً.
المكاشفة ليست مفيدة، المراجعة غير ضرورية، أخذ العبرة غير متاح… لا شيء يشي بألفباء جديدة، لقراءة «تاريخ المستقبل العربي». الكلام، ليس عن الماضي فقط، بل عن الآتي من الأيام. أيام، بطول دهر، من صناع الفشل وتكديس الخسائر وتأبيد الخراب.
لا ضرورة لإضاعة الوقت في الكلام عن «مئة عام من الفشل». العناوين وحدها تؤصِّل العرب في تراث مدامنة ومعاقرة الفشل: فلسطين الأولى، أضاعها أجداد وآباء من ورثوا الحكم وأقاموا فيه حتى الساعة. فلسطين الثانية، خسرها العرب بأيام، بعدما كانت حروبهم اليمنية استنزافا، وحروبهم اليسارية انتهازية. الكفاح المسلَّح، قاتلته إسرائيل وقتلته الأنظمة، الانتفاضة الأولى وُئدت في أوسلو، والثانية قتلت بلا مكافأة… ثم، تسأل عن فلسطين؟ لا جدوى من ذلك. فلسطين احتلتها إسرائيل، والأنظمة اعتقلت الفلسطينيين وجعلت من القضية رأسمالا كلاميا تصرف منه الأقوال، للطعن بأفعال المقاومة.
لا سبب يدعو إلى تذكر الوحدة العربية. ما قيل عن المؤامرة الخارجية ضد وحدة الكيانات والدول العربية، تسعة أعشاره كذب. الوحدة، قتلها الوحدويون، فتك بها أهلها، أحزاباً وجنرالات وعسكراً… وما قيل عن البدائل، نجح في تكريس القطرية والكيانية والحزبية والسلطة بديلاً.
لا دولة، في هذه الأرض العربية المترامية الأطراف، فقط سلطة، والسلطة إما موروثة من زمن الاستعمار، أعطيت لعائلات تتناسل أولاداً وأحفاداً وأمراء وسلاطين وملوكا، وإما مغتصبة بانقلاب، يرثه انقلاب، يدعَّم بعسكر وأمن وخنق أنفاس.
لا «ربيع» عربياً. الربيع الذي اندلع في تونس، حوَّلته أنظمة الاستبداد الملكي، وأنظمة الثكنة العسكرية «الجمهورية» والحزبية والدينية والمذهبية، إلى «حروب الجميع ضد الجميع».
أمة تصنِّع الفشل وتجوِّده. كل خسارة ترثها خسارة أفدح. حروب العرب (في آخر لحظة) مع إسرائيل، خسرها العرب جميعاً، حتى تلك التي كان الظن أننا ربحناها. خيار الأنظمة واضح. بين البقاء في النظام وفلسطين، البقاء أفضل، بل مقدس. لا قضية، وطنية أو شعبية أو إنسانية أو قومية تعلو قضية البقاء في السلطة. يتساوى في ذلك من ورث السلطة بصك من الخارج، ومن استحصل على صك البقاء والتوريث بصك القمع والقتل. لذا، كانت العقيدة الفاضلة لدى الأكثرية، تقوم على اعتبار العجز في مواجهة إسرائيل، قاعدة ذهبية لتبرير القعود عن دعم القضية الفلسطينية. ولا مرة كانت فلسطين موجودة، خارج الخطاب الرسمي الكلامي. ولا مرة كانت الشعوب موجودة، لا تلك المملوكة ولا تلك الملتمة في جمهورية.
أمة مستعدة أن تذبح نفسها، لتنجو من واجب التضامن والتفاهم والتوحد، ومن متطلبات الحرية والديموقراطية والتنمية وتوزيع الخيرات، بدل توزيع البؤس. استبدل العداء لفلسطين، بـ «عداء الأخوة» الأقرباء، أو بعداء البعداء.
هكذا، تحارب الوحدويون، ثم تحارب الحزبيون النازلون من أرومة حزبية واحدة، (العراق وسوريا، في زمن صدام حسين وحافظ الأسد). تعادوا إلى درجة لا يمكن فهمها، إلا إذا فهمنا الستالينية والمادية في الخارج، والستالينية والماوية في الداخل. حرب الأخوة هذه؟ بل حرب الأعداء الأبديين… ماذا عن حروب ملوك القبائل والعوائل؟ حرب اليمن الأولى، بعد إطاحة الإمامة فيها؟ ثم حروب التدخل والإخضاع والاستتباع؟ ماذا عن حروب الاجتياحات، بقيادة صدام، وحروب الأوهام بقيادة القذافي، وحروب الحدود «المقدسة» بين المغرب والجزائر، والبوليساريو بينهما؟ ماذا عن حروب السودان، وحروب الأنظمة ضد المقاومة؟ ماذا عن حروب لبنان لخمسة عشر عاماً؟
هذه أمة تنجب عباقرة الحروب الانتحارية الفاشلة.
لم تنجُ دولة من حرب فيها، أو من حرب افتعلتها أو من حرب تدخّلت فيها أو من حرب سلحتها أو من حرب موّلتها… باستثناء ما له علاقة بفلسطين.
حروب بلا قضايا: حرب على إيران، بقيادة صدام حسين ودعم وتأييد وتمويل وتسليح خليجي. حرب على ثورة أعلت شأن فلسطين، وقدمت لها سفارة، كموطَأ ديبلوماسي وسياسي. حرب حزب تعاقد مع ملوك وسلاطين وأمراء. خسارة مدوية، ولم يدفع ثمنها أحد، غير العراق. دول الخليج، حمتها أموالها وأساطيل الحماية الغربية والأميركية تحديداً.
حروب مجانية، ولا مجال لتعدادها، انتهت كلها إلى فشل. آخر هذه الحروب، تلك التي اندلعت في العراق وفي الشام وفي ليبيا وفي الصومال وفي السودان وآخرها… هذه التي تدمر اليمن، بلا انتصار.
لا جديد حتى الآن. المحور الإيراني في مواجهة المحور السعودي. ولإيران حلفاء وللسعودية حلفاء. كانت القضية الفلسطينية، هي العلم الذي تحمله الثورة الإيرانية، فلما اندلعت الفتن، بعد اغتصاب «أحلام الربيع العربي»، تراجعت فلسطين ميدانياً، لمصلحة المذهب والطائفة. فحلفاء إيران، شيعة كل الأمكنة، وحلفاء السعودية، سُنَّة معظم الأمكنة. لا عروبة، لا قومية، لا فلسطين، لا أحد في الساحة، غير هذا الهياج المذهبي العظيم، من المحيط إلى الخليج.
إنها الحروب الفاشلة، ولقد كان ذلك متوقعاً من زمان. نحن في لبنان عرفناه. احتضنت الأحزاب القومية والوطنية واليسارية والاشتراكية القضية الفلسطينية. كانت البيرق المحمول والبندقية الملتحمة مع الكفاح الفلسطيني المسلّح. ولما اندلعت الحرب، ضد المقاومة ومن معها، من منطق طائفي، غرق الكفاح المسلّح كله، في زواريب الطائفية في لبنان… انتهت المعارك، بخروج الفلسطينيين من لبنان، وإقصاء الأحزاب القومية العلمانية الوطنية، صاحبة البرنامج الوطني القائم على المواطنة. وربحت الطوائف والمذاهب، وكان اتفاق الطائف تتويجاً لذلك. لم يحضر إلى الطائف غير الطوائف… وها هو لبنان يعيش مأزقه وفشله.
ما قاله السيد حسن نصرالله في تفسيره لعزوف الأنظمة العربية عن فلسطين، صحيح وحقيقي. هذه الأنظمة ضد شعوبها، وضد الحرية وضد العدالة، ولم تكن يوماً مع فلسطين، ما لم يقله السيد، إن افراغ القضايا من الشعوب العربية، عملية ساهمت فيها أنظمة ملكية، وأنظمة جمهورية معاً. أفكار وعقائد وشعارات القوى المؤمنة بالدولة وبالديموقراطية وبالحرية وبالعدالة، اعتُقِلت ونُكل بها وأُقصيت، ثم دُجنت ووظفت في النظام، كل تلك تم القبض عليها، لمصلحة أنظمة بوليسية فاسدة، بما فيها تلك التي حملت شعار فلسطين… افراغ الساحة من وطنييها الكثر، بالقوة الغاشمة، شرع الأبواب امام الانتماءات الدينية وتسييس هذه الانتماءات.
صحيح ما قاله السيد، من ان السعودية وأنظمة الحكم التي تشبهها، تعاملت مع الأنظمة العربية، من خلال عمليات شراء واغراءات، طمعاً بنفوذ، أو حماية لحدود، أو منعا من تسرب أفكار وعقائد، صحيح ان دعمها جاء إما لقيادات أو تيارات، أو قوى، بشروط سياسية سعودية تارة، وبشروط وهابية تارة أخرى. إنما، والاهم من ذلك، أن الفراغ الذي خلقته الأنظمة الاستبدادية، مهّد الأرضية، لحراك سياسي أو اجتماعي، بقاعدة طائفية.
المظلومية العامة التي تعرضت لها الشعوب العربية من حكامها وانظمتها، لم تجد من يعبر عنها، بعد تدمير الأحزاب والنقابات والاعلام وبعد أسر الحرية إلى الأبد. فلما حضرت الثورة الإيرانية، باسم المظلومية لتنتصر العدالة، وفق فقه السماء، وجدت أرضاً خصبة، لدى الشيعة… لم يكن المظلومون شيعة في البلاد العربية. المظلومية شعبية، التعبير عنها شعبياً ممتنع أو ممنوع. التعبير عن المظلومية مذهبياً، بات متاحاً، بدعم من إيران. فاقترنت الثورة الإيرانية الشيعية، بتأييد شيعي وتمدد شيعي، إضافة إلى شرائح فلسطينية وجدت في إيران داعماً وظهيراً قوياً.
طبيعي، في هذا السياق، ان يكون الشيعة حلفاء إيران، يواجههم السنة، بقيادة السعودية، ومن معها، في مواجهة هذا الحلف أو المحور الحرب السورية لم تنتهِ بعد. هي حرب طائفية ومذهبية وما بين المذاهب ذاتها. لا صوت يعلو فوق صوت التكفير المتبادل.
الحرب العراقية لم تنتهِ بعد. هي حرب تتداخل فيها المذهبية والاتنية والعشائرية. وفي كلتا الحربين، تقف إيران ومعها الشيعة والعلويون. الحرب الجديدة في اليمن، هي التظهير الأخير، لهذه الحرب ما بين أهل السنة وآل البيت، في القرن الحادي والعشرين… وفي مثل هذه الحروب، لا يحل غير الخراب والدمار والركام… ولا تعود القضية هي الأساس، بل تصبح القضية كلها، معركة وجود أو لا وجود… وهنا الكارثة العظمى… حدث في قرن عربي، أن تحارب السنة والشيعة في بغداد والحلة، لتسعة وتسعين عاماً، ولم ينتصر أحد.
اليمن أمام خيارات حربية. حرب تدمير لقواه وبناه التحتية، دعماً لأطراف مناوئة للحوثيين وألوية علي عبد الله صالح (يمكن ان يتراجع إذا قبل تراجعه)، وحرب مقاومة ميدانية واجتياحات وخروقات، في ظل فقر وبؤس ومأساة.
تريد السعودية، يمنا تابعاً تحت هيمنتها. ومن كان يظن ان السعودية بلا أنياب، مخطئ جداً، ولا يعرف قدراتها في الحروب، حروب الآخرين (الكونترا) وصولاً إلى حروب صدام، بلوغاً إلى… اليمن خاصرة السعودية. مخطئ من كان يعتبر ان اجتياحات الحوثيين وعلي عبد الله صالح، ستبقى بلا رد صاعق. تريد السعودية تأمين أمنها الداخلي، من خلال تصليب حدودها الخارجية. «درع الجزيرة» نموذج ناجح في وأد «ربيع البحرين»، السلمي إلى درجة ما فوق الاحتمال. طموحها، أن تسقط نظام الأسد، بالقوة العسكرية، وعبر دعم «النصرة»، بعد اغرائها بالاستقلال عن «القاعدة»، ودعم معارضات عسكرية بأسماء إسلامية سنية.
وعليه، فإن أعداء السعودية هم وفق التسلسل التالي:
إيران أولاً، وكل من معها ثانياً أكان في سوريا أم في اليمن أم في لبنان.
«القاعدة» أقل خطورة من إيران. وهذا ليس جديداً. غضب السعودية كان كبيراً على الحليف الأميركي، بسبب مفاوضات النووي، يكاد يتساوى مع غضب نتنياهو.
هذه أمة تنتسب إلى الفشل.
بل، هي أمة لا تنسل إلا الفشل.
ابلغ الأدلة، ان انتصاراً يتيما تحقق ضد إسرائيل في لبنان بقيادة مقاومته، انقضَّت عليه الأنظمة والطوائف والمذاهب لإغراقه في حروب لا تنتهي.
… وكما في السابق، ستفشل حرب السعودية في اليمن، ولكنها ستنجح في تدميره… انها حضارة الركام. انها «عاصفة الحزم» ولا نسمة نجاح.
صحيفة السفير اللبنانية