عامُ «الفتوحات» التركية: مِن ليبيا إلى القوقاز
بعد توقيع الاتفاقية التاريخية بين أنقرة وحكومة فائز السراج في طرابلس الغرب في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، سيجيز البرلمان التركي للحكومة إرسالَ قوّات إلى ليبيا لتطأ قدما أوّل جندي تركي التراب الليبي مطلع عام 2020، للمرّة الأولى منذ عام 1918، تاريخ خروج تركيا النهائي من شمال أفريقيا والمشرق العربي.
اتفاقية تميّزت بكونها قلبت توازنات القوّة في ليبيا وفي شرق المتوسط رأساً على عقب. فاتفاقية ترسيم حدود المنطقتَين الاقتصاديتَين المحصورتَين في البحر بين الطرفَين، أربكت الاتفاقيات التي كانت عقدتها ثنائياً أطراف منتدى غاز شرق المتوسط، ولا سيما تلك التي كانت اليونان وقبرص اليونانية طرفاً فيها. أما الاتفاقية العسكرية بين أنقرة وطرابلس، فأتاحت لتركيا إرسال قوّات عسكرية مع عتادها البحري والبري والجوي إلى هذا البلد، حيث ستنقلب موازين القوى. وبعدما كانت العاصمة الليبية على وشك السقوط بأيدي قوّات اللواء خليفة حفتر المدعوم من مصر والسعودية والإمارات، لعبت الطائرات التركية من دون طيار وتلك المسيّرة دوراً حاسماً في إبعاد الخطر عن طرابلس، والتقدّم وصولاً إلى خط سرت – الجفرا، لتسيطر على النصف الغربي من ليبيا، ولم تتوقّف إلّا بعد إنذار وجّهه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، يحذِّر من أن الخطّ المذكور يمثّل خطاً أحمر بالنسبة إلى القاهرة. وعلى رغم أن المسار السياسي اللاحق في ليبيا خلق إرباكات لتركيا، لكن وجودها وتأثيرها هناك، لا يزال ثابتاً، وهو ما أكّده وفد تركي عسكري رفيع المستوى برئاسة وزير الدفاع زار هذا البلد في نهاية العام الفائت.
شكّل التدخل العسكري التركي في ليبيا تحدّياً وتهديداً للدور المصري والسعودي والإماراتي في هذا البلد. وهو تدخلٌ يرتدي أهميّة كبيرة بالنسبة إلى أنقرة، خصوصاً أن ليبيا تعتبر بوابةً الأتراك إلى قلب أفريقيا. وفي ذلك رسالة إلى فرنسا التي تواجه تحدّي التغلغل التركي في دول جنوب الصحراء ووسط أفريقيا. وفي ضوء تمدُّدها، منحت الاتفاقية البحرية بين الجانبين تركيا ورقةَ قوّة في مواجهة منافسيها على الطاقة في شرق المتوسط؛ إذ إن حدود الاتفاقية تخترق جانباً كبيراً من المنطقة الاقتصادية لكلّ من اليونان وقبرص اليونانية، وهو ما اعتبرته أثينا انتهاكاً لسيادتها. ونشأ الخلاف بين الطرفين بعد رفض أنقرة التوقيع على اتفاقية البحار لعام 1982، والتي تمنح مساحات بحرية شاسعة لليونان وقبرص. وكان هذا سبباً لتوترات متنقّلة بين البلدان الثلاثة، بعدما أصرّت أنقرة على رفض الاعتراف بحدود المنطقة الاقتصادية لأثينا ونيقوسيا، وأرسلت سفناً للتنقيب عن النفط والغاز الطبيعي إلى مناطق تعتبرها اليونان وقبرص تابعة لهما. إزاء ذلك، حشد البلدان، من وقتٍ إلى آخر، بعض مظاهر القوّة العسكرية، ولا سيما في الصيف الماضي في محيط جزيرة مئيس القريبة جداً من الساحل التركي غربي خليج أنطاليا. كذلك، منعت تركيا بالقوّة العسكرية سفناً أجنبية تعمل لصالح البلدين، من التنقيب عن النفط في بعض المناطق، ما أدّى إلى تدخّل دول الاتحاد الأوروبي وتهديدها بفرض عقوبات على تركيا إن لم تتوقّف عن انتهاك سيادة اليونان وقبرص اليونانية.
وهذا ينقل الحديث إلى تحوّل شرق المتوسط إلى ساحة للتنافس والتصادم بين تركيا من جهة، ودول أوروبية وغربية من جهة ثانية. وتبرز في مقدمة هذه الدول فرنسا التي حاولت أن تواجه النفوذ التركي المستجدّ في شرق المتوسط، من خلال تحشيد دول الاتحاد الأوروبي ضدّ أنقرة، والنزول مباشرة إلى الأرض، كما حصل إبان زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان، عقب انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/ أغسطس، وتحذيره الزعماء اللبنانيين من الخطر الذي يشكّله التحرّك التركي في لبنان. زيارةٌ أعقبتها مباشرةً أخرى لوفد تركي رفيع المستوى برئاسة نائب رئيس الجمهورية فؤاد أوكتاي، ووزير الخارجية مولود جاويش أوغلو. ويمكن القول إن الزيارتين اللتين أجراهما ماكرون لبيروت، فشلتا في تحقيق أهدافهما بتقليص النفوذ التركي في لبنان. كذلك نجحت أنقرة في التصدّي للضغوط الفرنسية عليها، والتي عارضتها غالبية دول الاتحاد، ولا سيما ألمانيا وإيطاليا.
ومن مظاهر «القوّة» التي أرستها أنقرة، يمكن ذكر سقف التحدّي الرفيع الذي رفعه الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في وجه العالم المسيحي، عندما ألغى قراراً عمره 85 عاماً، في اعتبار كنيسة آيا صوفيا متحفاً، ليحوّلها في 24 تموز/ يوليو إلى «جامع آيا صوفيا الكبير». وتميّز حفل الافتتاح بكل مظاهر العظمة والقوّة، حيث خطب رئيس الشؤون الدينية وهو يمتشق سيفاً ينقله من يده اليمنى إلى يده اليسرى، في رسالة ترهيب إلى الأعداء. وقد ضرب الرئيس التركي عرض الحائط بكل التحذيرات والانتقادات الغربية التي سبقت افتتاح الجامع.
حاولت تركيا، في العام المنصرم، أن تسدّ ثغرةَ كونها دولة غير نفطية، من خلال تكثيف عمليات التنقيب عن الطاقة في شرق المتوسط، كما في البحر الأسود. وقد نجحت، في الصيف الماضي، في اكتشاف حقل غاز طبيعي بحجم 320 مليار متر مكعب في البحر الأسود، وهو أكبر اكتشاف تركي حتى الآن. وهي تتطلّع، من خلال ضغطها في شرق المتوسط، إلى اكتشاف حقول غاز ونفط جديدة، إذ لا تستسيغ ألّا يكون لها حصّة من حجم احتياطيات غاز المتوسط المقدّرة بنحو 3 إلى 10 تريليونات متر مكعب، والنفط (1.5 إلى 3.5 مليارات برميل). وفي أسوأ الأحوال، تسعى تركيا إلى إقناع دول منتدى غاز شرق المتوسط، ولا سيما إسرائيل، بتصدير الغاز إلى أوروبا عبرها، بحجّة أنه أقلّ تكلفة لدول المنتدى، فيما يدخل أنقرة في لعبة الطاقة شرق المتوسط، ويبعد شبح العزلة عنها. وعلى رغم أنه يجب عدم النظر في العلاقات التركية – الإسرائيلية من زاوية التعاون في مجال الطاقة فقط، إلا أنها شكّلت عاملاً مهمّاً في تحديد الوجهة المقبلة للعلاقات بين الجانبين؛ إذ ترى تركيا، مثلاً، أن من شأن التوصّل إلى اتفاق مع إسرائيل لرسم حدود المنطقتَين الاقتصاديتَين لكلٍّ منهما، أن يحسّن كثيراً العلاقات بينهما. وفي هذا الإطار، شاع أن أنقرة ستعيّن سفيراً جديداً لها في تل أبيب هو أفق أولوطاش (40 عاماً)، وذلك بعدما أعلن إردوغان، أخيراً، عن «رغبة قلبيّة» في تحسين العلاقات مع الجانب الإسرائيلي. هذه الرسائل بالجملة من جانب تركيا، تهدف إلى أن يكون تحسين علاقاتها مع إسرائيل باباً لتخفيف الضغوط الأوروبية والأميركية عليها، خصوصاً إذا كان الرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، في صدد اتباع سياسات عدائية تجاه هذا البلد ورئيسه.
وفي الانتقال إلى العلاقات التركية – الأميركية، شهد عام 2020 تناقضات متعدّدة، حيث وافق دونالد ترامب، في نهاية عام 2019، على دخول قوّات تركية إلى شمال شرق الفرات في سوريا، ما شكّل بداية التعاون بين إردوغان وترامب. لكن الرئيس الأميركي لم يكن قادراً على وقف ضغوط الحزبين الجمهوري والديموقراطي لمعاقبة أنقرة على شرائها منظومة صواريخ «إس-400» الروسية. وشكلت هذه القضية العقبة الأساسية أمام تطبيع كامل للعلاقات بين البلدين، إذ يُنتظر أن تشهد المزيد من الضغوط في المرحلة المقبلة. كذلك، فإن الموقف الأميركي من دعم أكراد سوريا ممثلين بـ»قوات الحماية الكردية» وحلفائهم، لا يزال عنواناً للخلاف بين الطرفين، بل إن وزير الدفاع التركي، خلوصي آقار، اعتبر أن المشكلة الأساسية بين البلدين هي دعم الولايات المتحدة للإرهاب الكردي، وليس صفقة «إس-400». لكن تركيا لا تزال تستفيد من كونها عضواً في «حلف شمال الأطلسي» لردع القوى الغربية عن التوغّل في عقوبات قاسية ضدّها والاكتفاء بعقوبات «مدروسة».
أما في سوريا، فقد مثّل اتفاق الخامس من آذار/ مارس بين موسكو وأنقرة الحدث الأهم، والذي أنهى موجة اقتتال عنيفة تكبّد فيها الأتراك والمجموعات المسلّحة التي يدعمونها خسائر فادحة على أيدي القوات السورية المدعومة بالطائرات الروسية. لكن الاتفاق أعاد تثبيت الوجود العسكري لأنقرة في معظم محافظة إدلب، حيث استمرت تركيا في إرسال الحشود العسكرية إلى هناك بما بفوق الـ15 ألف جندي وآلاف الدبابات والآليات، فيما لم ينجح الاتفاق في فتح الطريق بين اللاذقية وحلب، كما لم يغيّر شيئاً من واقع الاحتلال التركي المستمر منذ سنوات لعفرين ومنطقة جرابلس والباب وشرقي الفرات. وعلى رغم الحديث عن اجتماعات أمنية بين مسؤولين أتراك وسوريين، لا يمكن التعويل كثيراً عليها، خصوصاً أنها ليست جديدة. فتركيا تجد نفسها مرتاحة في سوريا، حيث تعزّز حضورها العسكري، ولا تزال على عدائها للرئيس بشار الأسد، وليس هناك من يهدّد وجودها، ولا سيما في ظلّ تفاهمات مع الروس تطال أكثر من ملف في أكثر من منطقة في العالم.
وإذا كانت تركيا قد بدأت العام بـ»فتح» ليبيا، فهي أنهته على أفضل ما تكون عليه النهايات: الانتصار الكبير الذي حقّقته من خلال آذربيجان والحرب التي شنّتها على أرمينيا وناغورنو قره باغ. وكما في ليبيا، لعبت المسيّرات التركية دوراً بارزاً في تدمير دفاعات الجيش الأرميني. وجاء اتفاق التاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر بين آذربيجان وأرمينيا، ليتوّج الانتصار العسكري لتركيا بآخر تمثّل في مشاركتها روسيا في مراقبة وقف إطلاق النار في قره باغ، وفي تمركز قوّات تركية في آذربيجان بناءً على طلب الأخيرة، ما يعني حضوراً عسكرياً تركياً للمرّة الأولى منذ عام 1918 في جنوب القوقاز. ولعلّ أحد أهم بنود الاتفاق هو فتح ممرّ برّي بين مقاطعة نخجوان، التابعة لآذربيجان – والمنفصلة عنها جغرافياً -، والأراضي الآذربيجانية، يخترق الأراضي الأرمينية من دون المرور، كما كانت الحال سابقاً، عبر إيران. ومثل هذا الممرّ، يعني فتح خطّ بري من تركيا إلى نخجوان فآذربيجان وصولاً إلى بحر قزوين فتركمانستان وكازاخستان وبقية العالم التركي. وهو ما مثّل للقوميين الأتراك إنجازاً تاريخياً بوصل العالم التركي في ما بين دوله للمرّة الأولى برّاً، ودغدغ أحلام الاتجاه الطوراني في كل من أنقرة وباكو. وفي حين حافظت موسكو على نفوذها في جنوب القوقاز، لكنّها اضطرّت إلى قبول مقاسمة تركيا لها في الكعكة القوقازية التي كانت بكاملها، تاريخيّاً، تحت النفوذ الحصري لروسيا.
على رغم المؤشرات الاقتصادية السلبية لتركيا في عام 2020، والتي ساهمت فيها الضغوط الغربية ووباء «كورونا»، فإن إردوغان يجد في حليفته قطر مصدراً مفتوحاً لتلافي أزمات بلاده المالية. كذلك، فإن السياسات الخارجية للرئيس التركي في ليبيا وشرق المتوسط والقوقاز وحتى إسرائيل، حظيت بإجماع وطني، ولا سيما من جانب «حزب الشعب الجمهوري» المعارض. وهذا ربّما يشجّع إردوغان على مواصلة مغامراته الخارجية في أكثر من منطقة، بما يحقّق ثلاثيّة تركيا الجديدة: الميثاق الملّي، والوطن الأزرق، والطورانية الجديدة.