لا سبيل أمام الدول العربية سوى الاعتماد على ذاتها في مواجهة العدو الإسرائيلي من دون أن يمنع ذلك من الاستفادة من الخلافات التي يمكن أن تدبّ داخل معسكر الخصوم، لكن قبل ذلك يجب التثبت من أصالة تلك الخلافات.
لم يتفطن بعض العرب لدروس الاستعمار حتى اليوم، رغم أن بلادهم كانت على الدوام ميداناً لألاعيب آلة النهب الغربية، فلا تزال بعض عواصم العرب تتوهم إمكانية حل القضية الفلسطينية عبر الفصل بين “تل أبيب” ورُعاتها المُطلين على شمال المحيط الأطلسي.
تأسَّس الكيان الإسرائيلي منذ يومه الأول لخدمة المصالح الغربية بشقيها الاقتصادي والعسكري، ووجوده في منطقة الشرق الأوسط كان كفيلاً لعقود طويلة بإجهاض أي مخطط لتنمية أو وحدة دول المنطقة، إضافة إلى دوره في تحريض الحكومات المرتعشة باتجاه الركوع على أعتاب البيت الأبيض.
أما تدخل واشنطن لردع حكومة الاحتلال على فترات متباعدة، فمرده حرص الإدارة الأميركية، ومن خلفها الحلفاء الأوروبيون، على ألا تؤدي وحشية “جيش” الاحتلال إلى أن تخسر “إسرائيل” تعاطف شعوب العالم والغربيين معها. ومن المعلوم أن “الشعب الإسرائيلي” شيد أسطورته الذاتية في العصر الحديث بناء على أداء دور الضحية.
المسألة الثانية التي تؤدي إلى اضطراب العلاقات هو أن القوى الغربية، بما لديها من خبرة استعمارية أكبر، تُدرك أن التهور في مواجهة الشعوب الواقعة تحت الاحتلال والإفراط في ممارسة الأعمال اللاإنسانية بحقها يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية عبر اشتداد عود المقاومة.
انطلاقاً من تلك الرؤية، يحدث الصدام بين البيت الأبيض واليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يتصرف داخل الأراضي المحتلة بقدر وافر من اللاعقلانية والطيش، بالشكل الذي يمكن أن يُفضي إلى أن تخسر “إسرائيل” بمواجهات عسكرية أكثر في المستقبل القريب، بالشكل الذي يتسبب في ضياع “هيبة جيش الاحتلال” في المنطقة، وهو أمر كفيل بإعلان اقتراب زوال الكيان من دون مبالغة.
“قرصة أذن”.. ومشروع التبني قائم
كانت وسائل الإعلام دولية قد أشارت في مرات عدة إلى حدوث توتر في العلاقة بين إدارة جو بايدن وحكومة بنيامين نتنياهو منذ دخول القوات الإسرائيلية إلى قطاع غزة، رداً على عملية “طوفان الأقصى”، وخصوصاً فيما يتعلق بإدارة للحرب. ومن أبرز الأمثلة على ذلك إصرار نتنياهو على اجتياح رفح الذي اصطدم عدة مرات برفض أميركي قائم على عدم تقبل السيناريوهات التي قد تؤدي إلى تفاقم الكوارث في غزة.
في السياق ذاته، برزت مؤخراً معلومات تتحدث عن إمكانية أن يعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن عن عقوبات ضد كتيبة “نيتسح يهودا”، التي يخدم فيها نحو ألف جندي إسرائيلي، والتي تتبع لواء كفير، ويعود تأسيسها إلى نهاية حقبة التسعينيات، إذ كانت تتكون من جنود من الأرثوذكس المتشددين الذين يعرفون باسم “الحريديم”، وكانت تحمل اسم “ناحال حريديم”.
وترجع العقوبات الأميركية المتوقعة إلى انتهاكات لحقوق الإنسان ارتكبتها الكتيبة الإسرائيلية داخل الضفة الغربية قبل أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وبالتالي ستكون هي المرة الأولى التي تفرض فيها الولايات المتحدة عقوبات على كتيبة عسكرية إسرائيلية. ومن المفترض أن تتسبب العقوبات في منع الكتيبة من تلقي أي نوع من المساعدة أو التدريب العسكري الأميركي بموجب القانون الأميركي الصادر عام 1997.
على صعيد مقابل، وفي الوقت الذي تبرز الأخبار الدالة على النزاع الأميركي الإسرائيلي، يُجيز مجلس النواب الأميركي، مطلع الأسبوع الجاري، حزمة مساعدات بقيمة 17 مليار دولار لمصلحة “إسرائيل” بهدف تعويض النقص في نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي وتوسيعه وشراء أنظمة أسلحة متقدمة.
ولعل تلك المساعدات الأميركية العاجلة تدحض ما أثير عن كفاءة نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي في التصدي للصواريخ والمُسيرات الإيرانية، وأدل شيء على العجز الإسرائيلي هو مسارعة الولايات المتحدة لنجدة “إسرائيل” عبر تخصيص هذا المبلغ الضخم لتطوير قدراتها الدفاعية.
وكانت واشنطن قد أقرت في شباط/فبراير الماضي حزمة مماثلة من المساعدات لحكومة الاحتلال بقيمة 14.1 مليار دولار، في الوقت الذي أقرت نحو 60 مليار دولار لدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، بالشكل الذي يكشف عمق الرابطة بين الحروب التي تديرها أميركا في مناطق مختلفة من العالم.
وفي إشارة أخرى إلى أن الخلافات لا تتعدى كونها زوابع في فنجان، فإن الخبراء العسكريين يؤكدون أن العقوبات المتوقعة على “نيتسح يهودا” لن تكون مؤثرة بأي شكل في قدرات “الجيش” الإسرائيلي الذي لا يزال يحظى إجمالاً بدعم أميركي مطلق.
جميع ما سبق يؤكّد أن تبني واحتضان المعسكر الغربي لـ”إسرائيل” هو أمر قائم لا محالة، لأنه يستند إلى مصالح مادية فوق العامل الأيديولوجي أو الديني، وأن ما يحدث بين حين أو آخر لا يتخطى كونه “قرصة أذن” تستهدف إصلاح ما يخربه الابن الضال. وفي النهاية، يكون القصد هو “تقويم الصبي وصلاحه”.
مأزق الاقتصاد الإسرائيلي وحتمية الدعم الأميركي
بحسب المكتب المركزي للإحصاء، يكون الاقتصاد الإسرائيلي قد انكمش بنسبة 21% في الربع الأخير على أساس سنوي مقارنة بالربع الثالث. وقد جاء ذلك في آخر تقرير للمكتب صدر نهاية الأسبوع الفائت. يأتي ذلك بعد انخفاض 19.4% في التقدير الأولي الذي تم تعديله الشهر الماضي بالانكماش 20.7%.
هذا التراجع الاقتصادي يؤكده خفض وكالة ستاندرد آند بورز غلوبال لدولة الاحتلال من AA- إلى A+ وسط المخاطر الجيوسياسية المرتفعة بالفعل بالنسبة إلى “إسرائيل”، وخصوصاً مع الضربة التي وجهتها طهران إلى الأراضي المحتلة في ليل 13 نيسان/أبريل وحتى فجر اليوم التالي.
ويتوقع الخبراء الاقتصاديون أن يتسع العجز الحكومي العام داخل “إسرائيل” إلى 8% من الناتج المحلي الإجمالي في 2024، ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى زيادة الإنفاق على المعارك الدائرة في قطاع غزة أو ضد كل المحاور القتالية المحيطة بكيان الاحتلال.
رغم كل تلك الصعوبات، فإن أشد ما يثير قلق الإسرائيليين هو الحديث عن حالة الضبابية التي بدأت تهيمن على كل مجالات الاستثمار، وخصوصاً مع قرار “بنك إسرائيل” المركزي الإبقاء على سعر الفائدة عند 4.5%، وحديث قياداته عن غموض المشهد بسبب الحرب المستمرة منذ أكثر من 6 أشهر مع فصائل المقاومة داخل قطاع غزة.
هذا الوضع غير الآمن الذي يعيشه الاقتصاد الإسرائيلي، القائم بالأساس على المنتجات التكنولوجية، يدفع “تل أبيب” بدرجة أكبر إلى الاعتماد على الدعم الأميركي، ويحرّض إدارة بايدن على تقديم مزيد من العون لحكومة نتنياهو، حتى لا تغرق “إسرائيل” في وحل الأزمة الاقتصادية، وبالتالي يذبل النموذج الذي روج له الغربيون باعتباره “أسطورة الشرق الأوسط”!
حتى تشرين الأول/أكتوبر 2023، شاع الحديث بين المشرعين الأميركيين عن ضرورة “فطام إسرائيل”، وأن الأوان آن لكي تعتمد على ذاتها بعدما أصبحت دولة غنية تتمتع بواحد من أكثر الجيوش تقدماً، وذلك على عكس وضع “إسرائيل” أثناء الحرب الباردة أو في مرحلة التأسيس. وقد نادى بذلك أشخاص بارزون في المجتمع الأميركي، مثل ستيفن أ. كوك، في مجلس العلاقات الخارجية والسفير الأميركي السابق لدى “إسرائيل” مارتن إنديك.
لكنَّ مثل تلك الدعوات تهاوت مع “طوفان الأقصى” الذي أثبت هشاشة المجتمع الإسرائيلي، وأصاب اقتصاد دولة الاحتلال في مقتل، وخصوصاً مع اشتباك ساحات محور المقاومة في الحرب وتوجيه صواريخها إلى داخل الأراضي المحتلة.
الرهان على الذات
لا سبيل أمام الدول العربية سوى الاعتماد على ذاتها في مواجهة العدو الإسرائيلي من دون أن يمنع ذلك من الاستفادة من الخلافات التي يمكن أن تدبّ داخل معسكر الخصوم، لكن قبل ذلك يجب التثبت من أصالة تلك الخلافات، وإلا يكون الأمر برمته بلا جدوى.
على المستوى الرسمي داخل الولايات المتحدة وفي أغلب العواصم الأوروبية، سيكون الخيار دوماً هو احتضان “إسرائيل” وتقديم المساعدات لها، ومن ثم فإن الرهان على اضطراب العلاقات أمر غير مُبرر. في المقابل، يمكن الرهان على الشعوب، وخصوصاً الأجيال الجديدة التي بدأت تقف على طبيعة “إسرائيل” العدوانية، بفضل ثورة الإعلام الحديث والدور الكبير للجاليات العربية والإسلامية في الخارج.
في الولايات المتحدة الأميركية ذاتها، صار الشباب هم الفئة الأكثر انتقاداً للمساعدات التي يتم منحها لـ”جيش” الاحتلال. وبحسب إحصاء مجلس العلاقات الخارجية، فإن أكثر من 65% من المراهقين والشباب أقل من 30 عاماً يعارضون تقديم المساعدات أو لا يستطيعون تحديد موقفهم منها.
لعقود طويلة، كانت “إسرائيل” أكبر متلقٍ تراكمي للمساعدات الخارجية الأميركية، إذ تلقت نحو 300 مليار دولار (معدلة بحسب التضخم) من إجمالي المساعدات الخارجية، كما قدمت الولايات المتحدة مساعدات اقتصادية كبيرة لمصلحتها في الفترة الممتدة ما بين 1971 و2007، لكي تضمن لها التميز الاقتصادي مقارنة بغيرها من الدول.
على المستوى العسكري، كان التفوّق النوعي لأسلحة وتدريبات “الجيش” الإسرائيلي بمنزلة العمود الفقري للمساعدات العسكرية الأميركية. وقد تم تكريسه رسمياً في القانون الأميركي عام 2008، إذ يكون مطلوباً من الحكومة الأميركية “ضمان قدرة “إسرائيل” على هزيمة أي تهديد عسكري تقليدي تقوم به دولة منفردة أو تحالف أو جهات غير حكومية، مع تكبد الحد الأدنى من الأضرار والخسائر”.
كل تلك المعطيات تؤكد أن الولايات المتحدة “استثمرت” في “إسرائيل” منذ أن كانت أول دولة تعترف بحكومتها المؤقتة عند التأسيس عام 1948، وتكشف عمق الصلات بين واشنطن و”تل أبيب”. وبالتالي ترسخت ثوابت تحكم العلاقة، ولا يمكن لأي من الطرفين تخطيها من دون أن ينفي ذلك وقوع النزاعات.
هذا بدوره يؤكد أن الخيار الوحيد أمام العواصم العربية والإسلامية هو التركيز على تنمية قدراتها الذاتية عبر التحالف مع مراكز القوى الدولية الناشئة التي تطمح إلى التخلص من الهيمنة الغربية، ثم توظيف أي مستجدات تقع في جبهة الخصوم لمصلحة خدمة قضيتهم الأبرز، المتمثلة في تحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة.
الميادين نت