عبدالله المتقي: فانتازيا الحياة والموت في”نزلاء العتمة” لزياد مـحمد محافظة

 

نزلاء العتمة” هي الرواية الثالثة في ريبورتوار القاص والروائي الأردني زياد محمد محافظة، حائزة على جائزة أفضل كتاب عربي في مجال الرواية للعام 2015، يمعرض الشارقة الدولي للكتاب ، صدرت مؤخرا في طبعتها الثانية عن  دار فضاءات للنشر بعمّان، في  صفحة من القطع المتوسط تنفتح الرواية في صفحتها الأولى على مشاهد تراجيدية، تمتلئ بالدهشة والقلق والخوف: “لست ابحث عن موت باهت، فحتى الموت أحب أن يكون شهي المذاق”، “لف رداءة الصوف على كتفيه ، ولملم شموعا تذوب قربه بخجل، ثن عد ليتمدد في برودة القبر”، “أحس، وهو يحشر نفسه في المستطيل المعتم، أن المكان قد ضاق عليه قليلا، امتلأ جسده عما كان عليه حين وري الثرى عصر يوم ممطر”.

تكشف هذه المقاطع السردية على عوالم  جنائزية تضج بالعجائبية في ذروتها ، حيت الموت في الحياة، والحياة في الموت، في قالب ضدي غاية لعبه الإصرارٌ المهولٌ على الحياة رغم أنف الموت.

تتحدث  رواية “نزلاء العتمة”، عن معتقل سياسي اسمه مصطفى يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت التعذيب بتهمة قلب النظام ، وينتقل من الحياة إلى عالم الموت مخلفا وراءه زوجة حاملا والكثير من الذكريات الموجعة  التي عاشها تحت كرباج الجلاد وعتمة الزنزانة وتفاصيل التعذيب التي تعرض لها من ضرب وركل  وتنكيل وأساليب نفسية جارحة .

وفي عالم المقبرة  سيعيش مصطفى طقوس المقبرة ويربط علاقة مع موتاها ، كما سيعيش طقوس استقبال الموتى الجدد ، فيتعرف إلى الشخصية الرئيسية في ذلك العالم وهو الفضيل قائد الأموات والأب الروحي، الذي سيعطف عليه ويزرع الطمأنينة في قلبه، بل سينحاز إليه حين اختار الحياة والضوء في المقبرة، حيث شرع مصطفى في إعادة إخراج  حياة الموت بالشعر والموسيقى والشموع  ،  بالرغم من مقاومة بعض الموتى لتغيير هذه الأجواء والتي يدافعون على بقائها كما هي وعلى إيقاع رتيب.

بهكذا أحداث تكو ن رواية “نزلاء العتمة “موضوعا عن الموت في الحياة ، والحياة في الموت، ضمن رؤية تدعو إلى التفكر بمفاهيم ترتبط بحياة ما بعد  الموت حتى لا يمكن تسييج هذا الما بعد  وحصره في قالب لا يتيح له مجالا للتأمل وممارسة الخيال كوظيفة ميتافيزيقية حد سقوف الخيال .

ليست «نزلاء العتمة» هي الرواية الأولى التي تتناول الموت وإشكالية «فناء» الجسد البشري، فهذه الفكرة نوقشت في العديد من المدونات السردية العربية خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. لكن ميزة هذه الرواية هي مراياها وتناظرها مع الحياة ، حيث استمرارية البطل الرئيسي مصطفى بنفس الوهج ونفس القناعة في تحريك الثابت والآسن الذي من شأنه ، إنه الموت المؤلم والموجع بشكليه الرمزي والمادي .و انتزاع اعترافات منه بالقسوة عن أناس لا يعرف

نمثل للقتل المادي و الرمزي بصنوف الممارسات التعذيب النفسي والمهين ذ”في بادئ الأمر لم ينلني الكثير من التعذيب ، فقد أوكلوا المهمة للزنزانة لتقوم بذلك ، لم يحتج احد لصفعي فالظلام كفيل بهذا ، لم يقم أحد بقرصي فالبرودة خير من يفعل “ص103، ليتوج كل هذا بالموت ” فبعد أن رحل مصطفى في غرفة التعذيب ، وبعد أن لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يحدق به” ، هذا الموت الجارح هو الذي السارد  إلى إثارة قصص جارحة حوله حتى في عالم الأموات  ، يحكي” أتعبوني بشكل لا يصدق ، ذوت كل أحلامي ، تفتت داخلي كل رغية في العيش ، لم أعد أجد رغبة سببا يدفعني للبقاء خصوصا انني لم ألتق أحدا طوال سنوات اعتقالي” ص 105 .

هذا بعض من كثير مما حكاه “مصطىفى” للفضيل، وطبيعي أن يحضر الموت بهذا الثقل لأن النمطية الوحشية التي تميزه تستدعي الحكي ، حيث اللجوء  إلى الاحتماء بالبوح الشفيف كملاذ  وعزاء ، ففي غمرة الذكريات المستعادة وما يصاحبها من ألم ، يتستعيد “مصطفى”  كينونتها المتشظية ويعيد إحياءها ، أي بناءها في مجازات حكيها من جديد .

تمثّل رواية “نزلاء العتمة” للروائي الأردني زياد أحمد محافظة تحولا نوعيا نوعيّة المشهد الروائي العربي لما تختزنه من حياتين ، الحياة الأولى والتي تتوج بالموت تحت التعذيب ، ثم حياة ثانية تبدأ بعد الموت مباشرة أي تحول المحكي من الحياة إلى حياة الموت كبيئته جديدة قائمة على رؤية متفرّدة للزمان والمكان ، حيث سيواجه مصطفى عالما جديدا لا إيقاعا عاديا فيه للوقت ولا حدود جمركية فيه للمكان.

أحداث الرواية تدور في “وادي المقابر”  بأشيائه الحجرية ، كما تشبه جغرافيته قرية في الريف العربي، كما تشابكت فيه  مجموعة من العلائق المتناسلة في فضائه ، يمثلها المصطفى إلى جانب الحضور الفاعل لمجموعة من الشخصيات والأصدقاء الجدد حيث محاولة التأقلم مع هذه الكائنات ،   ومن ثمة السعي الحثيث للتغلب على عتمة القبور ، تارة بالنور وطورا بموسيقى الناي .

بيد أنه على ضوء الشموع تنشأ خلافات بين الموتى فينقسمون إلى فئتين ، فئة ضد النور باعتباره انتهاكا لحرمة الموت وثورة في مقابل العتمة والموت ، درجة أن ياسين وشهاب الدين يحاولان اغتيال مصطفى لكونه مع النور  وتحويل المقبرة إلى ضوء  مشرق ، هذا علاوة على تهديد  ” بركات ” إن هو مضى لغايته في إعداد الحفل الموسيقي.، وبذلك تحمل الشخوص من ماضيها كلّ ما تستطيع حمله، إنه منطق الحياة الإنسانية وما تحب لبه من صراعات وصدامات وتحالفات .

بهذا يقيم محافظة تناظرا بين الحياة والموت حيث تتقاطع الأحداث ، فحين يقاوم يستقبل مصطفى ميتا جديدا إلى المقبرة فهذا  يستدعي حدثا آخر في الحياة خارج المقبرة حين يستقبل المعتقلون في السجون زائرا جديدا، وكذلك تستدعي  مقاومة البعض للضوء والموسيقى كما بعض الخفافيش البشرية  التي تعض بالنواجد على الظلام نكاية في النور والعقل ، نفسها عتمة الزنزانة وعتبة القبر .

جملة القول ، إن رواية نزلاء العتمة ،  سردية لتحويل الموت إلى حياة ثانية تتقاطعان معا في كونهما يحفلان بثورة في المكان عب انها رواية بروميتيوسية نجحت في سرقة النور في الحياة الأولى والثانية ، للحياة ولحياة النص ، ضدا على كل معوقات التحول إلى الأفضل ، حتى أن الوقائع التي تجري في وادي المقابر ، وإن شابهت ما يجري في عالم الواقع، لكنها حياة واحدة مادامت تبديد ظلمة العتمات بأقباس من نور ، حنى وان اختلفت الوسائل .

بهذا يقيم محافظة تناظرا بين الحياة والموت حيث تتقاطع الأحداث ، فحين يقاوم يستقبل مصطفى ميتا جديدا إلى المقبرة فهذا  يستدعي حدثا آخر في الحياة خارج المقبرة حين يستقبل المعتقلون في السجون زائرا جديدا، وكذلك تستدعي  مقاومة البعض للضوء والموسيقى بعض الخفافيش البشرية  التي تعض بالنواجد على الظلام نكاية في النور والعقل .

في الرواية شخصيات أخرى يتعرف إليها مصطفى في عالم الموت، فأم طه امرأة تلفت نظر مصطفى إلى ولد صغير اسمه حسان يعيش في عزلة ووحدة ويظل في شرود دائم، وتطلب منه مساعدته على تخطي عزلته وفهمها، ومن الضروري الإشارة إلى أن زوجة مصطفى التي تركها حاملا قد ولدت طفلا أسمته حسان، وهذه الشخصية ربما تحتمل كثيرا من التأويل والتأمل.

وهناك شخصية ياسين وجماعته التي لم يرق لها هذا التقاطع بين حياتهم والحياة خارج المقبرة واعتبروا أن في هذا إزعاجا لحياتهم الحالية وقلقا وتغييرا عما اعتادوا عليه، فعارضوا مصطفى لتعكير صفو حياتهم في حين نجد الفضيل يقرب مصطفى كثيرا لنفسه ويعرفه على الموت أكثر، وهنا تحدث نقطة التحول في حياة مصطفى ويحس بالحرية والانطلاق والحيوية.

وهذا التحول في مسار الشخصية الرئيسية التي قضت وقتا تسترجع الأسى المتعلق بالاعتقال والتعذيب في عالم الموت، والحزن الذي أصيب به من جراء موته قبل أن يرى ابنه، تمثل في انحياز مصطفى إلى الحياة والضوء في المقبرة، حيث يبدأ في تجميل حياة الموت بالشعر والموسيقى والشموع ويطلب من الشاعر وعازف الناي المقيم في المقبرة أن يعزف لهم ويغير أجواءهم بسحر الموسيقى والألحان.

ترجح كفة الضوء في المقبرة، وتتخذ الحياة هناك شكل الحياة الحلم التي كانت تراود مصطفى بعيدا عن الاعتقال والتعذيب والضرب، الحياة التي لم يحققها في الواقع وها هو يؤثثها في المقبرة على قياس الجمال الذي لم يستطع رسمه في الحياة الأولى.

هنا تحصل الارتباكات في اللاوعي عند القارىء فما هي الحياة الحقيقية، وما هو الحد الفاصل بين الحياة والموت، وأين تكمن الحقيقة وأين يكمن الخيال في الرواية.

تستمر الأحداث في التنامي فيساعد مصطفى الطفل حسان على تخطي عزلته وتقام حفلة موسيقية على الرغم من معارضة ياسين وجماعته وتسير الحياة بشكل ساحر حتى ظهور شخصية الجلاد واعترافه بالندم على ما فعله مع مصطفى، لكن الانتقام لم يأخذ مصطفى إلى سواده وإنما سامحه منحازا بذلك إلى قيم التسامح التي يعرفها البشر في حياتهم الواقعية.

في نهاية الرواية يتعرف يدرك مصطفى أن الولد حسان هو ابنه الذي لم يره في الحياة الأولى ويتضح له هذا عندما تأتي إلى المقبرة امرأة تدعى فدوى حاولت الانتحار في حياتها وعرفت أم حسان وهي تبكي ولدها المتوفي.

في الرواية عالم جديد لا نجده في الكثير من الأعمال الأدبية، عالم سحري وخيالي إلى أبعد الحدود، فيه من الغرائبية الكثير، حيث الوصف والأجواء الفانتازية المشهدية في العالم الآخر الذي نرسم له نحن في مخيلتنا صورة غامضة مليئة بالخوف ومشوبة بالرعب الذي يشبه لحظة شبحية تمر خلال العين فتقلق وتخيف.

ومن الجدير بالذكر أن الكاتب زياد محافظة روائي أردني وع ضو رابطة الكتّاب الأردنيين وقد صدرت له عن دار الفارابي ببيروت رواية “بالأمس.. كنت هناك” ورواية “يوم خذلتني الفراشات” التي اختيرت ضمن القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب لعام 2012، وصدرت له عن دار فضاءات بعمّان مجموعة قصصية بعنوان “أبي لا يجيد حراسة القصور”، ورواية “أنا وجدي وأفيرام”. ، وهذه تضاف إلى ميزة أخرى لـ «نزلاء العتمة» تجاور ميزة أخرى فيها هي أن الروائي زياد محافظة يدخل مباشرة إلى موضوعه الإشكالي منذ السطر الأول من روايته: «لست أبحث عن موت باهت، فحتى الموت أحبّ أن يكون شهيّ المذاق».

كانت تلك آخر عبارة رماها في وجوههم قبل أن يعبر وحيدا إلى عالم فاتن». لا فائض في السرد وما من دواع أخرى للتأسيس لهذا الانتقال، حتى أن المرء يشعر، أثناء القراءة، أن الشخصية ذاتها، التي هي العمود الفقري للرواية، تجرّ الروائي باتجاه المنطقة التي ترغب في الرحيل إليها أكثر مما يود أن يفعل هو. بهذا المعنى تكون «نزلاء العتمة» اختبارا لتلك العوالم تشحذه المشاعر والأحاسيس والمخيلة أكثر من أنها نتاج أفكار وتصورات وخيالات مسبقة أو موروثة عن ذلك العالم.

وتنطوي الرواية على العديد من الأسئلة المقلقة التي تفرض حضورها على الإنسان؛ وتغوص بتأن في تحليل جدوى التأويلات الميتافيزيقية التي تظل تؤجل الخلاص إلى عالم الماوراء، وهي بذلك تنسج عوالم متداخلة تكاد غرائبيتها تكون مألوفة إلى درجة الواقعية، وواقعيتها غريبة إلى درجة الفانتازيا. بمعنى أن الرواية بشخوصها وأحداثها وتداعياتها، تدور في حيز واحد لا يخرج عن مخيلة بطلها، فيما هو يقضي اللحظات الأخيرة في هذه الحياة، محاولاً في صراعه مع كل شيء يحيط به، بلوغ لحظة الخلاص المنشود، وناحتاً لنفسه عالماً مشبعاً بالحرية. إن بطل الرواية وفقا للصراعات التي يخوضها يدرك بهذه الممارسة أن الموت وهو يغير في نظام الأشياء وصيرورتها، قد لا يزيح عن كاهل المرء تلك النتائج التي أورثه إياها القمع والكبت اللذان يتكاثران حوله، لكنه يدفعه بالضرورة إلى النهوض، وإلى التحرر من الصراعات التي تهيمن عليه.

فالرواية وفقا لهذا المنظور تمضي نحو التصدي لقوى الظلام والقهر تحت أي مسمى كانت. وفي الوقت الذي تفتح فيه الرواية الباب أمام المخيلة الخصبة، لتمضي نحو عوالم جديدة لم يختبرها المرء من قبل، فإنها تسعى بلغة روائية شفافة وبناء مشهدي محكم، إلى خلق مقاربة تدريجية تتيح فهماً أعمق لتلك المنطقة الغامضة بين الحياة والموت؛ تلك المنطقة التي لابد أن يتوقف عندها المرء، قبل عبورها بشيء من الخوف والقلق. وأخيرا، فإن زياد محافظة روائي أردني يقيم في أبوظبي ويعمل فيها، ويحمل درجة الماجستير في الإدارة العامة، وقد كتب في العديد من القضايا الفكرية والأدبية.

صدرت له عن دار الفارابي ببيروت رواية «بالأمس.. كنت هناك»، ورواية «يوم خذلتني الفراشات» التي اختيرت ضمن القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب لعام 2012، وصدرت له عن دار فضاءات بعمّان مجموعة قصصية بعنوان: «أبي لا يجيد حراسة القصور».

 

 

صحيفة رأي اليوم الالكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى