عبدة القبح
عرفته مؤمناً تقليديّاً مثل بقية الشعب الطيّب البسيط …..وجدته يكسر اليوم بغضب شديد كل ما وقعت عليه يداه من لوحات و أواني تحمل اسم الجلالة أو بعض الآيات القرآنية المعلّقة في بيته أمام اندهاش أسرته و أطفاله …….حاولت التهدئة من روعه وأنا أسأل نفسي وألومها ” ربما تأثّر بي وفهم “علمانيتي” بشكل مغلوط “…………………………………
كانت الإجابة الصادمة أن أصبح “جهاديّاً تكفيريّاً “، ولا يجوز في نظره الاحتفاظ بالمجسّمات …لأنّ الله في القلب، ويجب محاربة كل من يرفع اسم الله وكلامه مكتوباً أو منحوتاً أو محفوراً في بيته .
هكذا أرخى التكفيريون بظلالهم في بلادنا ونضجت ثمارهم المسمومة، واستوت فأعطت أكلها الشيطاني الفاسد في البرك المتعفّنة والبيئات الحاضنة التي يغذّيها الجهل والتخلّف.
لم يكن جاري المتجهّم العبوس بعد أن أصابته اللوثة الداعشيّة ـ إلاّ نموذجاً مصغّراً لأولئك الذين يشنّون حرباً على التاريخ والثقافة والجمال في سورية والعراق …ولو كان بيده لمضى يدكّ بمطرقته “أصنام ” القرطاجيين والنوميديين والرومان وغيرهم في متاحف البلاد، حتى لا يمجّد إلاّ القبح وتكتمل دائرة الخراب ويقف فوقها مع “إخوته الجهاديين ” مغرّداً ومهلّلاً لهذا النصر المبين .
يظنّ الإعلام الغربي الذي يظهر مشاهد تحطيم الذاكرة الإنسانية في المتاحف أنّ ما يبثّه أقلّ فظاعة ووحشية من صور الذبح والحرق وتمزيق أجساد الأبرياء التي حجبها “مشكوراً “.
ربما باعت داعش القطع الأصليّة واكتفت بتحطيم النسخ المقلّدة من التماثيل، وهذا لا يقلّ حقارة عن الأولى، ومهما يكن من أمر فإني قد اشتممت في المحطات الأجنبية رائحة التشفّي مع كل منحوتة تسقط تحت مطارق المجرمين .
نعم، إنه من الطبيعي أن يحسد بعض المرضى من اللقطاء والمكتومين أترابهم على العيش في كنف أسرة دافئة … ومن غير المستغرب أن يفرحوا ليتمهم ومحنهم وتفكّك عائلاتهم، ذلك هو حال إسرائيل ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ والتي وجدت من يقوم بالمهمّة بدلا عنها ودون عناء .
لقد أوغل التكفيريون في النذالة وشغّلوا خيالهم الشيطاني حتى بلغوا النهاية في معاداة الإنسانية ….أي معاداة الله كمفهوم مطلق للخير والجمال والمحبة فصبّوا جام غضبهم على كلّ من يمجّده في الفن والإبداع .
يحاول الظلاميون والوهابيون أن يتسرّبوا إلى مسامي جلودنا عبر دعاتهم التجهيليين وأموالهم القذرة، احتلّوا بقاعاً غير محصّنة في مجتمعاتنا المتأزّمة بفعل الفقر والجهل والتهميش …يحدث كل ذلك تحت عيون هذا العالم الذي ينظر إلينا كجرار فخّارية تكسر بعضها البعض.
جاهل ومغفّل من يعتقد أنّ هؤلاء يريدون دولة بمفهومها السياسي، ومهما كانت عقيدتها. إنهم يسعون إلى ديمومة القتل واستمرارية الخراب حتى يرث الله الأرض ومن عليها …وتلك مسألة محيّرة في ظاهرها، لكنها تخفي مخطّطات جهنمية صنعتها جهات خفيّة لا تستوعبها رؤوسهم المليئة بالحقد.
إنّ من يلاحظ تركيز القتلة في جرائمهم على السكّان الأصليين من الحضارات القديمة كالأقباط والأشوريين وغيرهم ثمّ يقارب بينهم وبين ثأر وأحقاد الصهاينة في التاريخ القديم، سيكتشف دون شك حجم “الخدمة الكبيرة ” التي يؤديها هؤلاء لدولة بني إسرائيل القائمة على الأوهام و تزوير التاريخ والجغرافيا .
لم تكن تلك التحوّلات الدراماتيكية في شخصية جاري الذي ألفته بشوشاً ومحتفلاً بالحياة ثم عدت فوجدته قد غيّر الطريق من المقهى سابقاً إلى أحد جحور التطرّف لاحقاً، لم تكن هذه التحوّلات إلاّ نذير شؤم عليه وعلى أسرته ومن حوله، لأنّ ” أوّل الرقص حنجلة ” ….فلقد بدأ الرجل بتحطيم جماليات خطّ يسبّح باسم الله ….والقادم أفظع.