عبد الرحمن النعيمي: في مسألة الهوّية وتوابعها

تمهيد

عدت إلى ذاكرتي لأدوّن نتفاً من حوارات متواصلة ومتقطّعة دارت بين الراحل عبد الرحمن النعيمي وبيني، وذلك فيما يتعلق بفكرة الهوّية وتوابعها، وقد استعدت ذلك كجزء من منولوج داخلي بما أفضى به وما استنتجته بصحبة مديدة، أو ما قدّرت أن ما وصل إليه كان النتيجة المنطقية للتطوّر الفكري والثقافي لعبد الرحمن النعيمي، كجزء من أطروحاته ومواقفه السياسية والعملية، إضافة إلى أبعادها الستراتيجية.
وإذا كانت الهوّية شغل شاغل اليوم، فإن جيلنا أو جزء منه لم يكن يفكّر بما تعنيه، وذلك قبل أن تندلع حروب الهوّيات وكأنها حروب كونية يتخنّدق فيها الجميع ضد الجميع. وكانت العروبة ذات البعد الإنساني تنغمس في بعضنا ومنهم النعيمي والبعض الآخر يجد في الأممية ذات البعد الإنساني أيضاً قد سكنت فيه، وكنت أنا جزء من هذا التكوين، لكنّنا مع مرور الأيام والكثير من الخيبات والمراجعات والنقد والنقد الذاتي، وجدنا التفاعل العميق بين العروبة والأممية، طالما كان بعدهما إنسانياً، إذْ لا يمكن إلاّ أن يكونا كذلك، دون إهمال ما لحق اسميهما من زيف وترّهات واستبداد.
قد يكون مدخل هذا الحوار بين النعيمي وبيني ذا وجه فكري وآخر سياسي في إطار رحب من الثقافة، لكنني سأحاول إعطاءه مسحة تتعلق بالهوّية ومدلولاتها وعناصرها والتحدّيات التي تواجهها، وذلك بتجاوز التعميم والانتقال إلى التخصيص، لاسيّما وأن الأول هو الصخرة التي يتكئ عليه المتعبون إذا جاز القول، إذْ لا يمكن بدون التفاصيل بما فيها الجزئية أحياناً تكوين المشهد العام.

I

تعامل عبد الرحمن النعيمي على نحو يكاد يكون عفوياً بخصوص موضوع الهوّية، سواء هوّيته أو هوّية الآخر، فقد كان يشعر أن لا هوّية واحدة له، بل هناك هوّيات متعددة تندغم في هارموني منسجم إلى حدود كبيرة، مثلما لم يجد فاصلاً بين الهوّية المتنوّعة التي تتألف منها هوّيته العامة الجامعة الموحدة، وتحت ظلها تتفيأ، بل وتنعم بالتكامل مع بعضها البعض، مجموعة من الهوّيات، التي تنسج في نهاية المطاف قماشة هوّيته المتكاملة، مثلما تنسج خيوط الهوّيات الأخرى، التي ينظر إليها من موقع الإقرار والقبول.

وإذا كان تيد روبرت جار قد أصدر موسوعة رصد فيها 230 مجموعة ثقافية إثنية أو دينية أو لغوية أو سلالية، فإن أمين معلوف هو من أطلق على صراعات الهوّيات في لحظة انفجارها، ولاسيّما بعد نهاية الحرب الباردة وتحوّل الصراع الآيديولوجي من شكل إلى آخر اسم “الهوّيات القاتلة”، وإنْ كان هو العربي اللبناني الفرنسي، المسيحي ذو الثقافة الإسلامية قد جمع ذلك في وحدة واتساق .

أما وجيه كوثراني فقد تناول في كتابه الموسوم “هوّيات فائضة ومواطنة منقوصة” موضوع فيض الهوّية أي المبالغة فيها، سواء كانت طائفية أو دينية أو قومية، وسيقابله نقصان المواطنة، أي كلما تضخّمت الأولى فستؤدي إلى انحسار أو ضيق الثانية، وهكذا كلّما غابت المواطنة يستعاض عنها بمفهوم ” الرعية أو التابعية” التي لا تعني سوى الخضوع، والأمر له علاقة بالتعريف أيضاً فيما يتعلق بهوّية الأغلبية وهوّية الأقلية والهوّيات الكبرى والهوّيات الصغرى، في حين أن لكل فرد هوّية عامة وهوّية خاصة، مثلما هناك لكل مجموعة ثقافية، دينية أو إثنية أو لغوية أو سلالية، هوّية عامة وهوّية فرعية، في الأولى حيث المشترك الإنساني الوطني أو الديني أو الإثني أو غيرها، وفي الثانية حيث التعبير عن الشعور بالانتماء الخصوصي والتميّز عن الآخر، حتى وإنْ في إطار هوّية عامة، موحّدة.

وكان محمد عابد الجابري قد بحث في كتابه “مسألة الهوّية، العروبة والإسلام والغرب” حيث تناول ثنائية العروبة والإسلام، وكذلك العلاقة بالآخر، وفي دراسة أخرى بحث في العولمة والهوّية بين البحث العلمي والخطاب الآيديولوجي، في حين يأخذ علي حرب بالهوّية المركّبة والمتعددة بوجوهها وأطوارها وأبعادها، وذلك في كتابه ” حديث النهايات- فتوحات العولمة ومأزق الهوّية”، خصوصاً وهو يميّز بين مفهوم الهوّية على المستوى الحقوقي والرسمي أو على المستوى الحضاري والمدني، وهو يؤثر استبعاد الصفة الدينية، لأن الإسلام العقائدي من وجهة نظره بشقيه السنّي والشيعي العقائدي والفقهي لا ينتج الاّ الأصولية الجهادية.

أما حليم بركات في كتابه ” المجتمع العربي في القرن العشرين ” فيعتبر الهوّية مجموعة من السمات الثقافية التي تمثل الحد الأدنى المشترك بين جميع الذين ينتمون إليها والتي تجعلهم يُعرفون ويتميّزون بصفاتهم تلك… وقد تتطور الهوّية بالانفتاح على الغير وقد تنكمش، وتتمدد وتتقلص… لكنها دون أدنى شك تغتني بتجارب الناس ومعاناتهم وانتصاراتهم وآمالهم وهذه المسألة تتأثر سلباً وإيجاباً بالآخر.

ويعتبر أدونيس في كتابه ” موسيقى الحوت الأزرق (الهوّية ، الكتابة، العنف)” الهوّية ليست معطىً جاهزاً ونهائياً، وإنما هي عمل يجب إكماله دائماً، أي أن التغيير وعدم الثبات هو ما يطبع الهوّية والهوّيات المسبقة، الجاهزة، المغلقة كأنها شيء بين الأشياء: حجر أو فأس أو سيف، وهو ما تريده القوى المتعصبة، أي تبحث في الهوّية ما وراء الإنسان وليس أمامه، لأنها غير قابلة للتراكم والتطور، والآخر عندها لا وجود له أو غائب أو عدو.

وقد سبق لي أن تناولت موضوع الهوّية، من خلال سؤال إشكالي: هل الهوّية أرخبيل مفتوح أم بركة ساكنة؟ وهل هي معطىً سرمدياً ثابتاً أو إنها مفتوحة، أي قابلة للتفاعل والإضافة والحذف تأثراً وتأثيراً بالهوّيات الأخرى؟ وقد سعيت بعد هذا التساؤل للبحث عن جدل أو صراع الهوّيات في العراق، وخصوصاً احتدامها بعد الاحتلال الأمريكي في العام 2003، وذلك في كتابي الموسوم : جدل الهوّيات في العراق: الدولة والمواطنة”، حيث بحثتها من زاوية هضم الحقوق أو الإقرار بها، وانعكاس ذلك على تبلور موضوع الهوّيات جدلاً، أي تواصلاً وتفاعلاً، وصراعاً بمعنى الالغاء والإقصاء، أي التباعد والتنافر، أو حتى العزلة والانغلاق، بدلاً من الانفتاح والتداخل.

وفي حوار مشترك بين النعيمي وبيني مع الياس مرقص خلال لقاء فكري انعقد في طرابلس الغرب في أواسط الثمانينيات لمناقشة الأزمة في حركة التحرر الوطني، ضمّ قوميين عرب بمختلف تياراتهم بما فيهم منظمات المقاومة الفلسطينية وماركسيين وشيوعيين، حيث قاربنا الموضوع من زاوية الهوّية وتحت سؤال كان ملحاً: هل يمكن إلغاء هوّية الفرد لحساب هوّية المجتمع؟ وقد استكملت الحوار مع مرقص حين اضطرّ المبيت في منزلي بدمشق، لتعذّر حصوله على وسيلة نقل مساءً إلى اللاذقية عند مجيئنا من طرابلس، واستغرق حوارنا ساعات متأخرة من الليل، وكان الرأي الذي اتفقنا عليه، أن مثل هذا الإلغاء سيؤدي إلى إلغاء الهوّية العامة، وهو ما أسماه الياس مرقص الفارق بين عقدة الهوّية والهوّية، فالهوّية حسب مرقص هي للفرد والجماعة والأمة، من خلال اتساق وتفاعل وتوازن ديناميكي ومترابط، ولذلك بنى نظريته للديمقراطية على الفرد الحر المستقل ” أنا أفكر” لا بوصفه نقيضاً لـ ” النحن” بل بالتوافق معها، على أساس الموقف من المعرفة والاعتراف بالكائن الفرد، وكذلك من خلال المجتمع المدني باعتباره يمثّل كينونة المجتمع.
كان عبد الرحمن النعيمي حتى دون أن يعبّر هو عن نفسه يتصرف باعتباره جامعاً لهوّيات متسقة في إطار هارموني حيوي، فهو عربي ومسلم وبحريني ومتعدّد الانتماءات لسرديات عاش تفاصيلها وكان يشعر أنه جزء منها، وتعتبر هوّيته خلاصة مكثّفة لوجدانه الإنساني ومكوناته الثقافية.

كنتُ قد لمست ذلك منذ أن تعرّفت عليه في عدن قبل 40 عاماً وكان عائداً من ظفار حيث كان مشاركاً في الثورة الظفارية، حتى اعتقدت لأول وهلة وأنا أتعرّف على سعيد سيف الاسم الأثير الذي لا نتذكر النعيمي إلاّ مع رديفه ” سعيد سيف” إنه عُماني وقد يكون من صلاله، لكنني عرفت فيما بعد إنه من البحرين.

كان عندما يتحدّث عن ظفار ينغمر بأدق التفاصيل، لدرجة أنك لا تشعر الاّ وهو جزء من الشعب العُماني، وليس مشاركاً بثورة لمجموعة من الحالمين في ظرف ملتبس وعصيب، حتى إن هوّيته العُمانية وهو يروي لي الحياة اليومية والتعامل مع الناس البسطاء، كانت طاغية، وهو شعور جيفاري طافح، تملّك الكثير من الثوريين آنذاك، في تجلّيات طهرية ونظافة فكرية، لم تلوّثها عاديات الزمان التي لعبت لا في العقول فحسب، بل امتدت إلى النفوس وتكرّست على نحو مريع، مترافقة مع تراجعات وانكسارات في المشاريع التنويرية العروبية واليسارية.

كنت مع عبد الرحمن النعيمي في رحلة الصداقة والحرف والحق، دائماً ما أطالبه بأن يضع تجربته على الورق، وخصوصاً الظفارية، اليمنية لاحقاً، والممهورة في كل الأحوال بفلسطين المُملحة بالخليج والمسكونة بالبحرين، ولا يمكن للبنان المقاومة والجمال أن يكون بعيداً عنها، وفي ذلك تندغم هوّياته المتعددة في إطار هوّية موحدة، أما هو فكان يطالبني بوضع تجربة الأنصار الشيوعيين على الورق أيضاً، وعندما اطّلع على خلاصات أولية لحديث لي في محاضرة بلندن والموسومة ” بعيداً عن أعين الرقيب” طلب طباعتها، وكتب هو كلمة باسم الناشر “دار الكنوز الأدبية” على غلافها الأخير، وكان ذلك في العام 1994.

وجاء في كلمته ” ينطلق الدكتور شعبان من رؤيته للمستجدات وانعكاساتها على المناضلين والمثقفين، ويرى أهمية إلغاء الحجاب عن حياتهم ليتعرّف الناس على حقيقتهم وتكوينهم وينابيع ثقافتهم، ويحكموا عليهم وعلى أهليتهم في المشاركة في الحركة السياسية والفكرية في المرحلة الراهنة واللاحقة، ناهيكم عن قيادتها. من العراق إلى المنفى ومن السياسة إلى الثقافة… يسجل د. عبد الحسين شعبان تجربته بشجاعة كبيرة هل أفلح أبو ياسر ، أين أخطاً ..أين أصاب؟ سؤال يجيب عليه القارئ وحده”.

كان إلحاحي عليه بتدوين فصول تجربته يزداد كلما شعرت أن الزمن يمضي، على الرغم من أن الماضي لا يمضي حسب السيد هاني فحص الذي غادرنا مؤخراً وهو يروي حكاياته عن النجف، وقلت له يومها ذلك بعد أن كنت أحرّضه على أن ترى تلك الذكريات النور، وبعد أن شقّت طريقها في كتاب “ماض لا يمضي”، قلت له إن هناك وجهاً آخر للنجف، حيث يعيش فينا ويتغلغل بين ضلوعنا ونحن لا زلنا نتنفسه في كل ما حولنا وهو ما وجد طريقه إلى عنوان كتاب لمناضل كبير اسمه صاحب الحكيم الذي اختار عنواناً لمذكراته ” النجف الوجه الآخر”.

وكان هذا عنوان محاضرة لي في الكويت والجامعة اليسوعية في بيروت بتحريض من الصديقين جهاد الزين وحامد حمود العجلان، حين تحدثت عن حلقات اليسار والمواكب الحسينية والقصائد الحمراء وقرّاء المنابر وبعض ثنايا الحوزة والحضرة الحيدرية وبعض كادرها الشيوعي، وعن النساء النجفيات والجمال النجفي والعلاقات الاجتماعية والوافدين ومدرسة الخليلي والاختلاط بأمم وقوميات ولغات والتعايش الإسلامي، العروبي، الأممي، الماركسي، وعن “الفكر المنفتح في المجتمع المنغلق” حسب السيد مصطفى جمال الدين، وصورته الأخرى ” الانغلاق الظاهر” و”الانفتاح الباطن” أو المحافظة الشكلية والتقدمية الجوهرية.

كان عبد الرحمن النعيمي يمهلني يوماً بعد آخر في تدوين مذكراته، بل كلّفني لإقناع مظفر النواب بضرورة تدوين سيرته ونشر أعماله الكاملة، حتى حصل المحذور وجئنا إلى البحرين لنرى صديقنا العتيق وهو مُسجى وفي غيبوبة طويلة امتدّت أيامها وشهورها وسنينها بكل ثقلها وكآبتها، والعائلة والرفاق والأصدقاء ينتظرون، حتى داهمه ذلك الذئب اللعين الذي ظلّ يتربّص به متنقّلاً معه مثل ظلّه من بيروت الحلم إلى دمشق الياسمين وبغداد الرشيد ودجلة الخير والخليج ذو اللؤلؤ والمحّار وظفار الطفولة والعفوية، وعدن التي كانت الجنة الموعودة، والتي رأينا كيف كان حلم ردفان الكبير يتدحرج في التواهي وكريتر ويتبدّد أمامنا.

وإنْ لم أفلح في اصطياد النعيمي يروي لنا ما حدث في ظفار، فقد أكون قد حفّزت واستدرجت رفيق عمره وصديقه الوفي الحميم عبد النبي العكري ورديفه اسمه المستعار “حسين موسى” في كتابة هذا الفصل الغامض من فصول النضال الشيقة. وكلّما ذكرتُ عبد الرحمن النعيمي لا بدّ لي من استذكار العكري، وهو الصديق الذي يتكامل مع النعيمي، مثل صداقة ماركس وإنجلز، ودعوني هنا أمجّد هذه الصداقة النضالية التي حملت القيم والنبل والإخلاص والاعتراف بالأدوار.

عندما قرأت رواية صنع الله ابراهيم ” وردة” وهي تروي أحداث ظفار، بلغة بعضها يحمل حبكة درامية هائلة التأثير، وبعضها كان أقرب إلى تقارير صحفية، حاولت أن أوالف بين الفن واللغة والخيال، مصحوباً بتقريرية لدعم الحدث، وسألت النعيمي: أحقاً كان الأمر هكذا، في بلد لم تصله آنذاك متطلبات الحضارة والمدنية؟ لكن ثمة مسألة في غاية الأهمية لفت انتباهي إليها النعيمي، وهي امتزاج الخيال بالواقع، والقاهرة بظفار، والثورة بالمرأة، والأمل بالخيبة، كيف لبضعة شباب بعمر الورد يجترحون كل تلك العذابات ويتحمّلون كل تلك الصعاب، إنْ لم يكن لهم هدف نبيل.؟. وهي تجربة عشتها في مطلع الثمانينيات في جبال وعرة ومناطق نائية وسير على الأقدام دام أياماً وليالي، عرفت فيها فتية بشجاعة نادرة وأحلاماً لا حدود لها.

II

هوّية وثقافة

كانت ثقافة النعيمي قد اكتسبت مع مرور الأيام طابعاً ديناميكياً متحركاً، أي غير ستاتيكي (جامد) فقد تمكّن الإفلات من المسلّمات السرمدية منتقلاً من اليقينية إلى التساؤلية، ومن التبشيرية إلى النقدية، وكان السجال والجدال جزءًا مهماً يحاول بهما استدراج النقاش ليرضي شغفه وتطلّعه إلى المزيد من تعميق الرأي بتقليبه مرّات ومرات، لاسيّما إزاء الآخر وبقدر اعتباره الهوّية متحرّكة وغير ثابتة، أي أنها ليست معطىً ساكناً وسرمدياً، إلاّ أن بعض عناصرها كان يعتبرها قابلة للثبات مثل الدين واللغة، وأما الجوانب الأخرى فهي تخضع لنوع التغيير في فهمنا أولاً وفي تفسيرنا ثانياً، مثلما هي عاداتنا وفنوننا وآدابنا وطريقة عيشنا، فهذه عرضة للتغيير والتطوّر، حذفاً أو إضافة، لاسيّما علاقتها بالثقافات والهوّيات الأخرى، تأصيلاً واستعارة، وكنت دائماً ما أضرب الأمثال عن العلاقة العربية- الكردية، وعندما فكّرنا في نهاية التسعينيات بالتعاون مع المناضل والقيادي الكردي صلاح بدر الدين أن نؤسس لجمعية صداقة عربية – كردية للبحث في المشتركات الإنسانية، كان النعيمي من أشد المتحمسين لها.

صحيح أن السياسات متغيّرة ومختلفة، وهذا ما كنّا نتفق عليه، لكن الصحيح أيضاً إن حقوق الشعوب كانت قائمة، مثلما هي عملية التحوّل الثقافي فقد كانت تطوّرية، تدريجية، تراكمية، طويلة الأمد، وهو الأمر الذي يندرج في إطار تفاعل الهوّيات وتداخلها، لاسيّما من خلال عناصر التأثير القوية سياسياً وثقافياً واقتصادياً.

وعلى الرغم من اعتزازه بعروبته وشعوره القوي بانتمائه لأمة عظيمة، لكن ذلك لم يمنعه لاحقاً من اتخاذ موقف من الحرب العراقية- الإيرانية، التي كان يعتبر قيامها خدمة للامبريالية والصهيونية، ولم يكن يجد بُدّاً من الدعوة لسحب القوات العراقية من الأراضي الإيرانية، مثلما كان مبادراً في الدعوة إلى وقف الحرب ووقّع بيانات معنا في مناسبات مختلفة، وفي الوقت نفسه وقف ضد فرض مشروع خارجي على العراق تحت أية حجة أو ذريعة، مثلما وقف ضد استجلاب جيوش أجنبية إلى المنطقة ودفع ثمناً باهظاً جراء موقفه ذلك، حين قضى نحو ستة أشهر في المعتقل، وبغض النظر عن ملاحظاته السلبية ومواقفه المعلنة إزاء الحكم في العراق، فإنه وقف بشدّة ضد الحصار الدولي وضد العدوان والغزو، وهذه المرّة أيضاً دفع ثمناً باهظاً.
لقد شعر النعيمي أن العولمة التي استفحلت ولا مردّ لقوانينها إلاّ بالتمسك بالحقوق والهوّية الوطنية، العروبية، الإسلامية العامة، ولكنه أخذ ينظر بانفتاح أكبر إلى الهوّيات الفرعية أو الصغرى، مزيحاً ثقافة سائدة بالاستقواء والاستعلاء والفوقية في النظر إلى الآخر، سواءً كان دينياً، مسيحياً، أو غير عربي كردياً أو أمازيغياً أو غير ذلك.

لقد وقف النعيمي ضد الانكفاء والتشرنق والتعصّب والانغلاق وضيق الأفق القومي، وكان يرى إن الدفاع عن وجود الدولة الوطنية ووحدتها، إحدى المعادلات في هوّية أوسع وأكثر تعبيراً عن تطلّعات الأمة، حيث كان يحلم بالوحدة العربية التحرّرية القائمة على العدالة الاجتماعية.

كان النعيمي يعتبر الثقافة الوعاء الذي يمكن أن يستوعب الهوّية، بل ويجسّدها، لاسيّما الشعور بالانتماء، وخصوصاً للقيم المتفاعلة مع الأنا، إنسانياً، لغوياً ودينياً، إضافة إلى التقاليد والعادات والفنون وكل ما يجسّد حياة الناس وأسلوب عيشهم، وذلك جزء من التطور الحياتي على صعيد الفرد والمجتمع.

III

خضنا ذات مرّة نقاشاً مفاده إن الاهتمام بالهوّية لا يعني عدم الشعور سابقاً بها، لكنها أصبحت بعد انهيار الكتلة الاشتراكية مَعلماً من معالم التغييرات العالمية، والسبب أن ذلك مردّه يعود إلى انكماش دور الآيديولوجيا وانخفاض منسوب الصراع الآيديولوجي، وقد أضاف لي رأياً مهماً وهو صعود ما أطلق عليه ” الصحوة الإسلامية” التي جاءت عقب الثورة الإيرانية – الإسلامية في العام 1979، وكان من الذين كتبوا بصورة مبكّرة حول هذه الظاهرة وأصدر في حينها كراساً بعنوان “مساهمة في الحوار حول الحركة الدينية”، ومن أبرز عناوين الكتاب ” من يحمي عروبة البحرين ومن يحارب النزعة الطائفية؟” وذلك في العام 1987، وكان الحوار حول الدين ودور الدين والمسألة الدينية في القضية الوطنية والاجتماعية قد استحوذ عليه، ولعلّ قراءة مقدمة الكتاب المشار إليه تعطينا حقيقة الانشغال، بل والانهمام بتلك المسألة الصاعدة، منذ وقت مبكر، ومما جاء في مقدمة الكتاب ” لا شك أن الامبريالية العالمية غير معنيّة بمن سيدخل الجنّة ومن سيدخل النار في الحياة الآخرة، لأن الامبرياليين لا يؤمنون برب غير المال، ويريدون جنّة الدنيا لوحدهم، وإذا كان من جنة أو نار بعد الموت، فهم سيدبرون أنفسهم لاحقاً كما يدبّرون أية صفقة تجارية كبيرة”.

وانصبّ نقاشه أيضاً على أن عصر الهوّيات بعد القوميّات والآيديولوجيات قد أصبح له شأن كبير ولم يكن ذلك بعيداً عن الدين من جهة ومن جهة أخرى بالثورة العلمية – التقنية، لاسيّما وجود السوق الدولية وانتشار الفكرة الليبرالية أيضاً بما لها وما عليها. كان في ذلك يريد أن يدلل على دور الثقافة وتعاظمها جماعياً وفردياً، ليس في إطار العمل الإبداعي، بل على مستوى السياسة والاقتصاد والاجتماع، فقد سعت العولمة إلى تسليع الثقافة بهدف تحطيم منظومة القيم، عبر نمط الاستغلال والفردانية، وهو الأمر الذي انعكس على الهوّيات الفرعية بعد عسف ذاقته من الهوّيات الكبرى.
في نقاش طويل معه اعتبرنا أن الدين ظاهرة تستحق الدراسة، بل والتعمّق فيها، لأنها تكاد تكون ظاهرة أزلية. والماركسية النقدية الجدلية الديالكتيكية لا تتخذ موقفاً مسبقاً من الظواهر الاجتماعية، بقدر ما تدرسها وتتبين آثارها ونتائجها على حياة المجتمع، واتفقنا بعد حوارات معمقة ومتعددة أن ليس بثوري من يقف ضد الدين مستهجنين الصبيانية اليساروية والطفولية الثوروية بمعاداة الدين أو الاستخفاف بالشعائر والطقوس الدينية وهو ما أدرجته في كتابي ” تحطيم المرايا – في الماركسية والاختلاف” وهناك فارق كبير بين الدين والتديّن.

وبقدر النقد الذي كان يوجهه النعيمي للتيار القومي التقليدي وللتجارب القومية الشمولية وهو ما كنت أشاطره فيه، فقد كنّا أيضاً ننظر بشيء من عدم الاطمئنان، بل والقلق المصحوب بالنقد للتجارب الاشتراكية القائمة، حيث يتم تذويب فردانية الفرد في الجماعة، بمعنى إلغاء شخصيته المستقلة، بزعم مصالح الكادحين ومتطلبات الاشتراكية وغير ذلك، مثلما تلغي التجارب القومية فردانية الفرد بحجة مصلحة الثورة والأمة والصراع مع العدو الصهيوني، وتبرّر القوى الدينية ذلك الإلغاء بمتطلبات الدين وحاكمية الله، وغير ذلك وفي هذا الصدد، أستعيد هنا الرأي الذي سبقنا إليه المفكر السوري الريادي الياس مرقص حول إن المجتمع هو “مجتمع الأفراد”، والأمة أو الشعب، وبالتالي فهي “أمة الأفراد” أو “شعب الأفراد”، ولا معنى ولا قيمة لمجتمع بدون حرّية الأفراد، فالمجتمع هو على شاكلتهم، أي إن المجتمع الذي يلغي حرية الأفراد سيكون هو قد ألغى نفسه، بمعنى ألغى حريته واستقلاله وخصوصيته.

الفرد والخصوصية هما جوهر العام وماهيته، وأي إلغاء لهما يعني إلغاء للأمة، وبدونهما ستكون هناك حالة من التناثر الاجتماعي. ومثلما كنّا شديدي الإعجاب بالجدل الماركسي الديالكتيكي، فإن بدايات وعينا الجديد، كانت تتجلّى بالاستفادة من المدارس الاجتماعية الأخرى، فالماركسية لا تتضمن حقائق معصومة، وعلينا اكتشاف أدواتنا في الواقع العربي الزمكاني (أي في الزمان والمكان المحدّدين)، وأود هنا أن أسجل إن عبد الرحمن النعيمي ومن موقعه اليساري كان أكثر اعتدالاً سواءً عندما بدأ حياته مع حركة القوميين العرب وفيما بعد واصل نضاله في الجبهة الشعبية لتحرير البحرين وتطوّر معهما، ويمكنني القول: إنه كان سباقاً في النقد والمراجعة، ولكن دون تطرف أو تخلّي عن منطلقاته الأولى، وقد استفاد إلى حدود كبيرة من المنهج الماركسي، كما استفاد من المدارس الفكرية والاجتماعية الأخرى.

وهكذا كان نقدنا للستالينية وطبعتها المحلية، خصوصاً طابعها الشديد الاعتماد على العامل الاقتصادي، ناهيكم عن بعض مواقفها على الصعيد العربي، سواء ما يتعلق الأمر بقرار التقسيم أو الاعتراف بدولة “إسرائيل” دون نسيان مواقف الاتحاد السوفييتي ودعمه اللاحق للعرب، لكن النظر إلى الستالينية وذيولها ومخلفاتها، كان أمراً يتّسم برؤية جديدة خارج نطاق المسلّمات، فقد كانت أمميته وعروبته تتجسدان في إطار المراجعات الفكرية والسياسية دون تبعية أو تقليد. ولعلّ الياس مرقص هو من اعتبر الستالينية مقطوعة الجذور عن الماركسية لافتقارها للروح الجدلية وأسس المعرفة، علماً بأن هذه الأخيرة لا تتوقف عندها المعرفة ، فقد كان ماركس ذاته متحرراً من النصيّة والعصبوية.

في حواري معه كان يكرّر نقد الثقافة المركزية الأوروبية حيث يتم الاستحواذ على الثروة والسلطة والعلوم والتكنولوجيا والسلاح والآداب والفنون والعمران ودورها السلبي على الهوّيات الطرفية أو بلدان الجنوب الفقير، لاسيّما المتعددة الأعراق والأديان، إذ سرعان ما تندلع الصراعات التي يتم تغذيتها دولياً، بضرب ثقافة بأخرى واندلاع العنف واحتدام الصراع وتباعد المشتركات حيث تكبر الفجوات، وهو ما تستفيد منه القوى الكبرى والمركزية الأوروبية بتشجيعها الصراعات بشأن الهوّيات في البلدان النامية.

وبمثل هذه النظرة الواسعة قدّم قراءات نقدية لفكرة “نهاية التاريخ” لفرانسيس فوكوياما و”صدام الحضارات” لصموئيل هنتنغتون، مثلما توقفنا طويلاً أمام بيان المثقفين الأمريكان الستين وحاولنا إجراء اتصالات مع مثقفين آخرين لمواجهة البيان الحربي الثقافي الأمريكي، وكان لنا حديث مع اتحاد الكتاب العرب ومثقفين آخرين.

وثمة سؤال قد وجهته له: كيف يمكن الحفاظ على الهوّية؟ واتفقنا بعد حوار مطوّل على إن أساليب القمع والطغيان لا يمكنها الحفاظ على الهوّية، مثلما أن الانعزال والانغلاق لا يساهم في بعث الهوّيات الفرعية، والعكس صحيح أي أن الحفاظ على الهوّية يتم بالتفاعل والتواصل والتعدّد والانفتاح، وهكذا فإن الإنسان يحمل أكثر من هوّية، وهو ما كان يشعر به النعيمي فهو بحريني قلباً وقالباً وعماني ويماني ومصري وسوري وعراقي ، وقبل كل شيء هو فلسطيني روحاً ووجداناً.

وكان قد سألني بحكم بقائي عدداً من السنوات في المنفى الأوروبي كيف تحافظ على الهوّية في المنفى وفي ظلّ التداخلات الكثيرة، لاسيّما وأن ثمة جوانب إنسانية، بحيث لا تستطيع منع التأثير فيها؟ قلت وأنا منتمي إلى بغداد ولكنني أجد نفسي موزع بين دمشق وبراغ وبيروت وهكذا. ولعلّ الشعور يكون قوياً في الغرب، ولكن جيلنا ظلّ أكثر تمسكاً بجذوره من الأجيال التي لحقتنا، ولاسيّما الجيل الثاني، ونُقلت له حواراً أداره المنتدى الأورومتوسطي حول الشمال والجنوب في الرباط في اكتوبر (تشرين الأول) العام 2000 وحضره نخبة من المثقفين حين قال أسامة الشربيني في معرض معالجته لازدواجية الهوّية: حين أكون في الغرب أشعر بأنني مغربي، عربي ومسلم، وحين أكون في بلجيكا أشعر بأنني بلجيكي وجزء من المجتمع الأوروبي، تلك مسألة إنسانية ناقشها النعيمي بانفتاح ورحابة صدر، وهو أمرٌ استعاده خلال زيارته إلى لندن لحضور جلسة للبرلمان البريطاني تضامناً مع الشعب البحريني في نهاية التسعينيات وتحدث فيها اللورد أفيري أيضاً.

وكان الجدل هل المكان يحدّد الهوّية؟ أم إن الهوّية التي تكوّنت بحكم اللغة والدين أكثر ثباتاً من غيرها، أما العناصر المتغيّرة فهي الآداب والفنون والعادات الجديدة التي تؤلف ثقافة جديدة أو تضيف إليها، والأمر يتعلّق بدرجة الوعي والنضج والمعرفة والاستعداد للتكيّف والاندماج، وقد يكون لكل منّا أكثر من هوّية، لاسيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار ماذا نعني بالهوّية، وتلك مسألة إنسانية لا تأتي بقرار، وإنما تتكون عبر إحساس الإنسان وشعوره بالانتماء.

قلت له لا هوّية خارج الإنسان بوصفه إنساناً أولاً ويدفع الذات إلى ابتكار أشكال جديدة لفهم الآخر ، ثانياً، وثالثاً يكشف لنا إن الهوّية ليست معطىً جاهزاً ونهائياً، وإنما هي تحمل عناصر بعضها متحرّكة ومتحوّلة على الصعيد الفردي والعام، وهو ما يجب إكماله واستكماله في إطار منفتح بقبول التفاعل مع الآخر، وهكذا فإن اختلاف الهوّيات هو أمر طبيعي سواءً داخل الوطن الواحد أو خارجه، إذا قاربناها من زاوية إنسانية تتعلق بالحق أولاً ومن ثم بالتنوّع والتعددية ثانياً.

IV

الهوّية والحقوق

تطوّرت نظرة النعيمي بخصوص حقوق “الأقليات”، وهو ما أطلقُ عليه ” حقوق المجموعات الثقافية” أو المجتمعات المتعددة الثقافات، لأن كلمة الأقليات تحوي في داخلها على الانتقاص من الآخر واستصغاره، بينما كلمة المجموعات الثقافية أو المجتمعات التعددية، تفترض المساواة، حتى وإن كان “إعلان حقوق الأقليات” الصادر العام 1992 قد جاء من عنوانه ليقول عكس ذلك، وليأخذ بالشائع الغالب، أي استخدام مصطلح الأقليات.

لا بدّ من عناصر لهذه الهوّية جوهرها يكمن في المواطنة والحقوق، وعندما نقول المواطنة فهي تعني الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة، وهي أمور انعكست في جدل الهوّيات الفرعية – الجزئية أو من خلال الهوّيات الأوسع والأكبر.

كان النعيمي يؤكد في أكثر من مناسبة أن لا مرجعية فوق مرجعية الدولة، حتى وإن كنّا نعارضها ونختلف معها، لأنه بدونها سنعود إلى مرجعيات تقليدية أي ما قبل الدولة، وأعتقد أن كلامه كان عميقاً واستباقياً، وقد بلور هذا الرأي بعد عودته إلى البحرين، وكان والشيخ علي سلمان رئيس ” حركة الوفاق” وكذلك مع “المنبر الديمقراطي” يعملون على هذا الأساس وأعتقد أن هذا الرأي ظلّ سائداً في أوساط الحركة السياسية البحرينية بمختلف تياراتها، حتى وإن تدهورت العلاقة ما بين السلطة والمعارضة.

وقد كشفت تجربة الربيع العربي، أن ضعف أو تفكك مرجعية الدولة، سيقود إلى الفوضى والعنف وتعدّد المرجعيات وغياب سيادة القانون، والأمر كان صارخاً في التجارب العديدة، سواءً في ليبيا أو العراق أو اليمن أو حتى مصر وتونس، حيث ظهرت مرجعيات مجهرية سواء كانت دينية أو طائفية أو مذهبية أو عشائرية أو مناطقية أو جهوية أو عائلية، واتخذ الصراع بُعداً استئصالياً، لاسيّما في ظلّ أمراء الحرب القدامى والجدد.

إن عدم الإقرار بالتنوّع الثقافي وبحقوق المواطنة كاملة وتجاهل التعددية سيفضي إلى تعميق الصراعات والإنقسامات والتناقضات داخل كل مجتمع، وذلك حسب النعيمي واحدة من نواقص الدولة العربية المعاصرة، وقد ذهبت بعضها إلى قيام وحدات قسرية أو فوقية أو أوامرية أو تسلطية، لبعض الفئات على حساب فئات أخرى، وهذا نجم عنه حسب النعيمي نتائج خطيرة وضارة في البحرين، قادت إلى استعلاء ومحاولة فرض الرأي بالقوة، ويعود ذلك إلى غياب أو ضعف المواطنة السليمة التي تأخذ بها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، التي تقر بالمساواة وعدم التمييز وعدم الاعتراف بالتفوق أو الهيمنة، وهو ما يطلق عليه الحق في الهوّية الثقافية للجماعات المختلفة التي ينبغي احترامها دون إهمال العوامل المشتركة ذات البعد الإنساني وقيم التعايش والتفاعل والوحدة.

كنت قد سألته وأين تضع تجربة مجلس التعاون الخليجي؟ وهنا استذكر الموقف الأول للجبهة الشعبية لتحرير البحرين، فقال لقد عارضناه عندما أعلن عن تأسيسه في 25 أيار (مايو) العام 1981 واعتبرناه محاولة سياسية لتطويق الحركة الوطنية في الخليج وإجهاض التجربة اليمنية الجنوبية ” الوليدة” عبر حشد قوى وإمكانات الخليج، ناهيكم عن وجود قواعد عسكرية متعددة، لكن تطور الأحداث جعلنا ننظر إليه نظرة أكثر واقعية من خلال رؤية المصالح المتبادلة والمنافع المشتركة، حيث بدأت تنشأ علاقات اقتصادية وتجارية وثقافية تطوّرت بحكم التجربة، بما فيها حرّية التنقل والحركة، وإن كانت بطيئة وحذرة.

وعدت لسؤاله هل يمكن أن يتطور المجلس ليكون نواة لمواطنة خليجية على غرار الاتحاد الأوروبي، حيث يسمح بحرية التنقل وحق الإقامة وتقارب المناهج التربوية وبعض القوانين المشتركة وسياسات موحدة على الصعيد الخارجي؟ فقال إن أمله أن يتحقق ذلك، لكن التراكم على هذا الصعيد لا زال محدوداً جداً، والهاجس الأمني عالياً، وقد يحتاج الأمر إلى تعاون وتنسيق خليجي على المستوى الشعبي لتطويره ليصبح كياناً اقتصادياً وسياسياً مؤثراً، وذلك يحتاج إلى مواطنة سليمة أساسها الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة ونحن بعيدون عنها.

ولم ينس في التعبير عن مخاوفه إزاء محاولات التشطير الداخلية والانقسامات الطائفية وتفتيت الدولة الوطنية، واختتم هذا المفصل بالصراع العربي- الإسرائيلي الذي دون حلّه لا يمكن تحقيق التنمية المنشودة والتطور الديمقراطي في الوطن العربي.

حاورته بعد تخلّيه عن قيادة جميعة العمل الوطني الديمقراطي فقد كان في غاية السرور وهو يعلن عن تقديم استقالته، وشاهدت وأنا ألقي لأكثر من مرة محاضرة في الجمعية وفي مهرجاناتها المتكررة، أن صاحبي ازداد تألقاً وهو يزيح عن كاهله المسؤولية لينسجم مع نفسه ويتعامل بصدقية المناضل النزيه أينما كان موقعه، مثلما شاهدت حب واحترام البحرينيين بمختلف توجهاتهم لعبد الرحمن النعيمي، ليس لأنه تعرّض إلى ما تعرّض له في غيبوبته الرهيبة، بل خلال حياته، ولمست ذلك من الحكومة بأعلى مراتبها ومن المعارضة بمختلف توجهاتها، وهذا الأمر تابعته خلال زيارتي للبحرين بدعوة من مركز الخليج لإلقاء محاضرة خلال اشتعال الانتفاضة في التسعينيات، وكان قد شجعني على تلك الزيارة، بل واعتبرني رسولاً في أية مبادرة إيجابية، حين قال إننا سنقابلها بكل جدية ومسؤولية.

خاتمة

ظلّت هوّية عبد الرحمن النعيمي واسعة ومتعددة، حتى وإنْ ضاقت وانكفأت هوّية الغير. بينما كانت هويته لا تقبل الآخر فحسب، بل تتفاعل معه في إطار إنساني، وإنْ سعت للحفاظ على خصوصيتها، فلكي لا تفقد جوهرها وتميّزها، وبذلك تضيع معالمها وتتضبب ملامحها، فقد كان انفتاحها دون انفلات، بحيث يؤدي إلى ضياع صورتها وصيرورتها.

الخصوصية لا تعني الانغلاق أو الانكماش على النفس، مثلما لا يعني الانفتاح، التماهي والتشتت وإلغاء الحدود مع الآخر كليّاً، لأن ذلك سيؤدي إلى طمس معالم الهوّية ويفقدها كينونتها، أما الانغلاق فسيعني قطع الطريق على التفاعل مع الآخر، من خلال تضخيم الذات، وفي كل الأحوال فإن ذلك سيؤدي إلى إضعاف المواطنة إحدى الركائز الأساسية للدولة العصرية التي آمن بها عبد الرحمن النعيمي، وأي إضعاف للدولة سيؤدي إلى ارتخاء أركانها ومفاصلها، وبالتالي سيقود إلى تشجيع الصراع وتقوية عوامل النزاع بين الهوّيات، سواء في داخل البلد الواحد، أو في إطار أوسع.
لم ينظر النعيمي للهوّية باعتبارها مظهراً آيديولوجياً، لدرجة تصبح فيه طائفة أو دين أو قومية منغلقة هي المعيار الذي يجري الاحتكام إليه، كما إنه لم يعتمد بعض المظاهر الشكلية على أهميتها، لأنها جزء من طرائق عيش الإنسان وهذه غير كافية للتعبير عن الهوّية، كالثياب مثلاً أو الأزياء الخاصة أو بعض الشعائر والطقوس الدينية أو الاجتماعية أو نوع الأكل أو غير ذلك.

كان أساس الهوّية لدى النعيمي اللغة والدين، فهما الأكثر ثباتاً، فحتى مسيحي الشرق فإنهم تأثروا بالإسلام وهو جزء من حضارة المنطقة ككل، أما العادات والتقاليد والفنون والآداب، فهذه جزء من المتغيّرات التي تحصل عليها بالتراكم والتفاعل والتداخل مع حضارات وهوّيات أخرى، تأخذ منها وتتلاقح معها وتضيف إليها، وتحذف ما يتجاوزه الزمن.

كان يستوقفنا ما حصل من حروب في المنطقة، لم تكن بعيدة عنها هوّيات تريد إركاعنا وأخرى تسعى للمقاومة، الأولى تريد اقتسام الغنائم وترسم خرائط التقسيم ، والثانية لا تزال متشبثة بالأرض والرفض والتحدي، وتلك عناصر الإعاقة حتى وإن اختلّت موازين القوى.

محاضرة ألقيت في منتدى عبد الرحمن النعيمي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى