عبد الرحمن منيف: المخيّلة السياسية (أحمد زين الدين)
أحمد زين الدين
انقضى عقد من الزمن على رحيل أحد روائيينا الكبار عبد الرحمن منيف. الروائي المترحّل في الستينيات والسبعينيات بين العديد من البلدان، والحائز أكثر من جنسية عربية، حتى ليكاد المرء يحار بين أصوله السعودية واقاماته الأردنية والعراقية والسورية واللبنانية. كاتب هو قبل ذلك خبير بترولي، كرّس حياته وقلمه للتأليف القصصي الموجّه، لقناعته بدور الأدب ووظيفته في كشف عيوب الواقع العربي، وكشف ما يعتور مجتمعاتنا من ضعف وشذوذ، والإسهام في زيادة الوعي والمعرفة والحساسية لدى الإنسان في بلادنا. الوعي الذي هو مفتاح لكل تقدم وتطور ورقي. والناس، على ما يقول في حواراته: يستطيعون تغيير واقعهم عندما يكونون أكثر وعياً.
انفردت روايات عبد الرحمن منيف بالتركيز على العوامل الذاتية لتخلف العرب، وعلى التعرية الداخلية لفساد الحكام وجهل المحكومين. المنظور الروائي لديه هو الإضاءة بالدرجة الأولى على المعطيات السياسية، والرواية جزء من آلية الإيديولوجيا. أداة نقدية ووسيلة تعبير أقدر من غيرها على رصد عناصر الحياة العربية وتحوّلاتها وتناقضاتها ومفارقاتها.
روايته تزدحم عادة بالثيمات والمفردات التي تعبّر عن الفضاء السياسي السلبي الذي يتحرك في ظله أبطالها. من الشعور بالهزيمة والاستلاب، إلى الحنق، والوعي الشقي، والذكورة المخصية، والعوالم الكابوسية. إلى الإحساس باللاجدوى والعدمية، كما نلمس ذلك في روايته "شرق المتوسط": "سأشد السيفون في المرحاض، وأترك كل شيء يُسحب إلى تحت: أفكاري الفلسفية، أحلامي، ماضيَّ، اسمي ، كل شيء، نعم كل شيء".
ربما كان الانطباع الأولي الذي يتولّد من قراءة عبد الرحمن منيف، انه اقتصر في كتاباته على استهداف الطبقة العربية الحاكمة، بسبب ممارساتها التعسفية والدموية وجشعها وظلمها. لكن الواقع ان عباراته وأوصافه تدل على رفضه ايضاً إذعان المحكومين لمصيرهم، واستسلامهم لقدرهم وتخاذلهم. عباراته تصدمنا بقسوتها، وهو يصف جلبة هؤلاء بأنها "أشبه ما تكون بأصوات جراء مخنوقة. أما الأيدي بحركتها البلهاء، فقد بدت كالخرق البالية تهزها ريح لا تُرى. والوجوه، آه لشدة ما كانت تعاسة الوجوه، عيون صماء ثقيلة، أفواه مطاطية تشبه فُروج الحيوانات بحركتها المتشنجة" (من الرواية ذاتها).
رواياته ذات المخيلة المسيسة تهدف في وسط تعددية أسلوبية، إلى نقد السلطة المحلية المتحالفة مع الخارج، بقدر ما تهدف إلى نقد الحرمان الجنسي، والتفكير الغيبي. وتحاول أساساً اكتشاف خلفية القهر والاستغلال التي أوجدها بريق التحديث المزيف، والتحوّلات الاقتصادية المرتبطة بنشوء طبقة هجينة طفيلية.
الأرض اليباب
يدين عبد الرحمن منيف طبيعة حياة العرب، وطبيعة الحكام الذين يبنون "ممالك صغيرة متجاورة ومتراصة، مثل مراحيض المقاهي والفنادق". ومنذ أولى رواياته "الأشجار واغتيال مرزوق" سنة 1973، تتمظهر الحياة الحضارية المتردية، والتهافت السياسي العربي المتمثّل بعيون الشرطة والمخبرين، عبر مطاردة منصور عبد السلام أستاذ التاريخ المفصول من جامعته لأسباب سياسية. وباغتيال مرزوق الذي يتماهى مع أشجار حقله، تُجدب الأرض، ويُقتل نسغ الحياة في كل مكان.
وفي "شرق المتوسط" التي طُبعت أربعة عشرة مرة، يخاطب البطل المناضل رجب اسماعيل الذي خرج من السجن الفرنسيين: "لو جئتم بكتبكم إلى شاطئ المتوسط الشرقي لقضيتم حياتكم كلها في السجون".
وتتضافر قسوة الحكام مع قسوة الطبيعة في روايته "النهايات" التي تتحدث عن القحط واليباب، وزوال الأشياء، وانقراض الدواب والأشجار والبشر. ويموت فيها بطلها عساف شيخ الصيادين. رواية يدل عنوانها على النهايات التي ستواجه العالم العربي.
ويقابل البريطانيون الأميركيين في "سباق المسافات الطويلة" عام 1977 للإستيلاء على ثروات الشرق النفطية، من خلال تأميم صناعة النفط أيام حكومة مصدق في ايران. وهي الرواية الأولى التي تتناول موضوع النفط، ودوره في التحوّلات الإقتصادية والإجتماعية، وتبدّل نمط العلاقات بين الناس، وهو الموضوع الذي سيتوّج بعد ذلك ملحمة منيف الخماسية "مدن الملح" عام 1984.
ما انفك عبد الرحمن منيف يرى في كتاباته وموضوعاته الروائية مهمة نضالية ندب نفسه لها، وعملاً سياسياً يوازي العمل الحزبي الذي مارسه، ولم يفلح فيه، بقدر ما ظلت عينه على الفن الروائي الذي تميّز فيه بموهبة سخّرها لوضع القضية التي أراد أن ينافح عنها في إطار أدبي وجمالي خلاب. والغريب أن الكاتب الذي دوّن الآف الصفحات، طمس ما تفيض به ذاته من عواطف شخصية، ومن مشاعر العشق والهوى. كان متبتلاً في محراب الرواية الملتزمة بمعاناة المجتمع العربي. حتى عندما تحدث عن موضوع الحب، كما في روايته "قصة حب مجوسية" التي تتقد بحب رومانسي لا يذوي مثل نار المجوس. كان الهاجس السياسي يتعقبه، وكان البُعد السياسي سبباً في اخفاق زواج الراوي بليليان الأجنبية، لأن بين الإثنين فارقاً حضارياً وسياسياً، يتمثل في الفرق بين الشرق والغرب.
وآخر ما كتبه منيف ثلاثية "أرض السواد" 1999. وهي رواية تاريخية عن فترة حكم داود باشا في العراق. والثلاثية تروي صعود الباشا الإصلاحي، وتصديه للمندوب البريطاني في العراق "كلاوديوس ريتش". وربما أوحت له إقامته في العراق بالرغبة في كتابة هذه الرواية الضخمة. وهو الرجل التي لم يفرق في حياته بين بلد عربي وآخر.
الذات النقية
لكن ما فتئت "مدن الملح" بأجزائها الخمسة: "التيه ـ الأخدود ـ تقاسيم الليل والنهار ـ المنبت ـ بادية الظلمات" ذروة كتاباته الروائية التي ذاعت في كل مكان، لا سيما أن موضوعها الروائي وانعكاساته الاجتماعية والثقافية والسياسية ألمّ بها منيف إلماماً عميقاً بحكم اختصاصه بهندسة النفط من جهة، وديناميته القصصية من جهة أخرى. ويرى بعض النقاد ممن درسوا عناوين رواياته، ان عنوان"مدن الملح" ذو دلالة عميقة تؤشر إلى مصير هذه المدن التي أقيمت في صحراء الجزيرة العربية، والمحكومة بالذوبان والتلاشي بعد نضوب النفط. ووصفها البعض بأنها مدن هشة لا تصمد أمام رذاذ الماء. والأرض المالحة لا تنبت زرعاً، والماء المالح لا يصلح للشرب أو الريّ. "النص الموازي لمحمد دريدي".
والوقوف عند هذه الرواية من المحطات الأساسية لفهم سيرورة البناء السردي لدى عبد الرحمن منيف. الرواية تُبرز الاحتقان الشعبي المحتبس في زنازين الخوف والسلطوية والإستغلال. وهي تنسج فضاءها عبر إعادة تركيب الوقائع الجديدة اقتصادياً واجتماعياً والمتزامنة مع استخراج النفط، في لحظة انقلابية في العلاقات الداخلية، والتقائها بقوى وأنماط خارجية. لحظة لم تحلّ لتشهد مجد الإنسان، بقدر ما حاولت تحطيمه واقتلاعه من جذوره وعفويته، لصالح ارتقاء طبقة طفيلية مستغلة، وازدياد آلية القمع لضبط ايقاع الأعمال والمحافظة على استمرارية الإنتاج. ولكن هذا الحدث وما أعقبه من تطورات عمّق الفوارق بين العالم التكنولوجي الوافد والعالم الأسطوري المقيم. وعملية التنقيب في منطقة صحراوية، طرحت اعادة صياغة المعادلة بين القوي والضعيف، بين الواقع والوهمي. وباكتشاف النفط لم تبق حران ملكاً لأحد، أو مدينة لأحد. لم يبق الناس أيضاً كما هم، فانقلبت أحوالهم وتبدّلت مصائرهم. والإنتقال الإفتراضي من البداوة إلى الحضارة كان مخاضاً شاقاً شهدت عليه رواية عبد الرحمن منيف، وكان انتقالاً متعدد الوجوه ومتعرجاً ومتداخلاً.
البدو المشبعون بالذهنية السحرية الدينية ساورتهم الشكوك والمخاوف والأوهام "من أصحاب العيون الزرق والأسنان الفرق" ومن أمور غامضة يحضّر لها هؤلاء. وفسروا الوقائع والأحداث التي طرأت عليهم تفسيرات سحرية، فموت مربان ليس غرقاً، إنما قُتل بالسحر، وابن راشد وضع نهاية لحياته، مذ وضع يده في أيدي الأميركيين، والأجنبي يجلب معه دوماً ريحاً شريرة. وسائر الأميركيين عفاريت أو كفار أو جن، كذلك يشكل متعب الضمير القلق لأهل وادي العيون، تستبد به الوساوس، وينذر بدمار يتربص بالجميع، ويمتلئ إحساساً قوياً بالنهاية، وما إن تبدأ الآلات حركتها حتى يصرخ صرخة ثاقبة موجعة إيذاناً ملعوناً بالنهاية.
هذه الإيديولوجية السحرية المعادية كبحت جماح الإصلاحات البنيوية الفكرية العميقة التي كان من المفترض ان تُحدثها عمليات التنقيب. والمنقب الأميركي ظل يتفحص العربي من حوله، يستجوبه، يصوره في أعراسه وأفراحه ومآدبه، يرصد حركاته، يسجّل صوته، يتصرف معه كما يتصرف العالِم في مختبره مع كائناته وحيواناته .
لم يبق للعمال العرب الذين انخرطوا في التنقيب، وعانوا من بؤس العلاقات البيروقراطية إلا الغناء. إلا صوت صويلح العذب الذي يحرّك الأشواق الثاوية في قلوب الرجال، يفجر المكبوت، ويغني أياماً ماضية وحياة توشك أن تنتهي. متعب يعيش زمنه المتماثل بذاته، زمن اللاتغير واللاصيرورة. إنه مرآة الذات النقية التي لم يعكر صفوها دخيل. متعب يملأ فضاء الجزء الأول الضخم من الرواية "التيه" بوعيه الماضوي اللاتاريخي، الرافض لمجيء الغرب الأميركي. يبقى على هويته القائمة والماثلة على الدوام. وإذا كان عبد الرحمن منيف يمتح من معطيات ووقائع موثوقة وثابتة يعرفها عن كثب بحكم خبرته النفطية، إلا انه يعيد تأسيس الأحداث او تركيبها او تعديلها بوطأة الوظيفة الإيديولوجية التي ينيطها بالعمل الروائي، حيث يختلف الفضاء التاريخي، عن الفضاء الروائي الذي يُعاد بناؤه في ضوء المنظور السياسي والإيديولوجي للكاتب.