عبد اللطيف عبد الحميد: سينما الأحلام
الحلم في أشرطته يكاد يكون المادة الأولية لصياغة معظم أفلامه التي عمل عليها منذ تخرجه في المعهد العالي للسينما بموسكو عام 1981؛ مستلهماً تجربة (سينما المؤلف) ككاتب لأفلامه العشرة التي حققها حتى الآن؛ فالرجل المولود في حمص عام 1954 كان قد بدأ حياته كموسيقي ومطرب بعد دراسته للموسيقى. ذكريات سوف يعود إليها عبد اللطيف عبد الحميد في فيلمه الروائي الأخير (العاشق – 2011 – مؤسسة السينما) مستعيداً سيرة الشاب الصغير الذي كانه؛ وملامساته الأولى للفن السابع عبر حضور الفتى اليافع وقتها لأفلام (شارلي شابلن) الصامتة في صالات اللاذقية.
الحياة قدّمت الكثير من المقترحات لصاحب (ما يطلبه المستمعون – 2003) منعكسةً في شخصيته الطفولية كقدرةٍ على صياغة المفارقة من الدهشة التي تعتريه أمام كل موقفٍ أو حادث عابر؛ فمن هذا وذاك؛ يلتقط السينمائي السوري مادته الفيلمية الشفافة بشعريةٍ بالغة، ساخراً من شتى أنواع القبح والقمع الاجتماعي والسياسي والأبوي: «لم نشعر أنا وإخوتي كيف أن أُمّنا ذات صباح، أنجبتْ لنا أخاً خامساً، فقد ولِد كارهاً للبكاء والكلام لاحقاً؛ ورحل إلى العالم الآخر بعد اثنين وأربعين عاماً من حبه للصمت والموسيقى .. كما أنني لم أفلح طيلة تلك الفترة بأن أجعله يلفظ كلمة (يوغوسلافيا)».
عام 1948 يدخل الجيش السوري إلى شمال فلسطين ليحررها. ويكون والده في عداد القوات المتقدمة للتحرير؛ فتلفت انتباه الأب أثناء التقدم في الشمال الفلسطيني شجرة زيتون، ليقرر أخذ غصن منها ليزرعه في قريته في ريف اللاذقية بعد أن ينتهوا من تحرير فلسطين التي لم يحرروها طبعاً – يحكي المخرج عن ذكريات طفولته ويتابع: «يعود والدي مصاباً في ساقه مع القوات المنسحبة من مكان آخر. وتظل فلسطين وزيتونها حسرة في قلبه. وبعد عشرة أعوام على النكبة، أي في عام 1958، يتم إرسال والدي مع اثنين من رفاقه في الجيش السوري في مهمة سرية كمستطلعين وراء خطوط العدو… وتشاء الصدف أن يلتقي والدي بشجرة الزيتون تلك مرة أخرى.. وبعد انتهاء مهمته يأخذ والدي غصناً منها ويعود به ويزرعه في بيتنا في بلدة (فيق) حيث كان يخدم في الجولان المحتل حالياً.. وبحكم عمل والدي كضابط في الجيش سوف نأخذ هذا الغصن من الجنوب السوري إلى الشمال في حافلات تلك الأيام؛ وفي القرية يغرسه والدي في صدارة أرض جرداء؛ ثم يكمل في اليوم التالي غراسة الأرض كلها بالزيتون.. وينمو الكرم مع مرور السنين وشجرة الزيتون الفلسطينية تتصدره وقد بدأت تعطي ثمارها بسخاء».
الشجرة الفلسطينية
في عام 1983،. وفيما كان (عبد الحميد) يعمل مع المخرج محمد ملص في فيلم (أحلام المدينة) سيأتيه خبر وفاة والده المفاجئ بعد أربع عشرة ساعةً من وفاته لأن أحداً من إخوته لم يعرف إليه سبيلاً.. فقد كان يوم عطلة؛ والرجل كان مشغولاً بالتصوير في دهليز إحدى الحارات الدمشقية؛ ولا أحد من معارفه استطاع أن يجده: «لقد دُفِنَ والدي ولم أستطع تقبيل جبينه قبلة الوداع.. وصلتُ إلى بيتنا في القرية مع الفجر لأرى أن والدي قد دفن تحت شجرة الزيتون الفلسطينية التي ما تزال إلى اليوم تعطي ثمارها بسخاء».
أثناء دراسته في موسكو قام صاحب ( قمران وزيتونة – 2002) بتحقيق العديد من الأفلام الروائية القصيرة كان أبرزها: (تصبحون على خير) و(رأساً على عقب) إضافةً لفيلمين تسجيليين هما (أيدينا) و(أمنيات) اللذان حققهما عام 1983؛ إلا أنه سيعمل عام 1987 في فيلم (نجوم النهار – مؤسسة السينما) كممثل رئيسي في الشريط الذي أخرجه أسامة محمد؛ قبل أن يعود مجدداً عام 1988 بسيناريو فيلمه الروائي الأول (ليالي إبن آوى)؛ الشريط الذي سيقارب فيه لأول مرة بيئة الساحل السوري وجباله؛ متكئاً على إرثٍ معرفي وحياتي كبيرين في قراءة البيئة التي أخلص لها؛ من دون أن يخونها أو يزوّرها؛ أو يحاول مكيجتها؛ ولكن البيئة هنا لم تكن الهاجس لدى (المخرج الشاب) اللقب الذي حمله لسنوات طويلة؛ بل هو الرغبة في تشريح عمق الهزيمة التي مُنيَ بها الجيشان السوري والمصري في حرب 1967؛ وما تركته هذه الهزيمة في صميم تكوين الأجيال اللاحقة.
(سيف دمشق الذهبي – 1989). (الزيتونة الذهبية) في مهرجان حوض المتوسط بكورسيكا – (1989). (الجائزة الذهبية) من مهرجان الفيلم الأول الدولي في أنوناي بفرنسا – (1990)؛ جميعها جوائز مهمة حصدها فيلمه الأول؛ ليكون (رسائل شفهية – 1991) هو شريطه الثاني الذي سيكون مفاجئاً وصادماً من حيث استمرار عرضه في الصالات السورية لسنوات عديدة وبنجاح جماهيري منقطع النظير؛ محققاً مفارقة في معادلة شباك التذاكر والنقاد معاً: «في عام 1966 رأيتها تسبح في النهر في فستانها الشفاف الأبيض وهي تناديني كي أسبح معها، فقلت لها بأن تنتظرني ريثما أبول .. واستيقظت وقد بلت في فراشي .. ومن هذا الحلم الصغير كان فيلمي (رسائل شفهية)».
نال هذا الشريط وقتها الجائزة البرونزية في (مهرجان فالانسيا لدول المتوسط /اسبانيا/ 1992). إضافةً لـ(جائزة الجمهور الشاب في مهرجان مونبليه في فرنسا). و(جائزة اتحاد النوادي السينمائية الأوروبية – مونبلييه عام 1992).
الكوميديا المريرة والساخرة ميزت تجربة صاحب (خارج التغطية – 2007) وعن هذا يقول شارحاً سر ذلك: «يسألني الشباب دائماً: كيف نكتب ونصنع الكوميديا؟ فأجيبهم: ليست لديّ وصفة سحرية جاهزة لذلك، بل لديّ نصيحة واحدة هي: كن أنت.. عبّر عن نفسكَ كما تحسّ وكما ترى الحياة؛ هذه الحياة تقدّم لكَ الكوميديا كما تقدم لكَ التراجيديا؛ لا تفكر في الأمر كثيراً؛ لأن واحدة منهما ستختارك أو الاثنتين معاً فتصنع ما يسمى بالكوميديا التراجيدية».
لكن ما الذي يقصده بـ(كوميديا تراجيدية)؟: «منذ فترة كنتُ ماشياً في أحد شوارع دمشق؛ صادفتُ صديقاً كان على عجلة من أمره .. لم يسلّم عليّ ولم يصافحني بل انقضَّ عليَّ يعانقني وهو يروي لي آخر نكتة سمعها؛ ثم تركني أقهقه وحيداً مثل الأهبل في الشارع الذي تابعتُ السير فيه مواصلاً الضحك؛ وفيما كنتُ أضحك رأيتُ بائع أحذية على الرصيف الآخر وقد فارق الحياة بين أحذيته إثر نوبة قلبية»!
نسيم الروح
كل فيلم من أفلام هذا الفنان المتعدد في مواهبه له قصة حلم؛ فتدوين الأحلام كسيناريوهات واستعادتها عبر الكاميرا؛ تبدو جوهر هذه التجربة الخاصة التي لا تعتبر الواقع إلا حلماً من نوعٍ آخر؛ ففي اﻷول من شباط 1996 كان المخرج والسيناريست قد ربط منبّهه على الساعة السابعة صباحاً بعد طول سهر إلى أن خلد إلى النوم؛ وهناك؛ أي في النوم؛ رأى (عبد اللطيف) نفسه مستلقياً على حافة وادٍ سحيق مليءٍ بالضباب اﻷبيض الناصع؛ وفجأةً، ومن عمق هذا الضباب راح يرى فم امرأة مطليٍاً بأحمر الشفاه. تقدم الفمُ منه سابحاً في الفضاء … بحث عن ملامح صاحبة الفم فلم يجدها. الضباب كان يلفها من كل اﻷنحاء .. والفم المطلي بأحمر الشفاه تقدم من فمه وقبّله، وما إن قبّله حتى رنَّ المنبّه ورن جسده كله مرتجفاً.
في اليوم التالي لملم المخرج السينمائي نفسه وأوراقه؛ خارجاً من بيته في حي (ركن الدين) الواقع على سفح قاسيون؛ وهو ما يزال تحت تأثير الحلم الشفيف: «أذكر أنني جلستُ في مقهى (الهافانا) أفكر محدّقاً في البشر داخل وخارج المقهى؛ إلى أن دلف رجل يبدو عليه التعب وجلس غير بعيد عن طاولتي؛ ﻻ أعرف كيف أدركتُ أنه يعاني من صداع شديد، ما اضطرني إلى سؤاله عن حاله: (عم يوجعك راسك)؟ أصيب الرجل بالدهشة .. ناولته حبتي (إسبرين) من حقيبتي؛ وعندما تحسنتْ حالهُ طلبَ مجالستي، وأخذ يشكرني طوال الوقت، ورحنا نتحدث عن ماضينا وحاضرنا وكأننا نعرف بعضنا بعضا منذ اﻷزل».
في الليل هب النسيم في روحه المشبعة بالحلم وأحمر الشفاه وبوح صديقه رجل (الإسبرين) فجلسَ إلى طاولته وشرع بكتابة سيناريو فيلمه (نسيم الروح). حلم كان قد تنازعه لكتابه هذا الشريط الذي حصد العديد من الجوائز كان أبرزها: (جائزة لجنة التحكيم الخاصة وجائزة الجمهور الشاب في مهرجان جربا بتونس 1999. وجائزة أفضل ممثل في مهرجان الفيلم العربي بباريس 2000).
هذا الفيلم ومن قبله (صعود المطر – 1994) وبعده (خارج التغطية – 2007) أفلام أكدت أن تجربته السينمائية لم تقتصر على الريف السوري؛ بقدر ما كانت دائماً عن المدينة السورية؛ عن الشخصية السورية التي حاول هذا الفنان تهجئة مراراتها وخيباتها الجماعية؛ مثلما كان عصفور بريدها الطفولي الحالم؛ فالمدينة كما هو الريف الذي شاهده الجمهور بعين الحب في أفلامه؛ كان بعيداً عن أي ضغينة للقرية أو شعور بالدونية نحو المدينة؛ بل أجمل بكثير من مخرجين جايلوه وكانوا يصنّفون أنفسهم بأنهم عشاق دمشق وحراس جمالها: «إذا أردت أن تظل روحك شابة فحاول أﻻ تحسد أحداً، وأﻻ تغار من نجاح أحد، بل على العكس، افرح لنجاح اﻵخر وبارك له في ذلك».
حساسيته السينمائية العالية تنهي اليوم العمليات الفنية الأخيرة على فيلمه الأحدث (حب في الحرب – مؤسسة السينما) مطلاً هذه المرة على خماسية تحاول المقاربة بين ثنائية الكمان والدم؛ بعدما أثار فيلمه (العاشق) ردود فعل متباينة بسبب الهجاء الذي وجهه لانتهازيي الحزب الحاكم في بلاده؛ خاتماً كادره الأخير من الفيلم بصرخة: «واحد واحد واحد؛ الشعب السوري واحد». مفارقة كتبها على لسان شخصية مخرج شاب يعمل على منتجة فيلمه الأول يحمل العنوان نفسه: «قالت: قُلها ألف مرة؛ فقال كالببغاء: ألف مرة. فبكتْ ألف دمعة، ونام ألف ساعة؛ ولما استيقظ رأى عصفوره ميتاً من الجوع».
صحيفة السفير اللبنانية