عبد الله الخاني : الشاهد !!! (1)
الوزير والدبلوماسي عبد الله الخاني في حوار مطوّل وحصري وخاص لـ «الوطن»: والدي قال لي: يرضى عليك لا تتوظف .. والرئيس قال لي: لا تقلق هذه ليست وظيفة.
عندما قرأت كتابه (جهاد شكري القوتلي) قبل سنوات، وكتبت عنه لم أكن أتخيل أنني سأحظى بلقائه، وقد ذهب الظن بعيداً في رسم معالم شخصيته، وبتواضع الكبار أرسل يومها شاكراً لكلماتي التي لم تكن سوى هوامش لرجل معاصر معايش للرئيس شكري القوتلي. وحين تفضل رئيس التحرير بأن أرافقه لزيارته كنت متهيباً، وحين وجدته بقامته المشدودة ينتظرنا خارج بيته سعدت لصحته، وأدركت أنه متطابق مع فكره ومراحله وحياته.
عبد الله الخاني المحامي والديبلوماسي والوزير والسفير، تاريخ سورية الشاهد، الذي بقي على صلة بموقع القرار من عهد الرئيس شكري القوتلي إلى عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد… والذي يقول: «ما حققته في حياتي كان بجدي واجتهادي، وليس لانتمائي لأي فئة أو حزب، ولا لقرابتي لأحد، لم يدخل يدي قرش حرام، ولم يخرج من يدي قرش حرام، ولم أحصل يوماً إلا على راتبي…».
علمه وإتقانه للغات جعله مع الرئيس شكري القوتلي، وجعل الاختيار الأممي العالمي يقع عليه ليكون عضواً في أعلى محكمة دولية (محكمة العدل الدولية) وليكون في اللجنة التي عملت على دساتير الدول التي نشأت من تحلل يوغوسلافيا، وليكون في أعلى محكمة رياضية في العالم.
عبد الله الخاني… تجاوز تسعة عقود، وها هو يدلف إلى العقد العاشر، وكله همة وحيوية، يعيش حياة هادئة هانئة في دمشق، لا يغادرها، بل يتعشقها ويتألم لحالها، وشأنه شأن المنتمين الحقيقيين يأنس للشام ويقول: لم يبق سوى القارة المتجمدة لم أزرها، وما من بلد أعظم من دمشق، لذلك أعيش فيها بما يأتيني من تقاعدي في محكمة العدل الدولية، وثروتي الحقيقية: صحتي وأسرتي وأصدقائي وسمعتي.. «الوطن» تفتح أوراق الأستاذ الخاني الغنية، وتحترم رغباته في أن يكون شاهداً منصفاً، لا أن يكون متحدثاً عن نفسه!!
يبدأ الأستاذ الخاني جلسته بقوله: أنا الفاني عبد الله الخاني…! وحين تنثال الذكريات وتعصف الذاكرة نكتشف ما يعجز عنه الفناء… الانتماء والوطنية والتواضع والزهد والإحساس بالآخر والإنصاف.
بدأت حياتك مع الرئيس شكري القوتلي، ولك عنه كتاب هو أول كتاب في محاولة الإنصاف لهذا الرجل الرئيس. ماذا عن هذه المرحلة وعن علاقتك بشكري القوتلي؟
بعد أن تخرجت في كلية الحقوق بدأت العمل في مكتب المحامي نعيم الأنطاكي لأتدرب على المهنة، وقد كسبت كثيراً من هذه التجربة، لأن الأستاذ نعيم الأنطاكي كان أمهر المحامين في هذا البلد، وكان يسير على الطريقة الأوروبية أو الطريقة الحديثة في المحاماة، لذلك كان محامياً لأكثر الشركات والسفارات ولعدد كبير من المؤسسات الأجنبية واكتسبت أنا منه كثيراً، كما أنه دعمني لأنني أتقن اللغتين الإنكليزية والفرنسية إضافة إلى لغتي العربية، في وقت لم يكن موجوداً بين خريجي كلية الحقوق من يتقن واحدة من هاتين اللغتين.
عملك في القصر الجمهوري كان انتخاباً أم..؟
اتصل بي في أيلول 1948رئيس الجامعة الدكتور سامي الميداني، وكان على معرفة بي لأنني كنت أدرس مع ابنه عدنان، ولأنه كان يعاملني مثل أولاده، طلب رؤيتي وكنت أظن بأنه سيوكل إلي عملا في الجامعة، وعندما ذهبت سألني «أنت منتسب لأي من الأحزاب» أجبته «لا»، فتابع قائلاً «فخامة الرئيس يريدك اذهب إليه»، فأجبته باندهاش «فخامة الرئيس لا يعرفني ولا يعرف شخصي ولا حتى أنا أعرف شخصه»، فقاطعني قائلاً «اذهب واعرف ما يريد منك»، فقلت له «لا.. لماذا أذهب.. إذا كان الأمر متعلقاً بوظيفة أو أي أمر آخر فأنا لا أعرفه»، ثم شدد علي بالقول «اذهب كما أقول لك»، فقلت «لن أذهب إلا معك».
و بكرم أبوي قبل طلبي، وذهبنا معاً، وكانت الساعة الثانية بعد الظهر، نزل الرئيس لاستقبالنا وقال لي «سأجهز لك غرفة هنا وسيضعون لك راديو كي تتابع لي مناقشات مجلس الأمن في باريس، وأنت تعرف أنا ليس لدي الوقت كي أتابعها، وفي النهاية من يقم بهذا الأمر فإنه يقدم خدمة لوطنه، لذلك أتمنى أن تباشر من الغد»، واللافت أنه في البداية سألني عن حال نعيم الإنطاكي أستاذي ومدربي في مهنة الحقوق، ثم تركنا وذهب، ولكنني عدت وأخبرت الأستاذ نعيم الأنطاكي بما حدث، فقال «هذا أمر من فخامة الرئيس ليس لك أي خيار»، وفي وقتها كان مجلس الأمن يعقد اجتماعاته في قصر في باريس، وكانت هيئة الإذاعة البريطانية تنقل المناقشات التي كانت تجري فيه مباشرة، وفي حينها كان مجلس الأمن يناقش قضية فلسطين وكان الوفد السوري برئاسة فارس الخوري، والوفد اللبناني برئاسة رياض الصلح، والوفد المصري برئاسة محمد صلاح الدين، والوفد الأميركي برئاسة السفير استاتينوس، وكانت المناقشات تجري باللغتين الفرنسية والإنكليزية، وكنت تدربت في الجامعة الأميركية على الترجمة الفورية، وبدأت أترجم مباشرة هذه المناقشات إلى اللغة العربية، ومن ثم أنقلها إلى فخامة الرئيس القوتلي، فكان يطلع عليها ويرسل ملاحظاته برقياً إلى رئيس الوفد عن طريق خالد العظم الذي كان وزيراً مفوضاً في باريس، وهكذا بقيت أقوم بالعمل من أيلول حتى كانون الأول عطلة عيد الميلاد، وإضافة إلى ذلك كنت أعطيه نشرة أخبار ما كان يجري من أخبار أساسية رئيسية في العالم، لأنني كنت أتابع الإذاعات وأقرأ الصحف الأجنبية والمحلية، ويظهر أنني كنت موفقاً في عملي، وكان الرئيس مسروراً بي، فأراد أن يبقيني في القصر. وفي كانون الأول عندما توقف مجلس الأمن عن المناقشات وذهب الأعضاء إلى منازلهم لمناسبة أعياد الميلاد، جئت إلى فخامة الرئيس وقلت له «أريد أن أستأذنك بالانفكاك كي أعود إلى المحاماة» لكنه رفض وقال لي «أنا أريد منك أن تبقى هنا»، وطبعاً أحضر المسؤول عن الأمانة العامة كي يفتش لي عن وظيفة تناسب ما أقوم به من مهام وبمكانة جيدة، وبالطبع هذا الأمر أثر فيّ كثيراً وقلت له «فخامة الرئيس أنا لم أطلب الانفكاك من أجل مرتبة أو نقود، لكن والدي قال لي: يرضى عليك يا بني لا تتوظف، وبالنسبة لي أنا لا أستطيع أن أخالف أوامر والدي»، فأجابني الرئيس قائلاً «لا تقلق هذه ليست وظيفة، لن تخالف أوامر الوالد»، فأجبته بأن هذا شرف كبير بالنسبة لي، وأن أخدم وطني من خلال هذه المهام إلى جانبك، فقال لي «بارك الله، اذهب إلى عند فؤاد محاسني الذي كان والد مروان، والأخير اليوم هو رئيس مجمع اللغة العربية، وكان زميلاً لي في الدراسة بمدرسة الفرير، وهكذا عاملني الرئيس شكري القوتلي مثل ابنه، وأصدر مرسوماً كي أباشر بعملي.
ماذا اكتشفت من أشياء في هذه المرحلة.. ما أقصده صورة الرئيس القوتلي غير معروفة للآخرين؟
في البداية أنا لم أكن من أتباع الرئيس القوتلي، وقد كنت إلى حد ما مع المعارضة.
….. لم تكن مع الكتلة؟
لا لم أكن مع الكتلة، بل كنت مع المعارضة إلى حد ما، وبصدق لم أشتغل بالسياسة من قبلها.
مَن المعارضة التي كنت معها؟
المعارضة يومها كانت مثل سامي كبّارة في جريدة «النضال»، وأنا عملت في هذه الجريدة، لكنني بعد فترة أنفت ورفضت الطريقة التي كان يملي عليّ من خلالها الأوامر وحتى إن المقالات الرئيسية كان فيها هجوم قذر، فأنا أحترم المعارضة المهذبة والمدروسة والمبنية على أسس واضحة وبرامج عمل سياسية لخدمة الوطن. نعم… أنا أحترم المعارضة المهذبة والمبنية على برامج وأسس، وهذا بسبب اطلاعي على أسلوب المعارضة الموجودة في الخارج.
أخبرنا بأمر لا تنساه عن الرئيس القوتلي، تجلّه به وهو في الوقت نفسه خاص ولا أحد يعرفه؟
كان دائماً يقول لي اشتر لي قلماً، كي يكتب به، فكنت أحضر له قلم «باركر» وأقدمه له، فكان يكتب به لكن لم يكن يعجبه، ثم ينظر إليّ ويقول «أريد قلمك» فكان يكتب بقلمي، وحصل هذا الأمر عدة مرات، وكان معي حينها قلمي من «الستيلو» وأصبح القلم الوحيد الذي يكتب به، والطريف في الحادثة أنه عندما تحققت الوحدة بين سورية ومصر، وعلى الرغم من أنهم وضعوا لنا أجود الأقلام والقرطاسية، إلا أن الرئيس القوتلي كان يطلب مني دائماً أن أعطيه قلمي، وبقلمي «الستيلو» وقّع الوحدة بين سورية ومصر…..
هل تحتفظ بهذا القلم؟
احتفظت به مدة من الزمن، لكن فيما بعد أقاموا ندوة عن الرئيس شكري القوتلي في القيادة القومية في مركز المعلومات القومي، وطلبوا مني محاضرة عنه، وقد بدؤوا يومها بتأسيس متحف عنه في القيادة القومية، وفيه مقتنيات ممتازة له، وما كان مني إلا أن قدمت هذا القلم.
ألم يتأثر عملك خلال الانقلابات المتعاقبة؟
في الانقلابات أنا بقيت في القصر الجمهوري، وكان الانقلاب الأول مع حسني الزعيم قد تهيأ منذ الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، وفي البداية عندما اتُخذ قرار بوقف القتال، وكانت القوات السورية وصلت إلى جنوب «سمخ»، وهي القوات الوحيدة التي استطاعت خرق خط «إيدين» الذي كانت أقامته بريطانيا على الحدود خوفا من هجوم ألماني من الشمال، استطاعت القوات السورية وحدها خرق هذا الخط، واستولت على مستعمرة «هاياردين» واستولت على «الحولة» وعلى بحيرة «طبرية» ووصلت إلى «سمخ» في الجنوب، وكانت المفاوضات تجري بيننا وبين إسرائيل لعقد هدنة بعد أن وقعّتها مصر معها، وكنا نصر في سورية على أن يكون خط الهدنة هو سمخ، في حين كانت إسرائيل تصر على أن يكون خط الهدنة هو خط إيدين وهو الخط الدولي الأساسي، وهذه المفاوضات هي التي أبقت حسني الزعيم رئيساً للأركان أو قائداً للجيش، في حين كان وزير الدفاع خالد العظم يريد الاستغناء عنه لأنه كان يخشى من تصرفاته لأنه لا يثق به، لكن الرئيس القوتلي كان يقول له «عليك بالصبر قليلاً لأن لدينا مفاوضات مع إسرائيل وهو من يشرف عليها، وإذا قمنا بتغييره فربما يثير الأمر بلبلة في المفاوضات» وبكل أسف بقي حسني الزعيم رئيساً للأركان وقائداً للجيش، وكان متعاوناً مع العقيد البستاني في توريد المواد الأولية إلى الجيش، وحصلت وقتها فضيحة «السمن المغشوش»، وفي وقتها خشي حسني الزعيم على نفسه من المحاسبة والمحاكمة، هذا أعطى مناسبة لفيصل العسلي كي يهاجم حسني الزعيم في مجلس النواب بشدة، فجاء حسني الزعيم مع بعض الضباط إلى شكري القوتلي كي يحتجوا ويطالبوه بأن يلقي القبض على فيصل العسلي، ويقوم بتسريحه من المجلس كنائب وتجريده من الحصانة، لكن عدم تنفيذ مطلبه من الرئيس القوتلي بقي في نفسه، وبأنه الزعيم الذي يتعرض للهجوم، وليس هذا فقط بل اتهم الجيش السوري بالتخاذل!! مع العلم بأن الجيش السوري هو الوحيد الذي وصل إلى «سمخ» على الرغم من أن إمكانياته بالأسلحة كانت محدودة جداً، ففرنسا لم تترك أسلحة لسورية، ومع ذلك استطاع شباب الجيش السوري أن يحقق هذا النصر، ورغم ذلك شُنّ عليهم هجوم في البرلمان، وثارت نقمة في البلد على الجيش، وفي النتيجة التي وصلنا إليها، فخرجت تظاهرات، وكانت كبيرة، وكان التجمع في منطقة الحريقة واجتمعت كل الأحزاب هناك وكانت: حزب الشعب، الحزب الشيوعي، حزب البعث، حزب فيصل العسلي، وحزب الإخوان المسلمين، كلهم اجتمعوا في الحريقة، وأغلقوا المحلات في سوق الحميدية، واتجهت جماعة فيصل العسلي إلى محل أسلحة صيد لرجل أرمني في سوق الخجا، فهجموا عليه وأخذوا الأسلحة وذهبوا كي يفتحوا باب القلعة كي يخرجوا المساجين منها، علماً أن المساجين كانوا مجرمين، ولم يكونوا سياسيين أبدا، فاتصل وقتها زكي جابي بالرئيس القوتلي الذي كان مشغولاً، وبطبيعة الحال أنا من تلقى الاتصال وأخبرني بما حدث، وبأن الشرطة غير قادرة على الوقوف في وجه الأحزاب، طالباً مني أن أخبر الرئيس كي يتم تدبر الأمر، وبالتالي نقلت الخبر مباشرة إلى الرئيس القوتلي الذي أصدر أمره إلى الجيش بالنزول معلناً حظر التجول، فهدأت الأمور بشكل مؤقت، هذا الأمر أعطى حسني الزعيم شيئاً من القوة بأنه يستطيع السيطرة على الشارع، وأعطى في الوقت نفسه مناسبة لأميركا بأن في سورية رجلاً بإمكانها أن تعتمد عليه وهو رجل من نوع ما يسمى بأميركا اللاتينية «جنرالات الموز» وهم بطبيعتهم ليس لهم أي قيمة لكن يمكنك شراؤهم بالأموال، من هنا بدأت تهيئة الانقلاب الأول، جاء عدد من الضباط مع حسني الزعيم كي يعرضوا الموضوع على خالد العظم في بيته، والأخير لم يستقبلهم مباشرة لأنه كان لديه اجتماع فتأخر حتى التقاهم، الأمر الذي أزعجهم واستغله حسني الزعيم سلبا ليستفز ويثير الضباط الذين معه، لذلك كان من السهل عليه أن يقوم بهذا الانقلاب ولاسيما أن أميركا هيأت له الأساس لينطلق في انقلابه، ولابد من ذكر أنه كان لأميركا قضيتان اثنتان تريد حلّهما، وكان ذلك صعباً مع وجود الرئيس شكري القوتلي مع البرلمان ووجود حكومة وطنية.
الأمر الأول الذي تريد حله أميركا كان «تاب لاين» وهي شركة أميركية لنقل النفط من الخليج إلى البحر الأبيض المتوسط، وشركة «أرامكو» وهي شركة أميركية هي التي أوجدت النفط في الخليج وهي تابعة للسعودية ولأميركا، إما أن تمر بناقلات النفط حول شبه الجزيرة العربية، والسويس إلى البحر الأبيض المتوسط ثم إلى أوروبا أو خط أنابيب الـ«التاب لاين»، واتفقت أميركا أولا مع السعودية بأن يمر الخط من السعودية أولاً، ثم مع الأردن مع سورية مع لبنان، وتمّ الاتفاق مع السعودية والأردن ولبنان، أما سورية فعرضت عليها أميركا الأمر على الشكل التالي بأن المبلغ الذي يُدفع من شركة نفط العراق على خط «الأي بي سي» الذي يمر عبر سورية بطول 800 كيلومتر تقريبا، ستدفع أميركا مبلغاً مضاعفاً عما تدفعه شركة نفط العراق بمرور النفط على مثلا مسافة النصف أو أقل وبحوالي 300 كيلومتر، ولكن رأي شكري القوتلي مختلف فكان يقول «لنضغط عليهم… نريد أكثر»، في هذه الأثناء جاء شخص من أميركا اسمه جيمس منهل، وكان فارس الخوري في أميركا رئيساً للوفد السوري ومندوبا لمجلس الأمن في الأمم المتحدة، وطلب من السوريين واللبنانيين العودة إلى الوطن لاستثمار الأموال والكفاءات «لأن الوطن بحاجة لكم كما أنتم بحاجة له»، وكان بين هؤلاء شخص اسمه نجيب منهل وأصبح اسمه جيمس منهول، كان يعمل بالنفط، وهو من ولاية أوهايو، فجاء وقابل الرئيس القوتلي، وكنت حاضراً حينها، وقال وقتها «ليس بهذه الطريقة تُحسب الأموال التي تتم جبايتها من شركة النفط، فنحن في أميركا نحسب ثمن البرميل عند إنتاجه، ونحسب ثمنه في مصبه، والفرق هو نتيجة مروره في خطوط النفط في البلاد، وتضرب بعدد البراميل التي تمر وتقسّم على الولايات»، هذه الطريقة أعجبت الرئيس القوتلي وطلب مني استدعاء المفاوضين السوريين، وكان الوفد السوري مؤلفاً من ثلاثة أشخاص هم: حنين صحناوي وزير الاقتصاد، وحسن جبارة وزيرة المالية، ومجد الدين الجابري وزير الأشغال العامة، وطلب مني استدعاءهم وأن أضعهم في صورة الأمر، طبعاً هذا وضع على شركة النفط «التاب لاين» مبالغ طائلة، لأنه ستعود على الأردن ولبنان أموال طائلة وليس على سورية فقط، والملك سعود توسّط مع شكري القوتلي كي يوافق على مطالب الشركة الأميركية ليمرّر الموضوع، ولكن القوتلي أجابه «صداقتي الشخصية معك قوية جدا، ولكن مصلحة بلدي هي فوق كل شيء، وعليك أن تأخذ بالحسبان مصلحة بلدي» لهذا وبالنتيجة بقيت هذه المسألة عالقة.
أما بالنسبة للموضوع الثاني فكان موضوع الهدنة بيننا وبين إسرائيل وإصرارنا على أن تكون «سمخ» هي خط الهدنة رغم رفض إسرائيل.
إذاً كان لابد من تغيير الرئيس حتى تحصل الأمور؟
هذا صحيح… فهنا تدخل الأميركيون، والسلطات الأميركية بشكل مخفي، ووجدوا في حسني الزعيم الرجل المناسب وقدموا له المبالغ، وبالفعل حدث الانقلاب في 27 آذار، كان هناك علم عند الرئيس سواء من الخارجية البريطانية في لندن أو أعضاء في السفارة البريطانية في دمشق الذين أخبرونا، أو من مصر بواسطة جميل مردم بك، فقد أعلموا الرئيس بأن حسني الزعيم يهيئ انقلاباً، فاستدعاه الرئيس شكري القوتلي، والرئيس هو من أعاده إلى الجيش بعد أن أصبح من رواد المقاهي الشعبية، بسبب زوال رتبته كرئيس للجيش بانتهاء الاحتلال العثماني ثم الاحتلال الفرنسي، فجعله ضابطاً فيه، وسلّمه أموراً كثيرة.
وأنت بقيت في القصر؟
نعم… بقيت من موظفي القصر، ولكن عندما حدث الانقلاب فوجئنا بأن القصر قد أُغلق، وكان هناك ضابط وقال لنا الآن يأتي مدير الشرطة العسكرية كي يراكم، وبالفعل جاء الرقيب إبراهيم الحسيني، وطلب أرقام هواتفنا وعناوين الأماكن التي نرتادها، ولكننا ذهبنا في اليوم التالي لرؤية محسن البرازي الأمين العام السابق لنسأله عما سنفعله، لأن حسني الزعيم اعتقل الرئيس شكري القوتلي وخالد العظم وأرسلهما إلى سجن المزة، فاستقبلتنا زوجه وقالت إن الملك فاروق أرسل كبير موفديه ومعاونه وهما في اجتماع مع البرازي للاطمئنان على القوتلي، وخرج البرازي وقال: «اللـه يرضى عليكم الزموا منازلكم حتى نعرف كيف نتعامل مع هذا المجنون»، وبقينا في منازلنا، ولكن الزعيم أبقى القصر مغلقاً كل تلك الفترة، كان يجلس في مدرسة الشرطة ثم في الأركان إلى حزيران، إلى حين إجراء انتخاب وكانت نتيجته لمصلحته وبنسبة 116 بالمئة، أذكر وقتها اتصل بعلي عزمت الذي كان محافظ حماة وقال له «يا علي ماذا حصل بالانتخابات»، فأجابه أن الناس لم تأت لأنه كان الوقت صباحا وربما الناس نائمة، فقال له «أحضرهم كي ينتخبوا» وهذا ما حصل فكانت الصناديق ممتلئة بالنتيجة التي ذكرت نسبتها بلا مبالغة، ثم في حزيران فُتح القصر وقلنا لمحسن البرازي بأننا لا يمكن أبداً أن نجلس في القصر مع هذا المجنون، فرد بأنه هيأ مراسيم كي يتم نقلنا إلى الخارجية، واستغرقت المدة نصف حزيران حتى تموز ثم آب حتى حصل الانقلاب الثاني وذهب الزعيم.
(يتبع)…
صحيفة الوطن السورية