زهرتَي عبّاد شمس، الأولى ذابلة كئيبة تشي بموتٍ وشيك، والأخرى يانعة لمّاعة تضجّ بالحياة، كانتا تقفان إلى جانب بعضهما البعض توشكُ إحداهما أن تلامس الأخرى في مشهدٍ دراميّ لم يسبق لي أن رأيتُ مثيله. استوقفتني هذه الصورة طويلاً ولم أستطع منعها من العبث في أدراج مخيّلتي المقفلة منذ مدة، أدهشني كيف يمكن لكل هذه المتناقضات أن تجتمع في صورة واحدة، كيف يمكن لكل شيء واللا شيء أن يكونا قريبين من بعضهما إلى هذا الحد!
وجدتها تروي الكثير، تروي حكاية عن القوة والضعف، عن الشباب والشيخوخة، عن الفرح والحزن، عن الاهتمام واللامبالاة، عن الصحة والمرض.
وكل هذه الحكايات تقول : لا يمكن للأمور أن تبقى ثابتة إلى الأبد!
وأما وقد أصغيت إليها جيداً، سمعت كيف يتسرب الصمت شيئاً فشيئاً إلى ممرات ٍكانت تضجّ يوماً بالضحكات!
ربما ما جعلني أتأملها بعمق هو أنني رأيتها بعد انتهائِنا من جلساتنا العمليّة لهذا الفصل في مشفى البيروني الجامعي الخاص بالأورام.
في جولتنا الأولى أخذت أحدق في وجوه المرضى أتأمل تفاصيلهم، لا أحد يشبه الآخر، سحناتهم، هيئاتهم، لهجاتهم، جميعها كانت مختلفة، لكنني في ذات الوقت شعرت أنهم متشابهون بطريقة ما!
ربما كانت الآلام والآمال المشتركة التي يحملونها تطفو على وجوههم صابغة إياها بصبغةٍ واحدة!!
كل شيء كان مختلفاً هناك، في غرفة أخذ الجرعات الكيماويّة كانت كل الأحاديث التي تتناهى إلى أسماعنا من قبيل: متى بدأ؟…كيف تمّ اكتشافه؟.. هل انتشر؟.. كم عدد الجرعات التي تلقّيتها؟..
كانت تعابير وجوههم وهم يُحقنون بالقثاطر كفيلةً بجعلنا نتجنب طرح أسئلتنا وهم على هذه الحال، بعضهم يصرخ، بعضهم يعضّ على شفته، وآخرون يشيحون بوجوههم بعيداً كي لا يروا الممرضات وهنّ يسحبن الإبرة من وريد عنيد ليحقنّها بآخر علّهُ يستجيب.
في غرف المرضى كنا نُدهَش في كل مرة بحسّ الفكاهة الذي يتمتع به بعضهم، أحدهم أخبرنا بأنه يعلمُ تماماً ما نريد ولا داعٍ لأن نُتعب أنفسنا بسؤاله، وبالفعل بدأ بالقول :الاسم، العمر، الحالة الاجتماعية، الشكاية،
والغريب أنه طلب من زوجته أن تلتقط له صورة مع أطباء الغد الذين هم نحن!
آخرٌ سبعينيٌّ أخذ يمازح زوجته ويقول لها ضاحكاً بأنه سيتزوج بأخرى بعد أن يشفى، كان مرحه محزناً جداً بالنسبة لنا لا لشيء سوى لأننا رأينا في إضبارته بعد أن خرجنا صورة الطبقي المحوري خاصته وهي تعجّ بالاغمقاقات!!.
لن أنسى عينيّ تلك الشابة الجميلة وهي تسألني بتردد بعد أن هممت بالمغادرة :هل سأشفى؟؟!
ربما لم أستطع الجزم بيني وبين نفسي إن كان ما قلته لها صحيحاً أم لا، لكنني أجزم تماماً أن اللوكيميا اللعينة لم تستطع أن تفقد عينيها بريقهما أبداً!
وكيف لي أن أنسى ذلك الملازم الطويل الذي هبّ واقفاً عندما دخلنا وأبى أن يجيبنا على أسئلتنا وهو جالس على كرسيّه رغم إلحاحنا الشديد على راحته، ربما أراد أن يخبرنا بأن الساركوما التي تجثم فوق فقراته أضعف من أن تجعل شاباً في السابعة والعشرين من العمر يجلس بلا حراك!!
ولأنني أحبّ الخاتمات المفائلة لابد أن أذكر كلام الطبيب المشرف الذي لا يزال يرنّ في أذني وهو أننا سنرى في هذا المشفى المرضى الذين يتلقون العلاج ولكن لا يجب أن يغيب عن أذهاننا المرضى الشافين الذين تخرّجوا منه.
ولا زال هناك الكثير من المواقف التي لا تُنسى من هذه الرحلة المؤثّرة التي علّمتنا الكثير.
إذا كنتَ تجلس الآن في منزلك، تتصفح الإنترنت بهدوء، وتقرأ هذه السطور العبثية دون أن يكون في جسدك أي مرض أو أي شعور بالألم، فأنا فقط أريد منك أن تتأمّل هذه العبارة لثوانٍ: أنتَ في نعمة عظيمة.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة