عراق الإسلام السياسي الحاكم (طارق الدليمي)

 

طارق الدليمي

في كتابه التاريخي المثير «مهنة السيد تشرتشل»، يقول الكاتب بيتر كلارك، إن السياسي البريطاني اعتبر أن العراق ولد في لحظة من لحظات الغضب. يمكن القول إن مفعول الأمر ما زال لحد الآن. فالغضب حاليا يجتاح البلاد من كل الأطراف وفي كل الأرجاء. وتلخص تصريحات النخب الحاكمة هذه الصورة برثاثة لا يمكن أن نعثر عليها إلا في مجتمعات الحروب الأهلية الدموية المنهارة. فالوزير الأول يحلو له في خضم الركام أن يردد بعجرفة سمجة، وهو الحائر بصلاحياته الكبيرة، نحن لن نعطيها. ومختار السنجق الكردي في الشمال يهدد بعقوبات مفاجئة، منها قطع المياه عن المحافظات القريبة. أما وزير المالية رافع العيساوي، الملاحق بتهمة الإرهاب، فهو يهتف معتصما بعشيرته في الأنبار، وعلى طريقة هاملت: نكون أو لا نكون. وهؤلاء جميعا يصرخون باسم الله، وهم لا يدركون أن ستيفان زفايج قد قال إن أكثر من يدعو إلى القتال من أجل الله هو الأكثر عداءً للمجتمع، لأنه يزعم الاستماع إلى نداءات السماء فيما الآذان آذانهم صماء أمام أصوات الناس المعذبين.
في غضون ذلك، أشار أوباما في معرض تنديده بالموقف الروسي في القرم إلى أن أميركا انسحبت من العراق، وان تدخلها هناك ـ لم يقل احتلالها ـ كان مؤقتا وفي خدمة الناس. استفزت هذه الكلمات ذات الأجراس طرفين. الأول مساند للإدارة وجاء على لسان روبرت فورد، السفير السابق في سوريا والساعد الأيمن للسفير السيئ السمعة جون نيغروبونتي. تمتم فورد أن الحل في العراق لم يأت بسبب 170 ألف جندي. (لم يتذكر عدد الشركات الأمنية وعديد مرتزقتها) بل بسبب الاتفاق الذي توصلت اليه نسبة كبيرة من الشيعة والسنة والكرد. أما الموقف الثاني فمناهض لإدارة أوباما، وقد جاء على لسان أستاذ العلوم السياسية في جامعة سان فرنسيسكو ستيفن زونز، الذي كذب في تقريره تخرصات أوباما واتهمه بالتفصيل بالمسؤولية الكاملة عن تصاعد العنف مؤخرا في العراق وتحديدا في المناطق الغربية، قائلاً إن سفارته في بغداد تؤدي دورا منافقا ومزدوجا في حربها اللفظية ضد الإرهاب وفي تأجيج الإعلام العراقي المتعاون معها في مساندة هذا الارهاب تحت مبررات مزيفة. أما الكاتبة القديرة ريبيكا سولنت، فقد نددت بحذلقات أوباما الفلسفية الجوفاء التي اتهم فيها الآخرين بأنهم في الجانب الخطأ من التاريخ، وكأن التاريخ صديق حميم شخصي له. علما أن أوباما يواجه حتى في الداخل فشلا مركبا، بحيث اضطر أحد أركان إدارته للبوح بأسى بأن أميركا، مصنع الديموقراطية منذ الحرب العالمية الثانية، بدأت بالانتقال إلى مرحلة مصنع الطاقة والاكتفاء الذاتي. وهذا مؤشر كئيب على التدهور النوعي والقيادي للطبقة الوسطى، ما يهدد سياسيا المراكز الليبرالية الديموقراطية في العالم الرأسمالي، وفي المقدمة معقلها الأساسي في واشنطن.
لكن تسليط الضوء على العلاقة الجدلية بين الأوضاع الداخلية في العراق والمسار العام للسياسة الخارجية الاميركية يتيح لنا بدون تردد بالاستنتاج أن إيقاع الأحداث عراقيا ما عاد يتناغم مع إيقاع الرغبات والتوقعات لدى ادارة اوباما، بل حتى في المؤسسة الحاكمة عموماً. فهناك انزياح غير عادي في قيادة أميركا «للكوندومينيوم» الحاكم في البلاد، بالرغم من عدم تصدع هذا الجهاز ومن استمرار مشاركة الأعضاء الملتزمين به في إدارة جسمه السياسي. ومع أن الأخبار تشير إلى أن مندوب ايران قاسم سليماني كان موجودا في بغداد في الوقت نفسه الذي زارها وكيل الخارجية الاميركية بريت ماكغيرك، إلا أن التكهنات لم تتمكن من إثبات اللقاء بينهما. لكن بعض ما سرب يفيد بأن الهموم المشتركة بين الطرفين قد استقرت على التفاهم على ضرورة العبور الهادئ الآن إلى الانتخابات المقبلة في نهاية الشهر الجاري. والجدول ذاته يميل الى التلميح بأن النفوذ الاميركي المباشر يترنح على حساب تصاعد الدور الايراني ضمن باقة موحدة من التعاون الصامت على منع الانفجار على المستويات كافة. بل ان التوقعات تجزم بأن «العملية السياسية» صامدة وبأن صيغة «المكونات» الثلاثة، الشيعة والسنة والكرد، باقية لنجاحها النسبي وافتقار البدائل العملية المعقولة والمنتجة. وثمة ما يؤكد أن الدستور سيكون المدماك الصلب الذي تستند إليه قواعد العمل الراهنة من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه وتحقيق الهدف المركزي في الانتخابات المقبلة. وبالرغم من أن الدستور، كما يقول الخبير زيد العلي، لا يحظى بقبول أكثر من خمس السكان، إلا أن قوى «الكوندومينيوم» مصرة على دوره الجوهري، وهي تستعين بفشله محاججة على ضرورة بقائه ومحاولة تعديل بعض فقراته في مجرى بناء الحكومة الجديدة بعد الانتخابات. ولا ريب ان هناك علاقات عضوية بين الدستور، مواد وفقرات، وقيادات النخب السياسية للمكونات الثلاثة وقدراتها. لذلك، فإن النقاش سيتمحور حول تعريف الغاية التاريخية للدستور باعتباره نصا فاصلا، وكذلك التشريح الأولي لحالة النخب التي تزعم الالتزام بالدستور وتنادي بضرورة الالتزام به، فيما تتهم خصومها بالانحراف عنه وعدم التقيد بمضامينه القانونية والسياسية.
وغني عن البيان أن نخب المكونات الثلاثة تكابد وتعاني من عوارض عديدة.
فهذه المكونات، ومنظماتها ما زالت تعيش تحت وطأة تضاريس حياتية حادة تسميها الانثروبولوجيا السياسية بظاهرة «شعائر المرور»، وهي أعراض الحقبة الانتقالية بين الفترة السابقة التي كانت تعيشها هذه المكونات، قبل الاحتلال والتحرير، وهي مظلومية «التشيع السياسي» والإقصاء الذي تعرّضت له «الكردية السياسية»، وأخيرا استبداد «التسنن السياسي» وطغيان الدولة العراقية المعاصرة، وبين الفترة التي جاءت بعد الاحتلال والتحرير والتي بدورها جسدت المحاصصة الطوائفية والعرقية بين المكونات هذه، ويفترض أنها تنتقل إلى المرحلة اللاحقة حيث تندمج بالوضع الجديد في مختلف الميادين الاجتماعية والسياسية مع الاهتمام في بناء الحكومة الاتحادية والامتناع شكلا ومضمونا عن محاولات بناء دولة وطنية جديدة. إن «شعائر المرور» لها أثمان باهظة لتسهيل عملية الانتقال وهي تتمتع بأساليب مختلفة من دين إلى آخر ومن عقيدة إلى أخرى ومن فرد إلى أفراد أو مجاميع أو تشكيلات اجتماعية متكاملة. ويصاحب هذه «الشعائر» على الأغلب سقوط الدم من أجل مباركة هذا الانتقال والاحتفال بالحياة الجديدة. هكذا يفهم اللجوء الى العنف المنظم والمسلح للمكونات في حالتي الحكومة والمعارضة، حيث أصبح لجميع القوى ميليشياتها الخاصة.
ويرتدي المكوّن الكردي ملابس خاصة. فحكومة السنجق لا تتحمل كلاما بسيطا أو مقتضبا حول الإعدام العلني الذي مارسه ضابط كردي من فوج الحماية الخاصة برئيس الجمهورية، الغائب عن الوعي والعراق، والمطوب للبشمركة منذ الحاكم الاحتلالي بول بريمر. كما بدأت قيادات الاقليم تصرخ بأنها تعاني من احتلال العراق لها وتهدد بويل الكونفدرالية أو ثبور الانفصال. أما المكون السني فهو عاجز عن نسيان إطاحة سلطته السياسية التاريخية، متوسلا بكل الأدوات من أجل إعادة الاعتبار لموقعه المركزي السابق في حياة العراق السياسية ومستقبله التاريخي القادم.
بيد أن عوارض الطفولة لهذه المكونات تخيم بكل تفاصيلها الملوثة على حياة نخبها الراهنة. واذا ما تجاهلنا المكون الكردي، مع أنه الموغل في التركيز على الجغرافية تعويضا عن التاريخ، لوجدنا أن «التشيع السياسي» و«التسنن السياسي» يشتركان في نفس القابلية للانكفاء عن العقلانية السياسية الى الارهاب الديني التكفيري، بمجرد أن يخرج أحدهما من حدوده المذهبية ويغادرها إلى تخوم الثاني الطوائفية. واذا اعتبرنا أن كلاً منهما يشدد على مرجعية واحدة، فإنهما، في خضم الخلاف حول الموارد والسلطة السياسية، يتناسيان المرجعية الموحدة ويلوذان بحقائق السياسة ومصالحها، والتي نبتت من أرحام التاريخ الغابر واستمرت إلى عصرنا الراهن.
لقد مارس الاحتلال قاعدة عامة في تمرير دستوره على مدى التحولات الحكومية والانتخابات الصورية المتتالية، حيث ثبّت المحاصصة الطائفية ومنع أياً من المكونات من الظفر بالسلطة بل تركها تتناتشها.
وعليه، فإن نصوص الدستور المزوّر هي استنطاق تاريخي للذي حصل بعد الاحتلال من خلال خضوع النخب ومباركتها. وهذه النصوص تنطق بألسنة التاريخ لأنه ليس للتاريخ، الراهن تحديدا، لسان واحد بل ألسنة متعددة تعبر عن هذا الحراك اليومي الملتهب في تعدده ونسبيته. وعليه، تجد «الطوائفية» السياسية نفسها، من خلال الدستور أو خارجه سيان، تتناوب على التحول الحاد من حالة الإيمان إلى حالة العقيدة ومن مناخ التصلب إلى أجواء المرونة ومن نوازع الإقصاء إلى تمرينات التعاون.
لم تكتمل السلطة السياسية بمفهومها الحقيقي ولن تنضج بفعل إدارة وإرادة «الكوندومينيوم» الى الدولة المنشودة، ولا يمكن تسويغ التشظي من خلال السكوت والفراغات المتعمدة في الدستور وعبر تزويد العملية السياسية بزيوت خاصة لتشحيم ماكنتها الخارجية. ان بدعة «اتفاقية اربيل»، مثلا، التي ما زال الجميع ينادي بتطبيقها، هي جزء من ضلالات الدستور والتفاهم غير المتكافئ بين مكونات الاحتلال. فالخط العام لمصير العراق السياسي يظل مرتبطا عضويا بالخط العام لمصير الحكومات المتشكلة وخارج هذا الإطار مجرد لغو ساذج وثرثرة.
لقد استفاد الاحتلال من تواطؤ النخب ومن ورائها أقسام مهمة من مكوناتها، وساعدته الفراغات في منظومة النظريات الملفقة للإسلام السياسي في العراق، والتاريخ الحقيقي للدول الاسلامية السابقة، من أجل تحقيق انتصار فكري مهم يلحق بالانتصار العسكري والسياسي لغزو العراق واحتلاله.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى