عراق الإسلام السياسي المقاتل II (طارق الدليمي)
طارق الدليمي
يتناظر الآن التياران الرئيسيان في الاسلام السياسي، «التشيع»و»التسنن» في موقفهما الموحد، بدون قصد أو تخطيط، تحت ضغط التطور الحاد للأحداث في النأي أو الهزيمة خارج إطار المجرى الفعلي العام للحركات الشعبية وحشودها المطالبة بالتغيير وبضرورات الوحدة الفورية لمواجهة المصير الأسود القادم للعباد والبلاد. هنا يمكن تسليط الضوء على بعض الخلافات العميقة بين التيارين من خلال صدامهما اليومي مع «الحكومة» ومن ورائها الاحتلال، وليس من خلال المواجهة البطيئة والفاترة بين غايات القيادات اليومية للطرفين. الطرفان يركزان طبعاً على الوزير الأول محملين الاحتلال المسؤولية بالدرجة الثانية وبطريقة تعطي الانطباع بأن معاركهما مدروسة في هذا الصعيد. وقبل تناول الخلافات السياسية ومضاعفاتها الميدانية لا بد من الإحاطة موضوعياً بنقاط التشابه والملامح الموحدة لمضامين الموقف الفكري لكليهما، والاطارات السياسية والتنظيمية لهما. ويمكن القول، من دون مغامرة، إن أطروحة «عامل الزمن» ستكون صالحة جدا للفرز التحليلي بين التيارين، الذي يسيطر أحدهما، التشيع السياسي، على مناطق الجنوب وبعض الوسط من البلاد، بينما يسيطر الثاني، التسنن السياسي، على غرب البلاد وبعض وسطها وشمالها. إن الفروقات الديموغرافية هنا خاملة ولن تكون حاسمة أبدا في الاتفاق والوفاق أو الصراع والاختلاف والابتعاد ثم الانفصال كما يتحدث بعض القادة من خارج دائرة الطرفين. الوضع الديموغرافي سيكون له شأن هام في الحرب الأهلية الشاملة. عندها ستتوضح المعلومات والصور للاختراقات العسكرية المتعددة للقوى السلفية التكفيرية المسلحة في الطرفين «التشيع والتسنن السياسي» ومن يساعدهما من وراء الحدود.
إن النقطة المكثفة في عامل الزمن هي القدرة الفائقة على معرفة بوصلة الأحداث الجارية وكيف تتحول إلى مقبلة، والاستطاعة الحاذقة لصياغة موقف محدد مقدام وعقلاني في رسم الطرق المتشابكة من أجل الخلاص من الأزمة الوطنية الخانقة. إن التطابق المدهش بين ساعة الموقف السياسي وساعة الاحداث هو الحاسم في هذا المضمار. وأي قراءة خاطئة للقائد حين يضع أذنيه على الأرض ليحاول أن يسمع دبيب أقدام التاريخ القادم ستؤدي إلى كوارث مركبة.
إن نظرية «البارحة» خطأ و«غداً» جنون والآن هو الصحيح والحاسم دوما، تشكل العصب الحيوي للعملية الثورية التغييرية. إن الانتظار و«النأي أو الهزيمة» هو حالة رياضية حسابية مبسطة، والخوض في المعترك ومحاولة تلمس الطريق لتقدير الاتجاهات الصائبة هو «تفاضل» الحالة السياسية المعقدة في العراق والاسلام السياسي عاجز عن القبض على جمرتها.
ويمكن القول أيضاً وبتركيز إن عامل الزمن المغيب لدى الاسلام السياسي كان فعالا على صعيد الموقف المباشر مع الاحتلال وأجهزته. فالاحتلال الآن أمتن «القوى» الاجتماعية والسياسية في البلد ناهيك عن امكانياته المسلحة. وأيضاً في العلاقة الخاصة بين التيارين على صعيد «الحراك» السياسي والاجتماعي اليومي وبدون أدنى تنسيق في خضم الدم الجاري، وكأنهما يعملان في بلدين متباعدين كلياً. إن الخلافات القائمة مرتبطة بالحالة الفكرية لقيادات الطرفين والنزوع السياسي ـ النفسي للشخصيات المقررة في البنية القيادية للتيارين. ولا شك أن الامكانية الوحيدة المتوفرة لأن يتفاهم التياران سياسياً هو أن تكون المنطلقات سياسية أيضاً وفي إطار المصالح المشتركة للناس والوطن.
إن الخروج من الديني إلى السياسي هو وحده الذي يعالج بصحة عالية جداً محاولة الارتكاس من السياسي إلى الديني. ومن الجدير بالذكر أن العراق في ظل «الطائفية السياسية» وعبر حكومات العهد الملكي والبونابرتية العسكرية كان أكثر مرونة في المعالجة اليومية للمآزق التي يمر بها الوطن، وبغض النظر عن دور التدخلات الأجنبية في البلاد. لقد اجترحت، مثلا، «الطائفية السنية» في الحكم الملكي حلا جريئاً لمحنة «وثبة كانون 1948» على أثر لجوء رئيس الوزراء الشيعي صالح جبر الى عقد معاهدة جائرة مع بريطانيا. بادر البلاط والنخب الحاكمة إلى تكليف السيد محمد الصدر بالوزارة الجديدة وتم إلغاء المعاهدة وهو من قيادات ثورة العشرين ومن الساعين الى بناء دولة وطنية مدنية. فلماذا يفتقد أركان العملية السياسية المترنحة إلى مثل هذه المبادرات، وهم لا يمتلكون الشجاعة إلى إقالة وزير الخارجية الكردي والعرقي والذي عينه الاحتلال منذ البداية، وبالرغم من سمعته السياسية والشخصية المعروفة، لسبب بسيط لأنه قريب عائلياً من مسؤول السنجق الكردي ويعتبر لولباً مهماً في ماكنة الاحتلال الأجنبي.
وبرغم التفاوتات المهمة والضارة عملياً للطرفين فإنها لا تشكل محوراً للتناقض السياسي أبداً ما دام يمكن دائماً الوصول إلى حل سياسي للخلافات الدينية والمذهبية، واستحالة الحصول على حل ديني أو مذهبي للخلافات السياسية.
انتعشت الطوائفية الحكومية والطفيلية وفضلت امتيازات «السلطة والموارد» على الاعتناء بالناس، وهاهم أثرياء الاسلام السياسي الحاكم بعد أن كان أتقاهم أفقر من أيوب حين دخل الوزارة. ويتساوى التياران في عجن سبيكة الأخطاء والمصالح الذاتية. فالإسلام السياسي «السني» يحوز على الطبقية الصارخة من خلال تجربته الطويلة في «السلطة السياسية»، لا تقل شأنا ومرتبة عن الطبقية الفظة في الاسلام السياسي «الشيعي» وفي تجربته المريرة في المعارضة، ولا سيما في مواصفات الخاص في القائد والعام في الحشود. ولا يمكن تجاوز هذه الحالات الا بالتلاحم السياسي.
وعلى العكس من أكاذيب وترهات العلمانية التابعة ومدارس التحليل الاحتلالية التي تغذيها مالياً وسياسياً، لم يحصل أبدا أن «تشيع» الشيعة في كل مراحل الطائفية السياسية الراحلة ولا يحصل الآن «تسنن» السنة في ظل الطوائفية السياسية الحاكمة بمعونة الاحتلال. وحتى اللحظة الراهنة وفي خضم التهييج الطوائفي المحلي والاقليمي والامبريالي نجد روح التعالي كبيرة جدا ورافضة بقوة لكل محاولات التأجيج والاحتراب سلماً أم حرباً. فلماذا يفقد التياران المبادرة وبالذات الآن. ولماذا، مثلا، لا يتم التوجه السريع لمعالجة إشكالية الدستور الاحتلالي الملفق ويضعون قواعد عمل سريعة مؤقتة لإطفاء نار الفتنة وسحب البساط من تحت أقدام الاحتلال والمتعاونين معه من أقطاب الاسلام السياسي الطفيلي والعلمانية التابعة الشريرة. إن كنس الدستور لا يتحقق بأقلام حبر مأجورة وإنما بقرارات شجاعة تدعمها الحشود النبيلة من فقراء البلاد لا الرعاع الرث ولا العصابات المسلحة أجراء أمراء الحرب والاحتلال.
ولا بد من التنويه بأن الجميع أخطأ في التحليل الدقيق لمراحل الاحتلال ولم يتجاوزوا سياسات رجل في البور وأخرى في الفلاحة، متصورين من خلال أحلام النهار أن الجمع بين «العمل المسلح» و«العملية السياسية» يمكن أن يخدع الاحتلال ويؤدي إلى نجاحات فريدة. والذي حصل أن الاستنزاف أكل من مساحتي الانضمام إلى مؤسسات حكومة الاحتلال والالتحاق بالعمل العسكري المنفلت والعشوائي والذي منح الفرص الذهبية، وللاحتلال أيضاً، للارهاب الطوائفي السياسي في الطرفين بأن يمتد وينتعش ويصبح هو حجر الرحى في المحنة الحالية. وللتذكير فقط، ومن الضروري قول ذلك، بأن الجناح العسكري للاسلام السياسي «التشيع» كان متوازياً في نتائج عمله ومتطابقاً مع النتائج العملية لسلوك الجناح العسكري للاسلام السياسي «التسنن»، ولا سيما من خلال الثمار التي قطفها مباشرة جيش الاحتلال ومؤسساته السياسية، مما جعل الجنرال المجرم «ديفيد بيترايس» قائد «الاندفاعة» يتبجح في كتابة نصوص يؤكد فيها أن الاحتلال انتصر في العراق. لقد تعاون الجناح العسكري»التشيع» مع القوات الاميركية وعملائها من «الصحوة» وكتائب الحكومة ضد «المقاومة الوطنية» وتعاون الجناح العسكري «التسنن» مع عصابات «الزرقاوي» وردد بسذاجة قاتلة إنه من «القاعدة» و«القاعدة» منه . لقد شرب التياران الماء مع تنين الاحتلال في الصيف والشتاء والنتيجة كانت وبالاً عليهما وبؤساً وشظفاً للناس المسحوقين والبسطاء من أبناء الوطن.
ما يحصل الآن هو شيء مشترك ومعقد من «النأي والهزيمة» . فهو العزوف من جهة عن طريق الصمت النبيل بكونه أفضل من الكلام الخبيث ومن الجهة الاخرى العزلة المجيدة بكونها أحسن من الممارسة الفاسدة. لكن مبررات الصمت والعزلة تبقى هي أسوأ من مبررات خوض المعارك السابقة بطريقة الخطأ. وإن محاولات إصلاحها بعد أن وصلت الفأس إلى رأس الجميع هي حالة مواربة وهجينة ومرفوضة في ظل الانحدار الدائر. إن الاحتلال ومعظم المتعاونين معه من الاسلام السياسي الطفيلي والعلمانية التابعة يروجون لبضاعة فاسدة اسمها «النوع الصحيح من الخطأ» وهي التي يعنون بها عملياً الصمت المطبق والعزلة الخائبة. والغاية واضحـة وصريحــة للاحتــلال وأذنــابه. العمل الجاد على انفجار «الاسلام السياسي المقاتل» من الداخل وأن تنتشر الدماء على مستوى الوطن كله. بل إن ماكنة الاحتلال الاعلامية تبشر بذلك ولا تترد في وصف الأمور على حقيقتها القاهرة. لقد كتب «مايكل نايتس»، الخبير الأهم في السياسة والأمن ومستشار الغزو والاحتلال وصاحب أكبر شركة أمنية في العراق: إن ابتعاد بعض القيادات الدينية السياسية عن الأضواء هو بسبب شعورها بالتهديد على حياتها الشخصية أو عندما يتهم تيارها السياسي وأجنحتها العسكرية بأعمال هي لا ترغب بها ولا تريد أن يكون لها دور فيها. وهي لا تدرك أنه لا شيء دائماً في العراق سوى الموت». أليس هو الوعد والوعيد فكرياً وسياسياً وعسكرياً.