“عرش معشّق” لربيعة جلطي.. رؤى وشخصيات متعددة (علي نسر)

 

علي نسر

في رواية ربيعة جلطي "عرش معشّق" (منشورات ضفاف – الاختلاف)، نجد عالمًا سرديّا شيّدته الكاتبة بروح جديدة، وهو عالم يتخبط في المتناقضات، فتتوافر الفرص المختلفة، الحسنة والسيئة، للخروج من شباكه والابحار نحو الأمان، فيتحقق ذلك حينًا ويخفق حينًا آخر.
يتبادر الى الذهن، أن (نجود) القبيحة في شكلها/ (زليخة) في اسمها الجديد، هي البطلة نظرا الى تعلّق الشخصيات بها، لكن الغوص في تلافيف النص يضعنا امام بطل آخر، وهو جماد، يفرض نفسه على حركة الأبطال والأجيال. انه الزجاج المعشّق، الذي يختزل صورا لأحياء وأموات، تشعر الشخصيات بأنها تحمله لكنه في الواقع هو ما كان يحملها موجِّهًا ايّاها، مذكّرا العابرين قربه ببعض الوصايا التي تجعل الانسان انسانا بعد انحرافه، ويتجلى ذلك عبر عجينة هذا الجسم المريب، وهي خليط من التماعات دينية تحث على التعايش المشترك، بالاضافة الى الملامح القومية بحيث هو جسر بين مشرق ومغرب عربيين، فيستحيل الجسم بؤرة سردية ينطلق السرد والتبئير منها ليعودا اليها دائريا.
تمثّل نجود/ زليخة، صورة شعب محكوم عليه بالنفي كمصاب بمرض معدٍ، فتنتفض ساخطة على وجودٍ لم يكن لها فيه خيار منذ ولادتها، (هكذا بدأ الأمر وجئت. غصبا عني جئت… مرغمة جئت، كسروا قوقعتي اللينة فوق ظهري، فوجدت نفسي في العراء- ص1). فلم تستسلم بل تتحدى التيار، معلنة منذ مغادرة الرحم امتلاكها ما يثبت الوجود: إنه الصوت، رمز الرفض، (ظاهرة الصوت شيء رائع، ماذا لو خلق الانسان من دونه. .(. . .) منذ الوهلة الاولى تشعر بأن صوتك هو اول سلاح تشهره. تواجه به أوجاعك، ومن يتسبب في أوجاعك- ص17-18). كما تسعى الى اثبات وجودها على رقعة شطرنج الحياة التي لا تكمن قيمة احجارها في الأسماء والأشكال والمراكز، بل عبر الحركة والتصرف، (انا زليخة نعم. . من منهن مثلي. . صحيح انني لست جامعية مثلهن، ولكنني قرأت كتبا كافية كي لا اصنف بين الجهلة. ثم هل الشهادات الجامعية وحدها المقياس الذي يجعل من الفرد شخصا مهما؟ ص100). ولم تنهزم امام بشر تعنيهم المظاهر، بل تثبت قدرتها على ممارسة أسمى عمل انساني وهو الحب كاسرة جدار الخوف، مقتحمة حياة شاب لم يُعرِ المظهرَ اهتماما، (قد لا تتصور خالتي ان وردة الحب قادرة على التنفس وسط هذا الكون من البشاعة الذي يلفني ويرمد كياني – ص104).
هذا التفاؤل والاصرار لدى البطلة، نرى نقيضهما لدى شخوص آخرين، فتظهر صورة اجيال تمثل تاريخ الجزائر وتتراوح بين الثورة وما بعدها، اجيال يمتهنون الاحتيال ردّا على هزائم متتالية، ويبرعون في الهرب من الواقع، لعدم قدرتهم على المجابهة.. خصوصا من يُسقط عليه المثال اسقاطا فلا يستطيع معاندته، ولا يستطيع التكيف معه، وهذا ما حصل مع البطلة في ولادتها، وما حصل مع حبيبها (عبدقا) الذي فُرض عليه اسم عبد القادر ولم يعاند، (بقدر حب ابي واحترامه للامير عبد القادر، يتشكّل خوفي من ان اكون اقل شأنا من اسمه. اسمه عليّ برنوس مزركش واسع ثمين؟ ص 114). هذا بالاضافة الى قضايا وجودية تعالجها الكاتبة، واهمها الكبت الجنسي المتمثل بتصرفات صاحب محل الحلوى حين تحرّش بفتاة صغيرة.
هذه المواقف المعلنة خلقتها تقنيات سردية متشابكة، واكثر ما هو لافت، أن الكاتبة لم تختصر البطولة والشخصيات والاحداث بصورة (نجود)، إنما تقاسمت الروايةَ شخصياتٌ متعددة، شكّلت ابطالا ورواة. ما جعلنا امام تعدد في وجهات النظر والرؤى التي غالبا ما كانت رؤى داخلية، لكن الكاتبة غالبا ما كانت تقحم نفسها فتُنحّي الصوت السردي وتتكلم وتسرد بشكل مباشر وغير مسوّغ فتحوّل الرؤية من جوانية الى برانية عبر الصوت الناظم الخارجي، كما كانت تحمّل بعض الاصوات السردية مستوى من التفكير والمواقف يفوق قدرة المتحدث وطاقته التفكيرية.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى