عرفه عبده علي يرصد مصر بعيون 16 رحالة أوروبية
يقدم الباحث والمؤرخ عرفه عبده علي في كتابه “مصر بعيون نسائية أوروبية” قراءة لرؤية ست عشرة من النساء الأوربيات لمصر، جئن إليها لأسباب متباينة فمنهن الطبيبات والروائيات والسائحات والصحفيات وباحثات التاريخ والأنثربولوجي والمعلمات واللائي كن يقصد الحج إلى القدس، وقد كتبن مشاهداتهن وتجاربهن مع مختلف الناس من مختلف الطبقات وفي عشرات البلدات المصرية، في مدى زمني يمتد لمائة وخمسين عاما القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين.
تساءل الباحث في كتابه الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عن دوافع هؤلاء الرحالات الأوروبيات وأهدافهن في الشرق العربي ومصر خاصة، أكان ترحالهم مدفوعا بهوس أم هاجس أو بحثا عن مغامرة فذة، أو جاء أحيانا بدافع العلم والاستكشاف والسياسة أو غير ذلك؟ وقال إنهم في البداية تأثرن بالحكايات والروايات المثيرة عن الشرق الغامض الساحر وبلاد ألف ليلة وليلة.
ورأى عبد عرفه أن الأهداف السياسية تحتل مكانة خاصة لاستكشاف “عالم راكبي الإبل وحاملي السيوف” وربما بقصد تحويل سلوكيات المرأة العربية المسلمة لتحاكي السلوكيات الأوروبية وتحويل المجتمع من التقاليد الشرقية لينفتح على تقاليد الغر، وقد أتاح لهن ولوج “عالم الحريم” وصف أدق لجانب غاية في الأهمية في الحياة الاجتماعية. فلم يكن مسموحا للرجال مجرد الاقتراب منه سواء في خيمة أو بيت أو دار أحد الأثرياء أو قصر من قصور الحكام.
وقال إن انطباعات أكثر هؤلاء النساء كانت انتقادية في أغلب الأحيان باستثناء “لوسي دف جوردون” لطول تجربتها ومعايشتها مجتمع صعيد مصر، فزيارات هؤلاء الرحالات وقرينات القناصل والسائحات، كانت قصيرة وغالبا ما كانت تتسم بسوء فهم متبادل وأحاديث متكلفة عن طريق الترجمة وملاحظات غير دقيقة. غير أن تجربة “صوفيا لين بول” كانت أكثر ثراء فقد حظيت بشرف زيارات متكررة لـ “الحريم العالي” حرم الأسرة المالكة والعائلات الراقية، والاقتراب بشدة من هذا العالم بل ومعايشته لأيام وليال، فكانت أكثر فهما للسلوكيات والعادات والتقاليد، وبالتالي أكثر تقديرا لنساء مصر.
وأضاف “من الناحية السياسية فقد قامت بعض الرحالات بخدمة بلادهن بشكل فاق قدرات كثير من الرجال: الدبلوماسيين والعسكريين وعلى رأسهن جيرترود بل التي لعبت أخطر الأدوار في تاريخ العرب، وبعضهن تركن بصمات واضحة في تاريخ أدب الرحلة”.
ولئن كانت كتابات بعض الرجال لم تسجل بدقة أحوال البلاد والعباد بل كانت مجرد انطباعات وتفسيرات ذاتية، فإن الرحالات الأوروبيات سجلن انطباعاتهن وآراءهن إلى جانب نقد ما لا يروق لهن والاهتمام بأدق التفاصيل كـ “طبيعة نسائية” في كل زمان ومكان.
وبعض انطباعاتهن تخللها إيحاء إلى القراء بالتعاطف مع أهل بلادنا مثل الليدي “آن بلنت” و”وينفريد بلاكمان” إلى جانب ما أثرين به كتابتهن من معارف علمية ومادة أثنوجرافية غزيرة من حياة وعادات المصريين في فضاء القرن التاسع عشر.
في حديثه عن سوزان فوالكان أكد الباحث أن مذكراتها تعد الأكثر شجنا من بين كل ما كتب في أدب الرحلة عن مصر، وقال “في مذكراتها أطلقت سوزان فوالكان على نفسها (بنت الشعب) وقد عنيت المكتبة الوطنية في باريس والأكاديمية الفرنسية بهذه المذكرات والتي اعتبرت وثيقة نادرة لتلك الفترة.
وقد بدأت ذكرياتها من الاسكندرية والظروف القاسية للعمال المصريين خلال حفر قناة المحمودية، وترصد مظاهر الشرق على حياة الشعب، فكتبت “إن هذا الشعب يبدو عبقريا في صمته أو في صمته العبقري” عندما يواجه صعوبة الحياة بلفظه “الله كريم”.
وفي القاهرة رصدت سوزان حياة المرأة المصرية والتي اعتبرتها الوحيدة التي نفذت من هذا الستار الحديدي الذي أحاط بحياة المصرية، وتدون انطباعاتها عن المرأة فتكتب “النساء أجسادهن لا بأس بها، فهن لا يخضعن لأي نوع من القهر، وبالتالي تنمو أجسادهن بشكل طبيعي تجعلها أشبه بانطلاق النخيل. والفلاحة المصرية تضع البرقع ولكن خلف هذا القناع تبدو فتنة العيون واللون البرونزي المحبب للعيون. والمرأة المصرية عامة قد لا تكون جميلة لكنها تتميز بالرقة والجاذبية والابتسامة البيضاء والضحكة الصافية الصادرة عن القلب مما يجعل من هذا الجمال المتواضع إشراقة فاتنة”.
أما صوفيا لين بول، فلفت الباحث إلى أنها شقيقة المستشرق البريطاني الأشهر إدوارد لين بول، وعاشت في القاهرة سبع سنوات وأسفرت تجربتها التي خاضتها عن مجموعة من الرسائل نشرتها تحت عنوان “امرأة إنجليزية في مصر ـ رسائل من القاهرة“، وقال “تنتمي صوفيا بول إلى هؤلاء السيدات الإنجليزيات اللاتي يحترمن التقاليد، كتبت كتابها عن مشاهداتها في مصر بما في ذلك زيارات عديدة لحريم الوالي محمد علي باشا ولم تكتب اسمها على غلاف الكتاب بل ذكرت فقط أنه بقلم أخت “إدوارد لين”.
وقال إن صوفيا أفاضت في وصف الطبيعة المصرية ومناظر النيل خلال رحلتها من الإسكندرية إلى القاهرة. وفيها طافت على حمار بملابسها الشرقية ولم يظهر منها سوى عينيها بالشوارع العتيقة والأسواق والقلعة ومارستان قلاوون والمساجد والحمامات العامة وشاهدت مواكب الزفاف، والجنازات والمحمل ومظاهر شهر رمضان، وسجلت انطباعاتها عن بركة الأزبكية وبركة الفيل والخليج المصري ومقابر المماليك، وزارت سوق الموسكي ثم سوق الحمزاوي ووصفت جامع محمد بك ابي الدهب، والجامع الأزهر ومشهد مولانا الإمام الحسين رضي الله عنه.
وكتبت أن المساجد هي أهم المباني العامة وأروعها بالقاهرة “إنها آية في الجمال كما أن الذوق يتجلّى في أناقة واختلاف عمارة مآذنها” وعبرت عن تأثرها الشديد عند سماعها الآذان فكتبت “لا يوجد صوت يضاهي روعة النداء لصلاة العشاء من المآذن المتعددة”.
وأشار الباحث إلى أن الليدي لوسي داني جوردون كانت إحدى نجمات المجتمع البريطاني، كان والدها محاميا شهيرا وأستاذا للقانون بجامعة لندن ووالدتها كانت سيدة أرستقراطية تكثر من حفلات الاستقبال، وأنها أفادت من صداقات أمها بكبار الأدباء البريطانيين، بالإضافة إلى بعض الفلاسفة ورجال السياسة.
وقال: “انبهرت لوسي بفنون العمارة الإسلامية في الجامع الأزهر وفي جامع بن طولون وجامع عمرو بن العاص ومدرسة السلطان حسن درة العمارة الإسلامية ومشاهد الحياة في القاهرة أعادت إليها مشاهد ألف ليلة وليلة. ثم رحلت إلى الأقصر يناير/كانون الثاني من عام 1964 واستقرت في (بيت فرنسا) الذي شيده على ربوة ترتفع خمسين قدما مطلا على النيل ويواجه مسجد أبي الحجاج قطب الصعيد الشهير، شيده قنصل بريطانيا المعروف هنري صولت”.
وذكر أنه وعلى الرغم من مشاعرها الرقيقة فضلت لوسي في بساطة شديدة أن تتعرف بالناس من حولها، فخالطت الفقراء والمساكين من أفراد الشعب، عايشت حياة البسطاء فبادلوها حبا بحب، تداوي المرضى منهم وتشاركهم أفراحهم وأتراحهم، وتشعر بالمظالم الواقعة عليهم، وتتبادل الأحاديث مع الشيوخ والعلماء والعامة، فتبوأت مكانة كريمة بينهم وأحاطوها بكل تقدير فأطلقوا عليها “البشوشة” و”الشيخة” و”نور على نور”.
ومن الرحالات أيضا إميليا ب. إدواردز وهي وفقا للباحث من أهم المؤرخين المتخصصين في وصل الحلقات التاريخية للنيل، انصب اهتمامها على أطلال الفراعنة ومعابد مصر القديمة: “قامت إميليا بالقياس ورسم الاسكتشات وقامت بالوصف وعددت كل التفاصيل التي يمكن تخيلها فقد كانت تجتاز مع عروسين في شهر العسل ينطلقان خلال المعابد معا بينما تمتطي إميليا حمارا لمدة ثلاث ساعات في درجة حرارة تفوق المائة درجة فهرنهايت لتزور المعبد مرة ثانية.
وقال عنها الباحث: “نحن ممتنون لـ إميليا ومعلوماتها الأثرية الغزيرة، لكننا أكثر امتنانا لذلك التصوير الدقيق للطبيعة البشرية، بما أضفي على صفحات مؤلفها من حياة فكم أعشق سخريتها الذاتية، وتعجبها ورفقاءها من تلك الصور المخزنة التي صادفوها كقولها “بقبعاتنا البشعة المصنوعة من ألياف النخيل وأغطية رؤوسنا الخضراء والمظلات البيضاء” إنني أعجب باهتمام بحياة طاقمها المكون من عشرين فردا، والتي تعرفت على أسمائهم خلال أيام، والاطمئنان على راحتهم أقلقها دائما.
أحببت فهمها لتقاليدنا المصرية، وتسجيل كل التفاصيل التي يمكن ملاحظتها واهتمامها بوصف أول مرة ركبت فيها جملا. وقد استمرت إميليا بعد عودتها في اهتمامها بعلم المصريات، فقد أنشأت صندوق تمويل بعثات الحفائر في مصر، كما قامت بحملات لحفظ وترميم الآثار وتوفيت عام 1892 تاركة مكتبتها لـ جامعة لندن، مع بعض الأموال لإنشاء أول كرسي لعلم المصريات في بريطانيا، كما تركت واحدا من أعظم “المؤلفات الكلاسيكية في تاريخ النيل”.
ميدل ايست أونلاين