عرقلة فرنسية لقطار التسوية المفاوضات النووية بين أميركا وإيران.. تتقدم (مصطفى اللباد)

 

 
مصطفى اللباد

تأهب العالم يوم الجمعة الماضي لإعلان نجاح المفاوضات بين إيران والدول الست الكبرى حول الملف النووي، بعدما قطع وزير الخارجية الأميركي جولته الشرق أوسطية ليطير إلى جنيف. وزاد التفاؤل بعد إعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن نيته السفر إلى مكان المفاوضات أيضاً، ما رفع سقف التوقعات كثيرا. لكن الأمور تعقدت ابتداءً من يوم السبت أول من أمس، بعدما تدخل وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس متشدداً في تأويل مسودة «اتفاق الإطار»؛ التي أعدتها إيران بالاتفاق مع الولايات المتحدة الأميركية. وأدى التشدد الفرنسي إلى إعلان جولة جديدة من المفاوضات في جنيف يومي 20 و21 من الشهر الجاري، من النقطة التي توقفت عندها. وبالرغم من عدم حدوث اختراق في الجولة الأخيرة، فإن اقتراب الأطراف المفاوضة من تحقيق اختراق يعني أن المفاوضات الإيرانية مع الدول الست الكبرى قد بلغت نقطة اللاعودة، وأن التعطيل الفرنسي لا يستطيع إيقاف الزخم عن المفاوضات بين إيران وأميركا. لذلك تعد الجولة التفاوضية المقبلة مفتاحية، لأن توقيع «اتفاق الإطار» سيرسم القضبان التي يسير عليها قطار التفاوض في الشهور الستة المقبلة.

فرنسا تعطّل الاتفاق

لعب وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس دوراً أساسياً في تعطيل الاتفاق، إذ سرّب تفاصيل تفاوضية هامة للصحافيين عند وصوله إلى جنيف، ثم عاد وخرق البروتوكول عندما كشف في مؤتمر صحافي فشل الجولة الأخيرة للمفاوضات، وذلك قبل المؤتمر الصحافي المشترك لمنسقة الشؤون الخارجية الأوروبية كاثرين أشتون ووزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في ختام جولة المباحثات. ولم يتوقف التعطيل الفرنسي عند ذلك، إذ أخذ فابيوس على مسودة الاتفاق أنها صيغت إيرانياً وأميركياً، وأنه لا يريد أن يصبح مجرد شـاهد علــى الاتفــاق. أثار فابيوس نقطتين أساسيتين: الأولى أن بلاده لا تريد أن تستكمل إيران البناء في مفاعل أراك، الذي يعمل بالمياه الثقيلة، أثناء فترة المفاوضات النهائية، المتوقع أن تبلغ ستة شهور بعد التوقيع على «اتفاق الإطار». والثانية أن فرنسا تريد الحصول على مكاسب من تحويل اليورانيوم الإيراني المخصب لدرجة عشرين بالمئة إلى قضبان نووية تصلح للاستخدامات الطبية والزراعية حصراً، وهي تقنية تملكها فرنسا وحدها.
للإضاءة على هذه النقطة يجب أن نعرف أن تصنيع السلاح النووي يمكن أن يتم عن أحد طريقين: تخصيب اليورانيوم عبر أجهزة طرد مركزي إلى درجة تسعين في المئة، أو فصل البلوتونيوم باستخدام المياه الثقيلة. والمعروف أن مفاعل أراك ـ على العكس من باقي المفاعلات النووية الإيرانية ـ يعمل بالمياه الثقيلة بحيث يمكنه توليد البلوتونيوم، كمنتج ثانوي. من المزمع تدشين العمل على المفاعل منتصف العام المقبل، أي بعد ستة شهور من الآن، وهي الفترة ذاتها المتوقع أن يستغرقها تطبيق «اتفاق الإطار»، وبالتالي تريد فرنسا سحب ورقة مفاعل أراك من يد المفاوض الإيراني من الآن ودمجها في «اتفاق الإطار». الجدير بالملاحظة أن إسرائيل هددت بقصف مفاعل أراك قبل أن يبدأ العمل فيه، لأنه في حالة دخول الوقود النووي إليه ستؤدي أي ضربة عسكرية إلى انتشار إشعاعي في منطقة واسعة النطاق.
يمكن تفسير الخطوة الفرنسية بتعطيل الاتفاق أنها محكومة بثلاثة اعتبارات: الأول يتعلق بصورة فرنسا باعتبارها مفاوضاً دولياً رئيساً وليست تابعاً للولايات المتحدة الأميركـية، والثاني باستــفادة فرنسا من الاتفاق المحتمل، سياسياً واقتصادياً، بوصفها حائزة تكنولوجيا القضبان النوويـة، في حين يتعلق الاعتبار الثالث بتحالفـات فرنســا بالشرق الأوسط. تملك فرنسا علاقات ممتازة مع دول الخليج العربية وعلى رأسها السعودية، مثلما تملك علاقات استراتيجية مع إسرائيل، التي سيزورها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند قريباً، وبالتالي يبدو الموقف الفرنسي استثماراً في تحالفاته بالمنطقة أكثر من كونه قادراً على تخريب الاتفاق بالفعل.

مسودة «اتفاق الإطار» أميركية ـ إيرانية

لا يبدو أن فرنسا تملك القدرة على تخريب الاتفاق بالرغم من قدرتها على تأجيله عشرة أيام، لأن المفاوضات الإيرانية مع الدول الست الكبرى تدور في العمق بين طرفين هما الإيراني والأميركي. ويبدو أن الأخيرين يتوسلان المفاوضات النووية لتحقيق أهداف داخلية وإقليمية شرق أوسطية؛ لا تتعلق بالضرورة بالتفاصيل التقنية على طاولة المفاوضات. يفيد تقليب النظر في جولة التفاوض الأخيرة بجنيف في الوصول إلى استنتاجات هامة، إذ ان طول مدة التفاوض (ثلاثة أيام كاملة) يعني أن مسودة «اتفاق إطار» تشمل خريطة طريق والأهداف النهائية للأطراف. وبالتالي بحث الطرفان في جولة جنيف الأخيرة في طرائق تنفيذ ما اتفقا عليه بالفعل في عملية تفاوضية قد تواجهها عقبات، لكن يصعب إرجاعها إلى الوراء. وفقاً لما تسرب عن مسودة «اتفاق الإطار»، تتراجع إيران عن التخصيب لدرجة عشرين في المئة وتهبط بها إلى درجة ثلاثة ونصف بالمئة فقط ولكن في كل المنشآت النووية الإيرانية. وتسرب أيضاً أن «اتفاق الإطار» يمنع إيران من تركيب أجهزة طرد مركزي جديدة طيلة فترة المفاوضات، ما يعني أنه يسمح لإيران بتخصيب اليورانيوم عبر أجهزة الطرد المركزي التي تملكها حالياً (عددها تسعة عشر ألف جهاز). وبالمقابل تقضي مسودة «اتفاق الإطار» أيضاً بتخفيف العقوبات الاقتصادية على إيران بمقدار ثلاثة مليارات دولار من ودائع إيران المجمدة في أميركا، ورفع تدريجي للعقوبات على إيران في المجالات الثلاثة التالية: البتروكيماويات، والتجارة بالذهب وقطاع السيارات الإيراني، بالإضافة إلى رفع الحظر على بيع قطع غيار الطائرات الأميركية. وكما هو واضح، الثمار التي تحصل عليها إيران كلها أميركية وليــست فرنسية، وبالتالي فمن المفهوم أن «اتفاق الإطار» صيغ أميركياً إيرانياً بالفعل، لأن الجوائز والالتزامات المترتبة على الاتفاق تقع حصراً بيد واشنطن وطهران.

واشنطن وطهران والنقلة المقبلة

يواجه الطرفان الأميركي والإيراني ضغوطاً داخلية كبيرة بخصوص المفاوضات، وبالتالي يرغبان في إظهار تقدمها حتى ولو كان التقدم بطيئاً. يلقي رأس هرم السلطة في كلا البلدين بثقله وراء المفاوضات: أوباما طالب الكونغرس بعدم فرض عقوبات جديدة على إيران، وبالمقابل أعلن السيد خامنئي دعمه الواضح للمفاوضات وطالب بعدم الهجوم عليها. كل من الطرفين الأميركي والإيراني يحاول تحويل الضغوط الداخلية عليه إلى وسيلة للضغط على الطرف الآخر، وكل منهما يريد تسويق مكاسبه من المفاوضات بالداخل. أوباما يريد إعلان نجاحه في منع إيران من امتلاك السلاح النووي من دون تقديم تنازلات جوهرية في منظومة العقوبات، وبالمقابل روحاني يريد إعلان نجاحه في تقويض نظام العقوبات على بلاده مع استمرارها في تخصيب اليورانيوم.
من المنظور الإيراني، يستطيع أوباما وحده ـ وليس الكونغرس ـ إلغاء القرار 13622 القاضي بحظر تعاملات شركة النفط الوطنية الايرانية مع البنوك الأجنبية، مثلما يقدر من جانب واحد ـ ودون موافقة الكونغرس أيضاً ـ أن يرفع الحظر على بعض الودائع الايرانية المجمدة في أميركا. وفوق ذلك سيسعى روحاني إلى الحصول على ضمانات من أوباما بعدم رغبته في تغيير النظام الإيراني، وإلى منع إسرائيل من توجيه ضربات عسكرية إلى منشآت إيران النووية طيلة فترة التفاوض. ويبدو أن التفاوض في القنوات الخلفية قد بلغ شوطاً بعيداً في هذا المضمار. هنا سيستطيع روحاني بكل سهولة تسويق الاتفاق في الداخـل الإيراني، بتحــويل أمــيركا من تهديد لإيران إلى ضــامن لأمنـها وبتسييل أصول إيرانية مجمدة في أميركا، ورفع الضغط عن الاقتصاد الإيراني مع التمســك بالحــق في التخصيب، وبالتــالي امتــلاك دورة الوقــود النووي الكاملة طيـلة فــترة التفــاوض (راجـع مقالنا في «السفير»: ليالي التفاوض في جنيف 14/10/2013).
من المنظور الأميركي، سيسعى أوباما إلى منع إيران من امتلاك السلاح النووي عبر التفتيش غير المقيد على المنشآت النووية الإيرانية، وسحب الاحتياطي الإيراني من اليورانيوم المخصب ـ سواء عبر فرنسا أو غيرها ـ وتخفيض نسبة التخصيب من عشرين في المئة إلى ثلاثة ونصف بالمئة فقط، وليس آخراً منع إيران من تركيب أجهزة طرد مركزي جديدة، وكل ذلك دون رفع جوهري للعقوبات التي أقرها الكونغرس.
إذا وقّعت الأطراف علــى مســودة «اتفــاق الإطــار» في الجولة المقبل ـ وهو أمر مرجح ـ فستدخل المفاوضات بين الطرفين مرحلتها الأصعب، المتمثلة في التنفيذ على الأرض من الطرفين ومــن ثــم الانــتقال إلى تنازلات متبادلة خطوة خطوة لحل الملف ورفع العقوبات نهائياً. يبدو قطار المفاوضات الإيرانية ـ الأميركية وقد انطلق فعلاً، إذ ان التأجيل الفرنسي لا يؤثر بالعمق في نيات الطرفين الأميركي والإيراني!


صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى