عزل ترامب في سياقه التاريخي: السياسة الخارجية… والسلطة المطلقة
لا تشبه محاكمة عزل دونالد ترامب مثيلاتها: مِن أندرو جونسون إلى بيل كلينتون وبينهما ريتشارد نيكسون الذي اختار أن يستقيل تجنّباً لعزله. اختطّت الحالتان الأخيرتان نهجاً سيتجلّى في أزمة العزل الرابعة، يقوم على استغلال السياسة الخارجية لخدمة الرئيس المأزوم في تحقيق «انتصارات» تُعزّز وضعه في الداخل. طَوّر ترامب مفاهيمَ هذا النهج (اتبعه نيكسون وكلينتون بدرجة أقلّ)، بحيث أصبح أول رئيس إمبراطوري بسلطات مُطلقة في اتّخاذ قرارات أحادية في العلاقات الخارجية مِن دون العودة إلى المؤسسة. بذلك، يكون الرئيس الحالي قد نجح في تحطيم «جدار» مؤسّساتي يفصل، تاريخياً، بين السياستَين الداخلية والخارجية، عبر دمجهما بما يحقّق مصلحته الشخصية، ومقاربته القائلة بأنه بات «لا يُقهر».
الرئيس الإمبراطوري
منذ إطلاق إجراءات عزل ترامب في أيلول/ سبتمبر، أثبت استناد الكونغرس إلى «جريمة» في العلاقات الدولية تفتقر إلى وجود أدلّة صلبة عدم نجاعته. يعتقد فرانك بومان، في مقالة له في «فورين أفيرز»، أن من يسعى إلى إزاحة رئيس من منصبه، عليه، أولاً، ألّا يكتفي بإثبات أن سلوكه مِن النوع القابل للعزل، ولكن أن يُقنع الجمهور بأن هذا السلوك كان سيّئاً بما يكفي لتبرير طرد رئيس مُنتخب. في حالة ترامب، كان واضحاً التفاف المؤسسة الحزبية ومِن ورائها الجمهور حول رئيسٍ بيّنت استطلاعات الرأي الأخيرة أنه بات «لا يُقهر».
شهدت العقود الأخيرة تحوّلات على مستوى اتساع دور المؤسّسة التنفيذية، جنباً إلى جنب «الريادة» الأميركية، وإحجام الكونغرس عن ممارسة سلطته الدستورية. تحوّلات أعطت الرئيس تفويضاً مطلقاً في السياسة الخارجية. وإزاءها، تطوّر مفهوم «الرئاسة الإمبراطورية»، كما يسمّيه بومان، حتى صار مِن الصعب التمييز بين السلوك المشروع: المساعدات المشروطة بمكافحة الفساد؛ والانتهاكات غير المشروعة: حجب المساعدات مقابل الحصول على «خدمة» سياسية شخصية (الحالة الأوكرانية).
لم يسقط ترامب على الأميركيين بالصدفة؛ أحد الأسباب كان تبنّيه وجهة نظر «مبسّطة» لدور بلاده في العالم، ودوره الخاص فيه: «أميركا أولاً». انطلاقاً مِن هذا الدور، باتت السياسة الخارجية تُبنى على أساس المصالح الشخصية للرئيس. أنتج ترامب نموذجاً استثنائياً لمَن سيأتي بعده: أحادية القرار في السياسة الخارجية. أحادية عبّر عنها غير مرّة، كأنْ يُذكِّر في كلّ مناسبة أنه هو وحده مَن اتّخذ قرار اغتيال قاسم سليماني.
رئاسة مهشّمة
إنه منتصف ليل 24 تشرين الأول/ أكتوبر 1973. يعتقد هنري كيسنجر أن السوفيات سيستغلّون أزمة نيكسون لخلق تحدّيات أمام الأميركيين في الشرق الأوسط. تلّقى وزير الخارجية اتصالاً من السفير السوفياتي في واشنطن، أناتولي دوبرينين، ليبلغه رسالة عاجلة من ليونيد بريجنيف: سعى الزعيم السوفياتي إلى تدخل أميركي – سوفياتي مشترك في مصر، وفي حالة غياب التعاون، كان السوفيات على استعداد للذهاب وحدهم في هذا الاتجاه. مرّ أكثر من أسبوعين على بدء حرب أكتوبر، وكان بريجنيف يريد مساعدة حليفه المصري. سأل كيسنجر كبير موظّفي البيت الأبيض، ألكسندر هيغ، إن كان عليه أن يوقظ الرئيس ليبلغه رسالة السوفيات. تلك كانت الأيام الأولى لأزمة ستُنهي، لاحقاً، رئاسة نيكسون. قبلها بأربعة أيام، وفي ما سيُعرف بـ«مجزرة ليلة السبت»، أصدر الرئيس الأميركي أمراً بعزل المدّعي الخاص في قضية «ووترغيت»، أرتشيبالد كوكس، وهو ما أدّى إلى استقالة المدّعي العام إليوت ريتشاردسون ونائبه. وعليه، أيّد الجمهوريون والديمقراطيون على السواء أول محاكمة عزل منذ عام 1868. ولأن رئاسته باتت في خطر، اعتقد مساعدوه أنه فقد استقراره النفسي، وبالتالي لن يكون في وسعه الاستجابة لما يحصل في المنطقة. ورداً على سؤال كيسنجر إن كانت هناك ضرورة لإيقاظ الرئيس، أجاب هيغ بكلمة واحدة: لا.
جدارٌ بين سياستين
يميل معظم الأميركيين إلى الاعتقاد بأن تحقيق العزل شأن داخلي صرف، إلا أن أصداء الإجراءات كانت تُسمع في أنحاء العالم. تصرّف كلّ رئيس أميركي واجه أزمةً مماثلة بطريقة مختلفة: فوّض نيكسون مسؤولية السياسة الخارجية إلى كيسنجر، بينما انغمس كلينتون في صناعة انتصار خارج الحدود (محاولته المستميتة لاغتيال أسامة بن لادن)، وسار ترامب على درب الأخير (اغتيال سليماني والإفراج عن «صفقة القرن»). لكن الثابت في الحالات الثلاث ترسّخ لدى محاولتهم صياغة سياسة خارجية مختلفة في مرحلة أزمتهم الداخلية.
منذ أصبحت أميركا قوّة عظمى، تبنّت مؤسسة سياستها الخارجية فكرة تقول بأن هناك جداراً فاصلاً بين السياستين الخارجية والداخلية، وذلك إيماناً منها بـ«المصالح الوطنية التي تتجاوز الرئاسات الفردية»، والتعبير للمؤرّخ الرئاسي تيموثي نفتالي في «فورين أفيرز». غير أن ضغوط السياسة الداخلية تؤثّر، بطبيعة الحال، في صناعة السياسة الخارجية، وهناك سياقات يرتبط فيها الاثنان ارتباطاً وثيقاً: السياسة التجارية لترامب نموذجاً. فرَضت أزمتا عزل نيكسون وكلينتون ضغوطاً إضافية على ذلك الجدار، وتوصّل كلاهما إلى خلاصة مفادها بأن إنجازاتهما في الخارج من شأنها أن تعزّز موقعيهما في الداخل. وعلى الرغم من استخدامهما الخدعة ذاتها وللسبب نفسه، إلا أن آثارها كانت مختلفة في كل حالة. الأهم ممّا سبق، كان الاختلاف في كيفية تفاعل القوى الأجنبية مع الحدث، وهو اختلاف يساعد في فهم استجابة العالم لأزمة العزل الأخيرة في أميركا. بمنطق «القلق» الأميركي، تعامل كيسنجر مع العرض الروسي، بينما كانت رئاسة نيكسون تتآكل. لكن قصة ما يمكن أن يُطلق عليه «وصاية كيسنجر»، كما يصفها نفتالي، بيّنت أن «قلق» الوزير كان في غير محله، وأن تهديد «الريادة» الأميركية، في وقت الأزمات الداخلية، لا يأتي بالضرورة من منافِسي هذه القوّة.
الوزير الوصيّ
منذ عام 1972، تاريخ زيارة نيكسون إلى بكين وموسكو، بدأت تتعزّز وصاية كيسنجر على الشؤون الخارجية. وما زاد مِن قوّته أن أزمة رئيسه الداخلية جعلته يفقد كلّ اهتمام بالخارج، وخصوصاً عندما أدّت تحقيقات «ووترغيت» إلى استقالة كبير مستشاريه للشؤون الداخلية، جون أرليتشمان، وكبير موظفيه، إتش آر هالدمان. بحلول أيلول/ سبتمبر، عُيِّن كيسنجر وزيراً للخارجية، إلى جانب كونه مستشاراً للأمن القومي، ليصبح مركز صناعة السياسة الخارجية. حين بدأ شبح المساءلة يهدّد الرئاسة، بدا أن هناك ضرورة للحفاظ على انطباع بأن الرئيس ما زال ملتزماً «هيكل السلام»، أو سياسة «الانفراج الدولي». أنهت زيارته «التاريخية» 22 عاماً من الجهود الأميركية لعزل الصين، ودفعت بأول معاهدة للحدّ من الأسلحة الاستراتيجية بين أميركا والاتحاد السوفياتي. كانت سياسة «الانفراج الدولي» لا تزال قيد التشكّل، بينما كانت سلطة كيسنجر تعتمد على تقدّمها. وكلّما ضعف نيكسون أكثر، كلّما أصبحت القوى التي تعارض هذه السياسة داخل الولايات المتحدة أقوى.
امتدّ «هيكل السلام» إلى المنطقة، حيث بعض الدول تحبّذ سياسة «الانفراج» إقليمياً، مقابل انتزاع تنازلات مِن إسرائيل على أيدي إدارة أميركية أكثر انخراطاً. وصلت آلام رئاسة نيكسون الجريحة إلى الشرق الأوسط، وأصبح السادات شريك كيسنجر الرئيس في استغلال آثار حرب أكتوبر لتهدئة الصراع العربي – الإسرائيلي، لتبدأ المساعي إلى إطار تفاوض غير مباشر بين القاهرة ودمشق وتل أبيب. ولكن بينما تعمّقت أزمة العزل، أوضح الرئيس أن هناك حدوداً لدور كيسنجر في نجاحات السياسة الخارجية. وعندما أحسّ بالخطر المقبل في ربيع عام 1974، بدأ ينظر إلى اتفاق فكّ الاشتباك بين سوريا والاحتلال الإسرائيلي باعتباره ضرورة لبقائه السياسي. نتيجة لذلك، مارس ضغوطاً على كيسنجر للتوسّط في اتفاق في أسرع وقت ممكن، يصرف انتباهه عن الداخل: مثلما يمكن نيكسون الذهاب إلى الصين، يمكنه الذهاب إلى دمشق.
خاتمة
كانت نهاية الحرب الباردة هي المُتغيّر الرئيس في السنوات الفاصلة بين استقالة نيكسون (1974) ومحاولة عزل كلينتون (1998-1999). راهناً، أصبحت القوّة أكثر انتشاراً على الساحة الدولية، ما فرض تحدّيات إضافية على النظام الدولي ومكانة أميركا فيه. ترامب، من جانبه، سعى إلى تحقيق انتصارات في السياسة الخارجية خلال أزمة عزله، غير أن إدارته رفضت، أولاً، مبدأ الجدار بين السياستين، ودمجتهما في مؤسّسة واحدة ذاتية المنفعة. في عام 2016، انتخب الأميركيون زعيماً رفض فكرة نظام دولي يعتمد على الولايات المتحدة للحفاظ على التوازن. يفهم دونالد ترامب الشؤون الدولية من خلال التهديدات والتهديدات المضادّة والخداع والاستغلال. ويعتمد نجاح مقاربته على الوهم القائل بأن أميركا لا تُقهر، وكذلك الأمر بالنسبة إليه.
صحيفة الأخبار اللبنانية