شرفات

عسال الورد .. بوابة البداية والنهاية

عماد نداف

قبل ستين سنة كانت توقظني المطحنة بعد شروق الشمس بقليل، كان إيقاع صوتها جميلا يوحي ببدء نهار جديد، والخطوة الأولى في هذا النهار هي رحلة صناعة (الخبز) ، لذلك تأخذني هذه الصناعة في قريتي عسال الورد إلى الزمن الجميل البسيط الحميمي، الذي عشت ذكريات رائعة أكثرها في الصيف، عندما تعطل المدارس وأذهب إلى بيت جدتي لأمضي بضعة أيام في عالم سحري أحن إليه وإلى بساطته، أو أذهب برفقتي أبي إلى بيوت أعمامي محمد رضا ووفا رضا أو أحمد رضا .

شاركت في أيام الحصاد، وتعرفت على طريقة الحصاد بالمنجل، وكانت رحلة الحصاد مع بيت عمي وفا منصور، فذهبت معهم ضمن فريق عمل يتألف من عشرة أو أكثر يحصدون القمح بصف واحد ، وقد دعتني ابنة عمي وكانت طفلة اسمها كفا لأتعلم الحصاد وكان صعبا على طفل عمره سبع أو ثمان سنوات أن يحمل المنجل ويقطع السنابل، وحفظت اسمها سنوات طويلة إلى أن سألت عمي (يعني أبوها) عن سبب تسميتها بهذا الأسم بعد ثلاثين عاما فحكا لي أن زوجته أنجبت قبلها سلسلة بنات وبعد ولادتها سماها (كفا) فولدت زوجته ابنه البكر محمد وفا.

تعرفت على جمع القمح ونقله إلى البيدر مع بيت خالي عبد الرحمن حاج أحمد (أبو عمر)، وهناك شاركت بفصل القش عن حباته الذهبية، وكان خالي أبو عمر يضعني على خشبة الفصل، واسمها (المورج) التي يسحبها البغل ويدور من دون كلل طيلة النهار..

وكنت أهرب مع ابن خالي عمر من الشمس لنجلس وراء كومة القمح  ونغطي رؤوسنا ببعض الملابس إلى أن يحين الإفطار في التاسعة صباحا فنأكل الذرة المخلوطة باللبن ونشعر بحيوية وبرودة في أجسادنا ونعود للعمل قبل أن تحل الظهيرة القاسية.

وكان علي أن أزور المطحنة لأتعرف على سحر هذا الإيقاع الصباحي، وهناك شاهدت أنبوبا يخرج من أحد أطراف المطحنة، وفوق الأنبوب غطاء معدني مرفوع قليلا يصطدم به الدخان المنبعث ليصدر لحن الصباح الخالد الذي لا أنساه.

في المطحنة ، الجميع يعملون ، ثمة أكياس من القمح تنقل إلى الداخل، وثمة دور للطحن، وترى الوجوه والملابس بيضاء غطاها لون الطحين..

وفي هذه الرحلة بين القمح والطحين ثمة ذكريات أخرى، من بينها رحلات الكروم ، فالعنب في قريتنا القديمة كان طيبا حلو المذاق يسمونه العنب الجبلي ، وفي أحد رحلات الكروم حملني عمي محمد رضا منصور على كتفيه نحو كيلو متر وهو يحكي لي عن ضوء القمر الذي خلقه الله ليزين ليل البشر، كذلك هناك صوت قطعان الأغنام التي تعود عند المساء يسبقها جرس الخروف الكبير الذي يقودها ، والتي تذهب إلى ساقية العين لتشرب وترتوي.

وعلى سيرة عودة قطعان الأغنام لا أنسى أبدا طعم حليبها السلس مع وجبات الإفطار التي كانت تعد لنا عندما أكون برفقة أبي ويتخاطفه أصدقاؤه وأقاربه وأقارنه لننام في بيوتهم ، وخاصة بيت ابن خالة أبي مسعود عجاج خلوف صاحب أجمل عينين شاهدتهما في حياتي.

كنا نشرب الحليب ونأكل الجبن البلدي الطازج والبيض المسوق وأنواع شتى من القشطة واللبن ..

أجمل محطة في رحلة الضيف هي رحلة (التنور) فلم يكن هناك (أفران) ولا ربطات خبز ولا دور، كان هناك نسوة يحملن العجين ويذهبن إلى تنور بيت عمتي منى ، وهناك كانت عمتي تقدم لي الخبز الساخن الذي لايمكن أن أجد مثله في هذا العصر..

على مدار الأيام الثلاثة الأخيرة استعدت كل ذلك ، والأحبة يعودون من السفر بعد نهاية الحرب، فقد جمعتنا ولائم الفرح وكان أقراني الصغار قد أصبحوا رجالا فتعرفت على أولادهم وأحفادهم وأنا أحلم بزمن جميل قادم يصنع المحبة القديمة من دون تردد.

 

في الحلقة القادمة : الحكاية في عسال الورد

 

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى