‘عشرة طاولة’ .. تكشف المجتمع المصري وتفضح تناقضاته

يلخص الكاتب الروائي والصحفي محمد الشاذلي في روايته “عشرة طاولة” الصادرة أخيرا عن الدار المصرية اللبنانية، حياة المواطن المصري على مساحة المجتمع ومجريات أحداثه وتقلباته وتناقضاته، فهو مجرد “زهر” يرميه اللاعب في إحدى دفتي الطاولة، يتخبط بين الجنبات وعلى المساحتين الممتلئة بـ “الأحجار” والفارغة، حتى يستقر ويفرغ دوره إذ يتكشف ويقرأ، وهذا بالضبط ما يجري لبطل العمل الذي لم يسمه لكن يعمل موظفا في مصلحة الضرائب، على عتبة الخمسين، ذكي ولماح ويمتلك ثقافة تليق بموظف لا يشغله شيء بعد أداء واجباته الوظيفية.

يتقلب من مقهى إلى مقهى ومن صديق لآخر ومن مغامرة حب أو شبه مغامرة لأخرى، “حريف” في لعبة الطاولة، خبير بمقاهي وشوارع وسط القاهرة. يلخص رؤيته للحياة في كونها “أرقام وخطوط وأشكال هندسية. “وإنني أرى حياتي وربما حياة معظم الناس في ثلاث دوائر الأولى دائرة العائلة والثانية دائرة العمل، والثالثة البلد الذي نعيش فيه”.

هكذا يأخذنا البطل إلى ساحة المجتمع المصري ليضع خطوطها الرئيسية بين ثورتين 25 يناير و30 يونيو، ليكاشفنا بالكثير من الحقائق والتناقضات الموجعة التي مرت وتمر بها الشخصية المصرية، فنحن بين شخصيات تتراوح بين الحكمة والثقافة والاندفاع والانحراف، قلقة ومتوترة وخائفة، تخفي أكثر مما تظهر، تحاول الافلات من تخبطات الواقع فتواجه بتخبطاتها الروحية والجسدية.

تبدأ الرواية بقرار السفر ـ دون إعلان موعد نهائي ـ إلى مدينة بلبيس بعد أن يبلغه أحد أصدقائه أن هناك شخصا في بلبيس يدعى صلاح أبوالخير يستطيع تحديه وهزيمته في الطاولة. وما بين القرار والسفر نعيش حيوات لكل منها نسيجها الخاص وعالمها الخاص ورؤيتها الخاصة للحياة أيضا، لكن أهم هذه الشخصيات تتمثل في شخصية عبدالله سعيد ابن حي السيدة زينب والموظف الذي خرج على المعاش وكان زميلا للبطل في مصلحة الضرائب، ويعيش دوامة تساؤلاته الروحية مع العالم ومشكلات وهموم الأسرة والأهل في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تمر بها البلد بين ثورة 25 يناير وثورة قادمة 30 يونيو، ويتمتع بثقافة وحكمة وخبرة في الحياة تضفي عليها قوة معرفية وروحية عالية فرادة في رؤية وتفسير مجريات الأمور.

وهكذا شخصية آلاء مهندسة الديكور المطلّقة التي استطاعت تجاوز أزماتها بدءا بأزمة الطلاق وانتهاء بحادثة أجرت بسببها ست عمليات جراحية بالدخول إلى عالم التصوف، وهي تمتلك نقاء وقوة تجعلها قادرة على ممارسة الحياة والتصدي لعقباتها.

وكلتا الشخصيتين اعتبرهما المؤلف نسخة متشابهة، “شعرت أنني أجلس أمام النسخة النسوية من الأستاذ عبدالله سعيد”. وينضم إلى هذه الشخصيات شخصية الفلاح صلاح أبوالخير وهو صاحب مزرعة في السبعين من عمره، هذه المزرعة التي لا تتجاوز الفدان هي كل ما بقي له من إرث والده، بعد أن باع الفدان تلو الآخر لينفق بثمنها على الشرب والمخدرات، وقد شكلت ابنته المعاقة في وظائف المخ مصدر هداية له.

وعلى الرغم من أن هناك شخصيات أخرى كصديقي البطل المهندس كمال راشد والمحامي خالد الشيخ، وصديقه عاطف الذي تزوج ثلاث مرات وعرف أكثر من ذلك من النساء، وفقد الأمل في الانجاب، كما فقد الأمل في الكف عن الشرب، ويشارف على الموت بمرض القلب، وشخصية سحر تلك المرأة المتزوجة المحرومة عاطفيا والحالمة بالتمثيل في الإعلانات، إلا أنها تظل شخصيات مساعدة لاستكمال تحقيق تركيبة المجتمع المصري المضطرب، والذي استهدفته الرواية بالأساس معرية هذا الاضطراب على مستوى حيوات شخصياتها روحيا وجسديا وسياسيا واقتصاديا، وفي الخلفية من هذه الحيوات يرزح البلد تحت الفوضى والانقسام وعدم وجود رؤية مستقبلية حتى على المستوى الفردي.

لا يقدم الشاذلي هنا رصدا أو تأريخا لفترة بقدر ما يسرد بعنفوان جمالي تجلى انسابية الجملة وعمق دلالاتها حياة مجتمع، ربما تصادف أن مر بفترة حرجة هي فترة حكم جماعة الإخوان المسلمين ومحاولاتها أخذ المجتمع إلى هوة الرجعية والتخلف والظلام، لكن الحقيقة أن هذه الفترة ما هي إلا استكمال لفترات سابقة كان فيها المجتمع بالفعل ينزل في هذه الهوة، والجماعة الإخوانية لم تفعل إلا استكمال التردي في الهوة.

هذه الشخصيات التي حفلت بها الرواية نشأت واكتمل نضجها ووعيها وثقافتها ووجودها الحياتي داخل فترات سابقة، ربما فترة الحكم الإخواني أو لنقل فترة ما بعد ثورة 25 يناير بما فيها عام حكم الإخوان المسلمين أزاحت الغطاء عن تلك الهوة لكنها بالأساس كانت موجودة، وقد نجح الكاتب في كشف الأمر وإن لم يكن همه ذلك.

سرد محمد الشاذلي ـ كما في أعماله القصصية ـ آسر في لغته وجملته الدقيقة والموحية، ينتقل بين حيوات شخصياته بسلاسة ويسر، يفتح العمق ويغلقه ويضيء دون فجاجة أو افتعال، وهو الأمر الذي جعل الـ زهر/ المواطن المصري يتقلب كاشفا عن مساحات شاسعة من المجتمع المصري.

يذكر أن “عشرة طاولة” تعد العمل الروائى الأول للكاتب وعمله الأدبي الثالث بعد المجموعتين القصصيتين “لمس الأكتاف” 1989 و”تعاسات شكلية” 1998.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى