عشية مئوية معاهدة لوزان: مدن الشمال السوري تحت سوط «التتريك»
كأي دولتين متجاورتين، تَقلّبت حال الحدود السورية ـــ التركية تبعاً لتطورات العلاقات السياسية، التي وصلت إلى مرحلة من التناقض جعلت البلدين في منتصف تسعينيات القرن الماضي على حافة صدام عسكري، ثم ما لبثت أن تحولت مع العشرية الأخيرة إلى «شهر عسل» وتعاون وُصف بالاستراتيجي، وذلك قبل أن تعاود انهيارها السريع مجدداً مع بدايات الأزمة الحالية. وسط كل ذلك، كانت المناطق الحدودية تدفع ثمن تلك التحولات؛ فتارةً تتحول إلى حقول ألغام أو مناطق نائية، وتارةً أخرى تصبح مستهدفة من حكومتَي البلدين بالتنمية والتطوير. إنما في الأزمة الأخيرة، استُثمرت الحدود جيداً لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية، إقليمية ودولية؛ فهُرِّب عبرها آلاف «الجهاديين» والسلاح إلى سوريا، ثم احتلّت القوات التركية بعض مدنها ومناطقها، بحجة «إبعاد مجموعات مسلحة ذات توجهات انفصالية، تشكل خطراً على الأمن القومي التركي».
لكن عملياً، اتُّخذت إجراءات من شأنها تغيير البنية الديموغرافية والاجتماعية لتلك المناطق، التي ربما لم يعرف كثيرون أن الأوضاع المعيشية لسكانها، منذ بدايات الأزمة وحتى احتلالها تركياً، كانت جيدة وفق نتائج مسوح سكانية مستقلة. وهذا على خلاف حال معظم المناطق السورية، التي عانت من اختلالات اقتصادية عديدة بفعل الحرب. وسجّل مؤشر الشروط المعيشية لمدينة عفرين، المؤلف من 10 مؤشرات فرعية تبدأ بشروط المسكن وتنتهي بالمواصلات والنفايات، رقماً قدره 0.75 وفق بيانات مسح السكان الذي جرى في عام 2014، وفي مدينتي منبج وعين العرب نحو 0.50%، علماً أنه كلما كان المؤشر أقرب إلى الرقم 1، كان الوضع أفضل. وربما هذا ما دفع كثيراً من الأفراد، من مختلف القوميات، إلى النزوح إلى تلك المناطق. فحتى نهاية عام 2017، كانت مدينة عفرين تستقبل بناءً على بيانات أممية محدثة نحو 55.5 ألف نازح، مشكلين بذلك نحو 38.6% من إجمالي عدد سكان المدينة البالغ نحو 144 ألف شخص. وكذلك كان الوضع في منبج، التي استقبلت نحو 54.7 ألف نازح بنسبة تصل إلى 26.8% من إجمالي سكان المدينة، المقدَّر عددهم بنحو 204 آلاف نسمة. أما حالة النزوح الأكثر تواضعاً، فسُجّلت في مدينة عين العرب، حيث لم يتجاوز عدد النازحين أكثر من 500 شخص، مقارنة بنحو 94 ألف نسمة، عدد سكان المدينة عام 2017.
بعد أربعة أعوام!
كل تلك المؤشرات طويت مع دخول القوات التركية إلى بعض المناطق، فيما تتوجس أخرى من تعرضها للمصير نفسه، في ظل تساؤلات عن الهدف التركي من تخريب مجتمعات مستقرة، وتغيير بنيتها الديموغرافية عبر إعادة إحياء سياسة «التتريك». فهل هو هدف الهيمنة، الذي لا يجد باحث اقتصادي سواه هدفاً مناسباً لحجم الإنفاق العسكري والمخابراتي التركي الهائل؟ أم أن هناك أطماعاً اقتصادية في المنطقة المشهورة، التي لها «أهمية اقتصادية لكونها مناطق غنية بالثروات، وأيضاً لها أهمية جيوسياسية» بحسب وصف الدكتور حسن حزوري، نائب عميد كلية الاقتصاد في جامعة حلب؟ أم أنه الخوف فعلاً من الأكراد «وطموحاتهم» القومية كما هي حال الحديث التركي دوماً؟
هنا تلتقي الأهداف الثلاثة المذكورة في المشروع التركي المُعَدّ للشمال السوري. فالهيمنة باتت جزءاً من استراتيجية الرئيس التركي، طيب رجب أردوغان، في المنطقة. وبحسب أحمد الإبراهيم، الباحث في الشأن التركي، «صرّح أردوغان أكثر من ثلاثين مرّة أمام عدسات الكاميرات قائلاً: أنا الرئيس الإقليمي لمشروع الشرق الأوسط الكبير، ومكلّف مهمات عليّ تنفيذها… وسنعمل بجدٍّ من أجل نضج مشروعنا عام 2023». ويضيف الإبراهيم في حديثه إلى «الأخبار» أن «هذا التاريخ يشير إلى أمرين: الأول هو الذكرى المئوية لانهيار الدولة العثمانية وتأسيس الجمهورية، وفي هذا العام سيُدقّ المسمار الأخير في نعش الجمهورية، بعد أن تفكّكت مؤسساتها، من أجل إعادة بناء السلطنة. والثاني يتمثل بالانتهاء من العمل بمعاهدة لوزان (1923) والعودة إلى الميثاق القومي الذي صدّق عليه مجلس المبعوثان العثماني، والذي يرسم الحدود التركية انطلاقاً من شمال اللاذقية، ويضمّ إدلب وحلب ودير الزور وكركوك والموصل».
وتحضيراً لذلك العام، تحاول أنقرة تثبيت حضورها في الشمال السوري عبر الحضور العسكري المباشرة تارةً، والمطالبة بإقامة منطقة آمنة تارةً أخرى. وهي في الحقيقة ستكون «منطقة أمنية وليست آمنة، أي لن تكون منطقة منزوعة السلاح، بل سيُحافَظ على الفصائل الإرهابية الجهادية التي تُعَدّ الجيش البرّي لأصحاب مشروع الشرق الأوسط الكبير. كذلك فإنها ستكون الخطوة الأولى من أجل توطين السوريين الذين نالوا الجنسية التركية في هذه المناطق، إضافة إلى أتراك الأويغور الذين أُحضِروا من الصين، وذلك بغية تهيئة الأرضية اللازمة لإجراء استفتاء شعبي بهدف إعادة ترسيم الحدود السورية ـــ التركية»، بما يحقق مصالح أنقرة الجيوسياسية والاقتصادية. فالشريط الحدودي كما يوضح فارس الشهابي، رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية، لـ«الأخبار» له «أهميته الصناعية والزراعية والتجارية، وسابقاً كانت هناك اتفاقية بين البلدين لإنشاء منطقة تجارة حرة فيه». ويستشهد الشهابي في تأكيده البعد الاقتصادي للمشروع التركي في سوريا «بعمليات النهب والسرقة التي تعرضت لها معامل حلب ومصانعها والمحاصيل الزراعية الاستراتيجية من قمح وقطن وزيتون، إضافة إلى محاولة إغراق الأسواق السورية بالسلع التركية المهربة للإضرار بالصناعة السورية».
وهو ما يذهب إليه أيضاً السياسي الكردي السوري، ريزان حدو، الذي يرى في حديثه إلى «الأخبار» أن السلطة الحاكمة في تركيا لا تخفي «مشروعها التوسعي للهيمنة على شعوب المنطقة ومقدراتها تحت عنوان إعادة أمجاد السلطة العثمانية». ومن المفيد التذكير هنا بأن استهداف الاقتصاد السوري، وتحديداً مناطق الشمال، لم يكن فقط إثر الأزمة السورية عام 2011، بل بدأ منذ عام 2005 تقريباً، الأمر الذي لا يزال صناعيّو حلب وتجارها يستذكرونه بمرارة كبيرة، لما حمل من خسارات لاقتصاد مدينتهم مقابل مكاسب كبيرة للاقتصاد التركي. ويصرّ السياسي الكردي السوري على أن «المشروع التركي في الشمال السوري لا يستهدف الأكراد فقط، بل كل السوريين، بدليل توعد أردوغان بالصلاة في الجامع الأموي، ولا أعتقد أن من يسكن في حيّ الحميدية والمناطق المحيطة بالجامع الأموي هم من الأكراد، كذلك فإن أصحاب المعامل المنهوبة في حلب أغلبهم عرب سوريون، وليسوا كرداً سوريين».
صحيفة الأخبار اللبنانية