كتب

عش الطائر المتوحد: جدلية التخييل القهري، والتخييل الإبداعي

قد يبدو للقارئ/الناقد وهو يقرأ رواية أبويوسف طه “عش الطائر المتوحد” أن يستعرض الأدوات الإجرائية والمفاهيم النقدية، المعزولة قليلا أو كثير، عن خلفياتها المعرفية والنظرية والفلسفية، و عن سياقاتها الاجتماعية و الثقافية، خلال مقاربته للرواية من زاوية النقاش الخصب والثري الذي درا بين فيليب لوجون، برودوفسكي، جرار جينيت… حول : السيرة الذاتية، الرواية، والتخييل الذاتي…

فرواية “عش الطائر المتوحد”تفتح مسارب كثيرة، وتضع معطيات نصية غنية، وتوفر فرضيات تأويلية لمقاربة من هذا النوع. فالتباساتها بين السيرة والرواية والتخييل الذاتي، بين أثر الواقع والمتخيل، إلى جانب شقوق طياتها الساحرة وهي توهم بالواقعي واقعا ملموسا في صورته المرجعية، وهي في الوقت نفسه تمارس التخييل الروائي كآلية للصراع في مواجهة التخييل القهري وما يولده من إحباطات الى حد المسخ والسلخ للقيمة الإنسانية من الفرد حتى يسهل التهجم عليه وإذلاله، وسحقه ليس فقط سياسيا واجتماعيا، بل أيضا وجوديا كحشرة أو شيء غير مرغوب فيه، يجب التخلص منه في أسرع وقت ممكن، ورميه في أقرب صندوق للقمامة.

لكننا نفضل انتصارا لمتعة ولذة النص الانطلاق من الخصائص المعنوية والفكرية والدلالية التي أفرزتها سيرورة القراءة في تفاعلها مع النص، وهي تحاول توليد الدلالة وإنتاج المعنى.

لذلك سوف نركز على جدلية الصرصار والفرد، أي على الصراع الرهيب، بين التخييل القهري الأقرب الى الأجواء النفسية الاجتماعية والثقافية المرضية التي تستهدف مسخ الانسان وسحقه دون شفقة ولا رحمة، كما لو كانت تتخلص من صرصار كريه ومفزع، والتخييل الفني والجمالي كحالة نفسية إبداعية ينتجها الأمل الشاق المحفز لإطلاق طاقات الحياة القادرة على  تحقيق الذات وبروز الفرد، وبالتالي تخطي بشاعة التخييل القهري الذي يزج الذات في دهاليز الاستيهامات المرضية .

1–    التخييل القهري: عندما يصير الإنسان صرصارا

رواية ” عش الطائر المتوحد” هي رواية القهر السلطوي بامتياز كبير. إنه قهر نابع من تجاويف السلطة السياسية والاجتماعية في استئثارها بالقوة والسلطة والثروة، من خلال جدلية الحماية والاذعان الى حد الاسترقاق والمسخ للقيمة الانسانية للمحكومين. هذا ما اجتافه الراوي في طفولته وهو يشهد ويشاهد صفعة الشرطي الفرنسي على وجه أبيه ظلما وحقدا، لا يخلو من نزوة شر صريح في سحق الأب المنزوع القيمة الإنسانية والهوية والانتماء والسيادة. ”  كره العنف تولد عندي من رؤية شرطي فرنسي يصفع والدي بالمحكمة حيث رافقناه أنا ووالدتي ليتقاضى في صراع مع جزائري” 31

كما أنه قهر يسكن البنيات الاجتماعية والثقافية والقيمية. ” الجوع  عام لا يستثني إلا القليل من الناس…القذارة واللباس الرث والقمل والبرغوث والبق، انتشار الأمراض كالرمد الحبيبي والسعال الديكي والجذام والسل والتيفويد.”40 قهر متلبس للعلاقات الاجتماعية، التي عاش في ظلها وظلامها، وبعض نورها  الراوي طفلا وشابا ورجلا طاعنا في السن. قهرمستوطن في خلفيات النظرة والرؤية للفئات المجتمعية التي ترزح تحت عبء وطأة الظلم والنبذ والاحتقار بمختلف مستوياته. إنه الشر الذي يتناسل ويتكاثر كلوثة عدوى رهيبة أقرب الى حرب الفيروسات المخيفة التي صارت تهدد الوجود الإنساني. هكذا هي سيرورة حياة الراوي منذ ولادته وهو ينتقل من محنة لأخرى، لا يراكم غير تجارب العذاب والألم النفسي والجسدي والفكري الثقافي، والسياسي لسلطة القمع والقهر، والاجتماعي في الدلالات والعلاقات والنظرة والأحكام القيمية والأخلاقية التي يؤسسها واقع الجوع والفقر، والذل والمهانة، وانحسار الوعي، واختناق الشرط البشري، إلى درجة البؤس الإنساني الممسوخ، حتى في جوهر معاني ودلالات عواطف الإحساس بالآخر شفقة ورحمة وتعاطفا…

لم تكن كل الأطر الاجتماعية والثقافية والتربوية في مستوى التقدير الإيجابي اللامشروط لقبول وتقبلوجود الراوي طفلا أو رجلا، كذات إنسانية مستقلة في نموه ونمائه، وعبر كل صيرورة حياته الخاصة والاجتماعية. فقد ورطه المعلم اللئيم، منذ البدايات الأولى في بناء هويته الذاتية وتاريخه الشخصي، في تجربة عذابات ألم عميق دمر وخرب شرطه الإنساني في الحضور والتفاعل، والوجود البشري. ” قال مستهزئا (انظروا الى يد أخيكم الشبيهة برجل إوزة والى أذنيه غير المتآخيتين). لم أعد أراه حجبته عني سحابة، ارتخت ركبتاي لما ضج التلاميذ ضاحكين… حسبت أن جبلا تدكّه الرياح وتذروه، تتراكم حجارته فوقي. انسحبت منكمشا وددت لو نفذت من الجدار الى الخارج أو لو انشقت الأرض لأهوي الى أعماقها. لقد قتل هذا الشرير في نفسي شهوة الحياة والإحساس بالوجود، لقد غدوت حقيرا في نظري، بالونة مملوءة بالهواء. كلما دق الجرس خرجت أجر نفسي نحو المنزل… منذ ذلك الحين بدأت أسير بمحاذاة الحيطان ويدي مدسوسة في جيب السراويل، الحلم وحده شفيعي، إذ كنت خلاله أرى يدي وقد انفكت أصابعها عن بعضها، متجاورة في وئام… وقفت  على فداحة أن يطأ المرء بأقدام خشنة الكبرياء الرهيفلطفل، يا لها من وحشية” 17و18

هكذا عاش الراوي تجارب شخصية مؤلمة مرتبطة بوسطه الأسري والعائلي والقبلي( الدوار). حيث رافقته عذابات آلام مختلفة كطفل معلول مصاب بمرض فرض عليه الانكفاء على الذات والعزلة. وزاد الوعي الاجتماعي والتربوي لوسطه المتخلف في تمثلاته وتصوراته الثقافية تجاه الإعاقة التي يعتبرها نقصا وتبخيسا من القيمة الإنسانية للفرد، أو النظر إليها بحذر وريبة، كما لو كانت لعنة ولوثة من مس الجن أو الشيطان، حسب المعتقدات الخرافية والغيبية البلهاء، يمكن عزل صاحبها وإقصاؤه، أو جعله وسيلة للتبرك.وإزاء هذه المعاناة التي ولدتها التشوهات العقلية لثقافة محيطه المجتمعي، غرق الراوي في عوالم القراءة من كتاب لآخر، الشيء الذي جعله مع السنوات قادرا على ممارسة وباء الكتابة، خاصة وهو ينفتح على كتابات وأعمال مفكرين مثل سلامة موسى، الذي أثر عليه بشكل كبير في بناء الذات وتكوين نمط التفكير الوجودي. فكان طبيعيا في واقع القهر هذا أن يسير في درب الحرية و الآلام والمحن، من تجربة صعبة لأخرى أكثر منها صعوبة وتعقيدا.

تضعنا الرواية أمام وسط اجتماعي سياسيمحكوم بالقهر وآلياته النفسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تسعى الى قمع السؤال النقدي السياسي والاجتماعي والثقافي. وهذا يعني قمع الأصوات التي لها رؤية مختلفة للحياة المجتمعية والدولة والثقافة، أي الرؤية المعارضة والنقدية، الرافضة لهذا الواقع الموشوم بالظلم، والحالمة بتغييره نحو الأفضل، رغبة في الكرامة والحرية والعدالة.” كان طموحي في مغرب آخر ذا سطوة علي، مما ولد كرهي المطلق للظلم، ولوضع بائس، يعيش فيه مواطنون في ظل رفاه مطلق، وآخرون عيشة كلاب.”52

فواقع المحن والظلم التي عايشها وخبرها الراوي منذ طفولته جعلته ينحاز فكريا وسياسيا وإبداعيا. لذلك انخرط في الفعل السياسي.” بذرة كراهية الظلم والعنف والسطوة، وجدت في نفسي تربة خصبة أدت بي في سن مبكرة للالتحاق بالحزب الشيوعي، وها هو الشر ينتأ برأسه ذي القرون.” 31

و هذا ما جعله يعيش تجربة الاعتقال السياسي، بكل عذاباتها الرهيبة، الى حد عد أنفاسه وحركاته، بعد اطلاق سراحه. وقد لازمه ظل القمع في شخص الشرطي الذي أذاقه مختلف ألوان التعذيب والإهانات المختلفة.مما ولد في نفسيته نوعا من التحقير والتبخيس الذاتي. خاصة أن محيطه العلائقي كان في جزء منه، بشكل صريح، الى جانب سلطة القمع والقهر، أما الآخرون فقد عاملوه بقسوة حيث جعلوه محط شبهة ينبغي الاحتياط منه ونبذه بدافع ما تمليه المصلحة الشخصية، والوعي المغلوط والزائف لما يسمى البسطاء أو الشعب. فانحسرت دائرة الأصدقاء، وبات الشك والحذر قرينه تجاه كل من يبدي أدنى اهتمام به، أو يسعى الى التعرف عليه والتواصل معه. لأن الكثير منهم أساؤوا إليه، وكانوا وراء شر قهر السلطة الذي طاله بالعنف والقمع والترهيب. ” بدأت صورة الشرطي تتناسل في أشخاص آخرين خبرت المعاناة مع صلفهم وغرورهم وقسوتهم. لم أكن بالنسبة إليه إلا صرصارا، عليه التخلص منه بدوسه بحذائه.”154

هكذا استطاع التسلط القهري السياسي والاجتماعي أن يورطه في قوقعة التخييل القهري للعنف السياسي، الذي جعله خنوعا خاضعا لعذابات ألم سطوة جلد الذات وتحقيرها وتبخيسها، وهو يعيش نوعا من العجز المتعلم في تقبل واقع النبذ والانسحاق الوجودي، في النظر سلبيا الى ذاته التي تعرضت للإذلال والمهانة، والمس بكرامته الشخصية وهويته النرجسية، في سلخ بشع وهمجي لقيمته الإنسانية،

خاصة حين كان يمسح بصقة الشرطي من على وجهه، دون أن يقوى على أي رد فعل نابع من الجرح النرجسي لكيانه الإنساني، حين كان يسحق كأي حشرة. ” تذكرت البصقة التي قذفها شرطي مغربي على وجهي منذ سنوات فمددت  كفي ومسحتها، يصاحب حركة أصابعي المرتجفة إحساس بالمذلة والتلاشي وكأني أفرغ من أحشائي … تقافزت  في داخلي ذئاب عاوية مكشرة، تتأهب للانقضاض، لكن سور الجبن والخوف عاقها، تركتني متهدلا كثوب”.98

من هذا الجحيم المحموم ينتج القهر أدواته الرهيبة في شكل تخييل يسيطر على الوعي، ويتحكم في الادراك، كشر مروع ينخر الذات من الداخل، وهو يضعها في دائرة الفراغ الوجودي واللاجدوى. اشتغال لا يخلو من سطوة التعذيب قصد هدم كل الجسور التي تربط الفرد بالحياة. وذلك لجر الذات إلى معركة سيزيفية مأساوية ضد نفسها ، وهي تنهار وتتآكل في معركة سلبية تخوضها الذات ضد الذات في صورة أسطورية كما لو أنها الشر المحض. ” حياتي البائسة المحفوفةبالعذابات، ما جدواها؟ ولماذا وجدت ما دام ما يملأ بين ولادتي ومماتي شقاء في شقاء، أنا اللا أحد، أهيم باحثا عني فأجد الخواء والسواد كجوزة فاسدة ؟ وما رويته الى حد الآن أيعنينيأم هي حياة شخص متسلّط، وجدني جوفا فارغا فاستوطنني، يعدو بي في جميع الاتجاهات”120

بهذه الطريقة البشعة يشتغل التخييل القهري محكما خناقه على الذات، ناسفا شرطها الإنساني، وهو يستوطن أعماقها زارعا بذور الريبة والشك والتدمير الذاتي،  لطمس حقيقة الصراع الذي يمكن أن يخوضه الفرد بوعي نقدي ضد نظام القهر الذي تسلط عليه وفك ارتباطه بكل صور الحياة الجميلة والخلاقة في العطاء والأخذ، والصمود والصبر، والتقبل الإيجابي لصورة الذات حماية للهوية الشخصية والنواة النرجسية الحميمة التي تجعل من الانسان إنسانا، عوض الاستسلام لهوامات التخييل القهري في تبخيس الذات والسعي تلقائيا نحو القبول والتقبل لما يمكن أن يوحي بمسخها وسلخ قيمتها الإنسانية. ” خيل إلي أني تحولت الى صرصار. في الصباح استرجعت ذلك باندهاش وسخرية، لكن لذ لي أن أمثل نفسي صرصارا مادام وجودي الإنساني غير مجد، فثقب غائر في ذاتييجذبني الى هذا الاستيهام وليد تحقير دائم ومعاناة قاسية.

ثقب غائر مظلم أعطب وجودي.”13 هذه الصور الذهنية المشحونة بالنظرة الدونية والخيالات المرعبة  يدسها التخييل القهري في جوف الفرد،فلا تكف عن محاصرته ومطاردته أينما حل وارتحل. لا تفارق هذه الرؤى  الكابوسيةمنابع وعيه، وشاشة إدراكه، متحكمة في صدارة انطباعاته نحو نفسه والآخرين والعالم.

حيث  تعمل على تعذيبه باستمرار، محطمة كيانه الإنساني فاتحة في كل لحظة، موقف دفتر الحساب العسير مع الذات بشكل سلبي لا يؤهل الذات للتطور والتقدم في سيرورة النماء و الثراء الوجودي. ” ينتابني شعور بالخزي. أبدو لنفسي كريها، ضئيلا كالصرصار.”127

هذا ما يؤدي بالفرد الى العزل والإقصاء والهروب الذاتي من طاحونة الحياة التي لا ترحم الضعفاء، الذين خدرهم التخييل القهري، وسمم  أسلوب حياتهم، ونمط تفكيرهم الوجودي، وشكل رؤيتهم للذات والآخر والعالم، حيث جعلها ضيقة عاجزة عن رؤية الشر المحض الذي تلبس الجميع: المجتمع والدولة والثقافة والتاريخ…

” طاحونة الحياة التي تدور بقسوة وجنون كفيلة بأن تفرغ إنسانا ما، سقط بين دواليبها الفتاكة، من جوهره الإنساني، ليصبح اللا أحد، ضحية نظام كلي القدرة لا يرحم.” 158

2التخييل الإبداعي: بروز الذات وولادة الفرد

تقحمنا الكتابة/الرواية في مخاضات سيرورة تشكلها كنص روائي يحاور هواجس محنة ولادته كتخييل إبداعي، يدرك شروطه الملمومسة المؤطرة استعاريا في نسيج العنكبوت اللغوي بتعبير رولان بارط.

تورطنا الرواية في ايحاءات الرغبة المتمنعة عن كشف المستور، وتعرية صمت الذاكرة، ونشر غسيل الذات وما علق به من قذارة وحل الحياة.

و الراوي يتقن فن التقطير اللغوي والحكائي لحاجة في نفسه: ” تحقيق تكثيف وامض” . لذلك حين فكر فيفتح ما تراكم في الصندوق، كان مدركا جدلية لعبة البوح والكتمان، و هي تغرينا بسحر الظهور وما يخفيه في الشقوق والطيات. محاولة الاشتغال على أثر الواقع بما يحقق تفاعلا فنيا بين المتخيل والواقع. أي بين السيرة الذاتية والرواية والتخييل الذاتي.” هاهو الصندوق المزخرف ذو القفل النحاسي اللون يغري بأن أبعثر محتوياته من آلام وجراح.”54

لكنه لا يقوى على الذهاب بعيدا في حضرة التعري، لأنه خبّر وعايش عن قرب الشر الملعون الذي يتلصص، بفضول مقزز باعث على الغثيان،على تلك النواة الخاصة الحميمة التي تشكل جوهر الانسان وحصانته الذاتية. ” في هذا الصندوق أودع ما لا يروى، يظل مكتوما حتى يوارى مع جثي، ويتحلل في القبر فيكون جانب مني في الضوء والآخر في الظل، لأننا لا يمكن أن نسير عراة وإلا ابتلعتنا الأفاعي، التي أوكارها الأفواه التي تقضم الناس قضم الحمير للشعير.”54

لهذا  ينطلق الراوي مما يمليه منطق الكتابة وآلياتها الداخلية في تخييل واقع حياته القهرية وما تفرضه سطوة التخييل القهري المضادة، والرهيبة، على الذات في سيطرتها وتلاعبها بالعقول الفردية والجماعية، الى أن تفقد زمام التحكم في مساراتها ومصائرها. إن لم تسحقها وجوديا في وضع مقرف لا إنساني. تحط من شأنها واعتبارها، تضعهافي مستوى ما دون خط البشر، حيث ترى نفسها مجرد حشرات لا أقل و لا أكثر.

هكذا يقوم  الراوي  بقراءة صارمة لركام تجربته في الحياة المحكومة بالشر المحض الذي يتجاوز الأشخاص، الذين همهم الوحيد حفر الحفر العطنة، وتنصيب الفخاخ في حق أقرب الناس إليهم، وهم لا يجدون أدنى حرج في نكران الفضل والجميل، والجود والإحسان، كما حدث مع الغالية.وهذا ما أدركه الراوي بوعي عميق.إنه أمام حالة بنيوية نظاميه تتخطى الفهم  المعزول للجلاد والضحية. فقد عاش ما يكفي في حياته الشخصية من تجارب مرعبة ومؤلمة، و كان شاهدا على أحداث ووقائعحفرت عميقا في ذاكرته أخاديد الحزن والألم. سواء في علاقته بالظلم والقمع، أو في علاقاته الأسرية والعائلية كالخال والغالية. دون أن ننسى علاقته بالشرطي الجلاد، عين القمع التي لا تنام، وهي تحصي أنفاسه و تطارده في كل زمان ومكان. ” كان يبدو لي حقيرا دنيئا،وهو زبدة نظام مثلما أهالي الدوار، والبنت الجحود الوجه الآخر… تجلى لي في شخصه الشر المحض.”154

فالحساب النقدي العسير الذي فتحه الراوي مع نفسه، وهو يستعيد بألم كبير المحطات والمنعرجات والوقائع التي منحتلحياته وجهة دون أخرى، كالقدر المحتوم. كان القصد من وراء ذلك التحرر من سطوة التخييل القهري الذي حطم كيانه وسلخ قيمته الإنسانية، حيث كان يبدو لنفسه مجرد صرصار. وقد جعل من هذا التخييل القهري المبخس لوجوده قالبا أو هيكلا في سيرورة التشكل الفني للتخييل الإبداعي.” راودني الإحساس، وأنا مرمي في سلة الانتظار بأنني كائن غير مرئي، وأنني مسفود في مشواة. هذا هو الهيكل العظمي لتلك الاستعارة المبتغاة”. 6

وهذا ما سمح له بانبثاق السخرية اللاذعة، وهو يشهد على نفسه وعلى الدولة والمجتمع والثقافة والتاريخ، خلال عبوره ليلا فضيحة الحياة التي همشته الى أبعد الحدود، وجعلت منه ومن ذويه وأقربائه ومجتمعه مجرد حشرات يسحقها وحل الحياة وحذاء السلطة. ما كان له أن يرفض تلك الحياة الزائفة، لوجوده اللامرئي، أو اللا أحد. حياة انعدم فيها التقدير والاعتبار والاحترام والاعتراف بقيمة الانسان، وما يؤسس وجوده من قيم أخلاقية إنسانية، إلا من خلال ذلك الهيكل وما اكتنزه من استعارات محفوفة بالألم والأمل ” هذا العالم المرتب داخلي وخارجي تبدد كأنه لم يكن وهذه القصة التي شغلتني ورويتها لكم دون أن أحس بسعادة بل بشقاء مر لم تكن إلا زيفا في زيف، الآن الأشخاص كلهم أصبحوا ظلالا، أو إذا رغبتم في الدقة فهم وهم وسراب.”134

وفي هذا السياق وجه نقدا عنيفا لكل الأوهام التي اعتنقها فكرا وممارسة وهو يتذكر ثقته العمياء في القناعات والعلاقات والعمل الحزبي المشحون بالغبار والأوهام. ” نحن موقنون من أن السلطة ستسقط كثمرة ناضجة بين أيدينا، يا للوهم… الواضح أننا نحلمكيرقات في مستنقع صغير.”101 وتشتد قسوة السخرية في هذا النقد الجذري للحياة الزائفة التي تورط في منعرجاتها فاعلا ومنفعلا. وهو يتذكر بشاعة الوهم الذي أسدل ستارة الزيف على بصيرته ووعيه، فكان كمن ينظر ولا يرى ما يستطيع القهر أن يفعله بمنطق التاريخ وصيرورته، حين يقذف بالناس الى طاحونة الحياة كي تسحقهم دون شفقة ولا رحمة. ” بدا الناس منصرفين الى أغراضهم غير عابئين بعالم المخابئ، حيث الديدان تفرز خيوط الأوهام” 130

وهنا يكمن سر نظرته السوداوية كنقد ايجابيلكل محطات حياته التي هدرها تحت ضغط التأثير الجهنمي للتخييل القهري، الذي تلبس مفاصل الحياة وفرخ أعشاش الشر في كل جانب وزاوية. فقد مسخ وجوده وجعله مجرد لا شيء.

وضد حياة لم تكن حياة اختار التخييل الإبداعي لولادته من جديد، في نوع من التوحد الناذر الأقرب الى خشوع التصوف المفعم بالتأمل الباطني العميق، دون أن يثيره نباح الكلاب في هذا التبادل الجميل لتمرير السائل المخصب بينه وبين الكتابة في أفق استعادة نعمة الوجود والاعتراف التي اغتصبت منه ظلما وعدوانا.” يسمع نباح كلاب ثم يهدأ كل شيء، تاركا للطبيعة أن تعزف أناشيدها لي، لي أنا وحدي حيث أخرج من قشرة اللا أحد الصلبة لأكون. واسعداه، إنني أرى في نفسي مرآة الكون حيث لم أفلح في رؤيتها في عيون البشر.”138

صحيح أنه تمرد منذ وعيه المبكر ضد الظلم الذي تشربه  في طفولته، وفي المدرسة، وفي علاقاته بالآخرين، وكان شاهدا عليه في الصفعة التي نزلت بعدوانية على وجه أبيه، والبصقة التي حطمت كرامته، وهو عاجز بألم عميق عن الدفاع عن نفسه، حيث لم يكن  يقوى على الفعل ولا على رد الفعل. وهذا ما جعله يختار بوعي وإرادة الصراع ضد الشر المنبث في كل شيء، إذ يرخي ظلاله المظلمة على كل مفاصل الحياة المجتمعية لأغلب الشعب المقهور. فانخرط في اليسار فكرا وممارسة. وآمن بالفعل الإنساني ضد الخراب وهو واع بخطورة مسالك الوعي والكتابة. “أزعم لنفسي في محاولة للإقناع بأنني ارتأيت ولوج الكتابة لأؤثث ما حولي وأكافح ضد الخرب الذي يفترس كل ما هو جميل، بهذا أجذب إلي المتاعب.” 152

في هذا التخييل الإبداعي نتفاعل مع التمرد الأصيل للذات، وهي تخوض معركة الذات ضد الذات.  ومن لا ينتصر على ذاته المسلوبة المنبوذة المغيبة في محراب الحياة الزائفة، لا ينتصر على أي شيء آخر. ذات اللاأحد التي استوطنها التخييل القهري جاعلا منها مجرد صرصار لا قيمة له.

” بلملمة هذه الوقائع المبعثرة على صفحات أيامي يكون شر كبير قد استوت ملامحه البشعة وهو ما أليت على نفسي أن أحاربه. إني أحكي  مجبرا بدافع لا أعلم على وجه التحديد مرماه، فهذا شبيه بسلخجلدي بسكين حاد، إلاأن يكون رغبة في أن أعود بذاتي التي حلت في صرصار من فرط المهانة الى سوائها.”102

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى