كتب

عصام العبدالله… العرّاف الذي طار «فوق جغرافيا الكون»

مهمةٌ وضروريةٌ هي الكتب النقدية التي تتحدّث عن الشعراء، فالشعر سمةٌ رئيسية من سمات تطوّر الأوطان كما كان غوته يقول. فماذا لو كان الشاعر المقصود هو أحد رواد الشعر العامي وأركانه الراحل عصام العبدالله (1941 ـــــ 2017)؟ في «العرّاف: دراسة في شعر عصام العبدالله» (دار النهضة العربية)، تقدّم الشاعرة والباحثة اللبنانية سارة بشّار الزين كتاباً بحثياً عن الشاعر اللبناني القادم من قرية الخيام الجنوبية والمولود في أنطلياس عام 1941.

يتألّف الكتاب من مقدمةٍ ومدخل وتسعة فصول رئيسية متكاملة تدور حول شعر العبدالله وبناء القصيدة عنده. في الفصل الأوّل، نجد دراسة بنيوية في شكل وبناء القصيدة عند عصام العبدلله، وتتنوع الفصول اللاحقة في مقاربة مواضيع المرأة، بيروت، السياسة، الدين، الجنوب، الرمز والأسطورة، الفلسفة والكون والطبيعة، وصولاً إلى فصل تسمّيه الباحثة «العرّاف».

يختتم الكتاب بشهادات لباحثين وأدباء في شعر العبدالله. يتقدّم الكتاب نصٌ للعبدالله هو: «الشعر طيرانٌ فوق جغرافيا الكون أيضاً، والشعراء الكبار هم الذين يطيرون فوق مناطق في النفس، إنهم أصحاب الرحلة. وهناك نوعٌ آخر من الشعراء، هم أصحاب القصائد، الذين لا يستحقون إلا عندما يخترعون أو يكتشفون رحلتهم». وللأسف لم تشر الكاتبة نهائياً إلى مصدر النص الاستشرافي الشارح هذا، ذلك أن القارئ سيحبّ لو يقرأ النص المكتوب كاملاً، وهذا أمرٌ يتكرر عند بدايات الفصول. على 31 صفحة، تمتد المقدّمة التي تشرح فيها الكاتبة وتقدم نوعاً من الدراسة لأصول الشعر المحكي والعامي، وتعطي أمثلةً كثيرة حول أساسيات الشعر. تستشهد بما قاله الشاعر اللبناني رشيد نخلة في جلسة مع الشاعر عبدالله غانم عن «أنَّ الشاعر العربي (يقصد الذي يتحدّث بالفصحى) يتخيّل فكرته بلغته الإقليمية، ثم يترجم تلك الفكرة إلى الفصحى، في حين أن الشاعر الشعبي يخرج فكرته وهي بعد حامية طلقة كما تمخضت بها قريحته». وتستشهد في المقدمة بأبيات شهيرة لطلال حيدر «بي غيبتك نزل الشتي/ قومي طلعي عالبال/ في فوق سجادة صلا/ ولـ عم يصلوا قلال/ صوتن متل مصر المرا/ وبعلبك الرجال/ ع كتر ما طلع العشب بيناتنا/ بيرعى الغزال».

في «المدخل، تقدّم الكاتبة بحثاً حول الكاتب وحياته لتنتقل بعدها إلى الفصل الأوّل حيث تقدّم دراسة بنيوية في شكل وبناء القصيدة المحكية عند الشاعر المكرّم. تعطي الباحثة أمثالاً حول بنية شعر العبدالله مشيرةً إلى أنّ «أكثر ما يميز قصائد عصام العبدالله في مجموعته الشعرية الكاملة هو الترميز. وقد كان للتشخيص حضور لافت في تركيب الصورة الشعرية في قصيدته وإعطاء الحياة للجماد والأشياء كقوله: هودي التياب البلشو يجنّوا/ متل القمر عم يفتري عالليل/ متل المسافة الخايفة من الخيل/ حتى القمر ممنوع/ ممنوع إنو يفتكر/ هاي فضتو بقيت ع ايديكِ». وتختتم الباحثة هذا الفصل مع خلاصة لتوضح السمات والمداميك الأساسية التي تقوم عليها بنية القصيدة عند العبدالله.

تغوص الباحثة بعد ذلك في تفاصيل التفاصيل في شعر العبدالله وتبذل مجهوداً في سبر غور ماهية شعر العبدلله قسماً بقسم. يأتي كل فصل بعد ذلك ليأخذ كل ما تحدّث عنه الشاعر بدءاً من المرأة التي تحضر بأشكالٍ متعددة في شعره. تكون الأم (متل الكأني شايفتها بالمنام/ بتعدهن، بتغطين، بتحديلهن، وبترقين وبتخاف إنن ينقصوا/ بتزيدهن/ وبتفتح بواب النعس/ وبتروح حتى تنام/ وتفيق قبلهن كلهن/ لازم حدا يدبر صبح/ تايقدر يغني الحمام)، أو الزوجة (عندك مرا بالعيد/عندك مرا/ لما الوقت بيصير ع الحفة/ وبدو يفز/ ما بين رقم ورقم/ عندك مرا)، وكذلك الحبيبة (بحبك متل نزل الشتي علي/ وما في لم/ بحبك متل ولد وفزع/ فتش ع ريحة ام/ بتبكي فرح/ بينزل مشك ع خدودك/ وبينقط علي). ويستمر الأمر وصولاً إلى كل صور المرأة في شعره وتجلياتها. في الفصل الذي يليه تتحدّث عن بيروت المدينة التي أحبّها العبدالله مقدمة صورةً متكاملة حول نظرة الشاعر إلى المدينة الأثيرة لدى شعراء البحر الأبيض المتوسط، لما فيها من تخيّل وحياة. لا تنسى المؤلفة أن تشير إلى علاقة الشاعر بالمقهى الذي سكنه بشكلٍ أو بآخر، مشيرة إلى «بيروت والمقهى وعصام ثالثهما»، آخذةً مقاطع من شعر العبدالله حول بيروت: «وبيروت بيت بأوضتين، وتتخيتة وقبو/ وولاد مهما يلعبوا ما بيتعد/ أربع خمس درجات بالنازل/ في بير قاعد متل شي ختيار/ وقع الوقت عشواربو/ عالحيط حد البير رمانه/ وبلحه كإنا ميدنة خضرا/ بلحة كإنا تذكره».. تنتقل في الفصل الذي يليه إلى السياسة التي كانت ضرورية وأساسية في حياة العبدالله شأنها شأن معظم مجايليه من أدباء وشعراء، فتشير إلى قصيدة «بوعلي» التي غناها الفنان اللبناني مارسيل خليفة ويشير فيها العبدالله إلى العمل السري للمقاومين: «ما بعرفن/ ما شايفن/ لفوا وجوهن/ بالقهر/ خبوا سلاحن بالوعر/ خبوا أساميهن/ ما في حدا بيشوفهن/ إلا إذا ماتوا/ وتعلقوا متل التحف/ متل القمر/ عم ينخطف/ منعدهن/ صاروا عدد/ متل الخطر/ مارق ع سهل الجمر/ وبيعد دعساتو».

تغوص الكاتبة بعد ذلك في الدين عند العبدالله لتقدّم رؤيته منذ اختياراتها الأولى لصفحة المقدمة: «أنا أؤمن بالله. وكل ما تفرّع منه قابلٌ للنقاش». تقدم الكاتبة علاقة الكاتب بشخصية عربية مؤثرة، وجدانية، وذات أبعاد رئيسية في تشكل وعيه هي الإمام علي: «وينو علي اللي حامل الميزان/ اللي ناصب الميزان/ حاطط بكفه نهار/ وبكفه الزمان/ وبيرفعو تيزينهن/ بيطلع معو إنه القمر فتان/ وإنه الحياة الصافية حلوة كتير/ والآخرة حلوة كمان/ وينو علي شو موحش وفاضي المكان». ويمرّ الجنوب كفصلٍ رئيسي في الكتاب، فالخيام بالنسبة إلى الشاعر «هي أنا، عندما أكتب أو أحب. تكون الخيام هي التي تكتب وهي التي تحب».

يغرق الكتاب بجمالية عالية في فصوله الأخيرة بالحديث عن شاعرية العبدالله مروراً بحديثه عن الرمز والأسطورة، الفلسفة والكون والطبيعة وصولاً إلى تسميته بـ «العرّاف» في فصلٍ أعد خصيصاً لذلك.

«العرّاف» ليس مجرّد كتابٍ عادي، إنه بحثٌ تفصيلي في مسيرة شاعرٍ من أهم شعراء العامية المحكية اللبنانية، يستحق القراءة واعتباره جهداً مميزاً لكاتبته.

 

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى