رغم أن رواية “عطر السيدة ذات الرداء الأسود” للروائي الفرنسي جاستون لورو يمكن قراءتها كرواية منفصلة، إلا أنها تعد تكملة لروايته “لغز الغرفة الصفراء” 1908 التي تتناول محاولة قتل الآنسة ماتيلد ستانجرسون التي تعيش مع والدها البروفيسور ستانجرسون في قلعة منعزلة، منكبين على أبحاثهما العلمية، لكن الروايتين اللتين ترجمها د.أشرف حسن تنتميان إلى نوع فرعي مميز من القصص البوليسية معروف باسم “لغز الغرفة المغلقة” أي قصص الجرائم التي ترتكب في غرف مغلقة في ظل ظروف مستحيلة.
يقول د.أشرف حسن في مقدمته لرواية “عطر السيدة ذات الرداء الأسود” الصادرة أخيرا عن دار المجموعة الدولية ـ بورصة الأدب – “طبعًا لا ينسى عشاق أدب الجريمة قصة “إدجار آلان بو” “الاغتيال المزدوج لشارع المشرحة”، وهي أقرب مثال على هذا النوع، وبالتأكيد أحد أكثر الأمثلة نجاحًا، كذلك نذكر أن السير آرثر كونان واجه بطله الشهير شرلوك هولمز بألغاز الغرفة المغلقة في عدد من المناسبات لاسيما في “مغامرة العصابة المرقطة” و”مغامرة الرجل المعوق” أما جون ديكسون كار، فقد عاد مرارًا وتكرارًا إلى لغز الغرفة المغلقة بشكل أو بآخر، أشهرها في رواية “الرجل الأجوف” 1935 بل إنه قد خصص فصلًا كاملًا للدفاع عن هذا النوع الأدبي. وبطبيعة الحال، وضع كار “لغز الغرفة الصفراء”: على رأس قائمة قراءاته واعتبرها “أفضل قصة بوليسية تمت كتابتها على الإطلاق”.
ويضيف “مع ذلك، فإن عطر السيدة ذات الرداء الأسود الصادرة عام 1909 هي الرواية الأكثر إثارة للاهتمام تاريخيًّا وأكاديميًّا. رواية تفيض بالشجن والشاعرية والعمق النفسي للشخصيات الذي قلما يصادفنا في الكتابات البوليسية، لكنها تفتن القارئ العادي، والبعض يقارنها بالجزء الثاني من فيلم “الأب الروحي” الذي أثرى الجزء الأول بل تفوق عليه في شرحه لنفسية الأبطال. صحيح أن الرواية ليست شهادة ميلاد لجوزيف رولتابي، الصحفي الشاب الذي تحول إلى محقق، فقد عرفه القارئ وأعجب به في الجزء الأول، لكن هنا نعرف بحق من هو رولتابي وما قصته، وماذا تخفي تلك العالمة الجميلة، ذات الخمس وثلاثين عامًا، نصف الأميركية نصف الفرنسية ماتيلد، وما هي الأصول الإجرامية لفريديريك لارسان. يشتعل الصراع بين رولتابي وبين عدوه اللدود فريدريك لارسان، وتقع جريمة أخرى غامضة يتم ارتكابها في البرج المربع تتحدى القارئ للعثور على الحل. لكن هنا تحول رولتابي من بطل رواية إلى بطل سلسلة روايات، وزاحم الشاب الصغير كبار محققي الروايات البوليسية”.
ويشير حسن إلى أنه ليس من المستغرب أن تكون “شبح الأوبرا” هي الوجه الآخر لـ”لغز الغرفة الصفراء” و”عطر السيدة ذات الرداء الأسود” فقد جعل لورو شبح الأوبرا يخطف البطلة من وسط المسرح أمام قاعة مكتظة بالمشاهدين، لكنه استبدل سر الجريمة المستحيلة المرتكبة في غرفة مغلقة بإحكام بوجه العملة الآخر: الجريمة المستحيلة التي تُرتكب في مكان مفتوح بالكامل. والحقيقة أن عالم جاستون لورو هو مساحة مضطربة تتأرجح دومًا بين عقلانية العلم في القصة البوليسية ورعب الحكايات القوطية المروعة “أو ما يسميها فرويد الخارقة للطبيعة”. ليس من قبيل المصادفة أن تبدأ “عطر السيدة ذات الرداء الأسود” بحفل زفاف أقيم في كنيسة متهالكة قديمة أو أن الأحداث تدور في قلعة من قلاع القرون الوسطى، ولا من قبيل المصادفة أيضًا، كما لو كان ذلك لزيادة التناقض، أن جوانب أخرى من القصة كانت حديثة وتساير آخر صراعات الحداثة وقتها بالنسبة لعام 1909: السفر إلى الريفيرا والبرقيات، تقارير الصحف، التنقل بالقطار.
ويرى أن الجديد في “عطر السيدة ذات الرداء الأسود” أنها أولى الروايات التي استوعبت ضمنيًّا التطورات الأخيرة في علم النفس الجديد، ففي مطلع القرن العشرين كانت نظريات فرويد في التحليل النفسي شيئًا جديدًا بكل تأكيد ولاسيما فكرته عن عقدة أوديب، كان تناول جاستون لورو سابقًا لعصره، إذ يمكن القول إن هذه الرواية هي أول قصة بوليسية تستكشف بوعي أفكارًا مثل صراع وتنافس الأب والابن على امتلاك الأم، وأزمات الهُوية لدى المراهقين، وبالتالي، أول قصة من هذا القبيل تقدم أساسًا منطقيًا موثوقًا “بالمصطلحات الحديثة” لسلوك الشخصيات. ومع ذلك، فمن غير المرجح أن يكون جاستون لورو قد قرأ كتاب سيغموند فرويد تفسير الأحلام “1900”، حيث ظهر مصطلح عقدة أوديب لأول مرة، فقد كان لورو صحافيًا لا أكاديميًا، رغم أنه من الممكن أن يكون قد صادف مقالات في مختلف الصحف والمجلات حول أعمال فرويد “باعتباره من الكتاب المشهورين”، ولكن المدهش أننا نكتشف بعض الروابط الغريبة بين فرويد ولورو، أحدها أن لورو كان مثل فرويد، ينجذب كثيرًا إلى الأساطير. ينطبق هذا بشكل خاص على رواية “شبح الأوبرا” 1910 وهي الرواية التي خلدتها السينما حيث يصادفنا البطل إريك – “الوحش” الذكي ولكن القبيح جسديًّا ـ إنه نسخة أخرى للوحش الأسطوري، تمامًا كما فعل آخرون، ماري شيلي التي أبدعت “فرانكنشتاين”، وفيكتور هوجو صاحب “أحدب نوتردام”، وروبير لويس ستيفنسون مؤلف “دكتور جيكل ومستر هايد”، وبرام ستوكر صاحب رواية “دراكيولا”، ومدام لوبرنس أول من حكت لنا عن “الجميلة والوحش”، بل إن مقولة فرويد: “يكون المرء في غاية الجنون عندما يحب”، ربما تكون هي تلخيص لأعمال لورو.
ويوضح “نجد في عطر السيدة ذات الرداء الأسود شخصية أسطورية أخرى. فريديريك لارسان المرعب والمنتشر في كل مكان، هو في كثير من النواحي مخلوق يفعل ما يفوق طاقة البشر سوف يكون نواة لشخصية أخرى هي شخصية سيد المجرمين “شيري بيبي” أحد الشخصيات الجماهيرية التي أبدعها جاستون لورو، الذي كان كما وصفه المؤلف مصابًا بعقدة أوديب”، وسوف يستمر “شيري بيبي” في الظهور في العديد من الروايات، مثلما سيستمر رولتابي في الظهور في خمس روايات أخرى بعد “عطر السيدة ذات الرداء الأسود”. وهناك رابط آخر يجمع بين الاثنين، وهو أنه تمامًا كما نبع عمل فرويد “عقدة أوديب” من التحليل الذاتي لنفسه بعد وفاة والده، نجد أن الكثير من تفاصيل السيرة الذاتية تظهر في عمل لورو، التفاصيل التي يقدمها لورو عن طفولة جوزيف رولتابي في “عطر السيدة ذات الرداء الأسود” خصوصًا وصف إرساله بعيدًا عن منزل الأسرة وهو في الثانية عشرة إلى مدرسة داخلية في مدينة إيّ في نورماندي – هي التاريخ الخاص للمؤلف، فقد توفيت والدة لورو بينما كان مراهقًا وكانت ابنة مأمور بلدية فيكومب، بينما كان الأب الذي توفي عندما كان لورو في العشرين من عمره، يعمل مقاولًا للأشغال العامة. والغريب أن الذكريات التي يثيرها “عطر السيدة ذات الرداء الأسود” جعلت لورو يستبق مارسيل بروست، فالمعروف أن “ناحية بيت سوان” المجلد الأول من سباعية “البحث عن الزمن المفقود” لن يصدر قبل أربع سنوات، حيث قطعة الحلوى التي غيّرت مسار الأدب في القرن العشرين… يقول بروست: “قطعة حلوى المادلين المغمسة في قليل من الشاي، كان طعمها ساحرًا تذكرته وعرفته، إذ إنه كان الطعم الذي كنت أتذوّقه كل صباح فيما مضى من حياتي. وعلى الفور انبعثت كلّ حياتي في تلك الحقبة من الزمن الماضي”، كذلك فعلت قطعة البريوش التي غيّرت حياة رولتابي.
ويتابع حسن “إذا كان الأديب يتمتع بموهبة بين الأرض والسماء تجعله يستبق جلسات التحليل النفسي كما يقول فرويد، نجد جاستون لورو يركز في روايته على سطوة الرائحة، بدءًا من العنوان نفسه، حيث يتعجب من قدرة الروائح على إثارة الذكريات، ويتساءل كثيرًا عن السر وراء استحضار الذكريات بالشم ونقلنا إلى أماكن غريبة أو حتى مفاجأتنا بذكريات كنا نعتقد أنها أصبحت في طي النسيان، أليس هذا ما سيقوله بروست. الغريب أن اكتشاف ذلك علميًّا جاء متأخرًا، ومنذ سنوات، حين اكتشف علماء الأعصاب أن في الدماغ البشري منطقة محددة تسجل الروائح وتخزنها، وعندما نشم رائحة معينة تتجه جزيئاتها مباشرة إلى تلك المنطقة التي تُدعى “أمجداليس” المسؤولة عن السيطرة على العواطف والأحاسيس، لقد وجدوا أن الروائح تؤثر في مناطق أخرى من الدماغ، لذا تكون الذكريات التي تنشط بالروائح أقوى وأكثر عاطفة وتفصيلًا وإثارة للانفعال من تلك المصاحبة للتذوق أو اللمس. يدهشنا أيضًا، تلك القُبلة التي يطبعها الطفل على وجه أمه، وتظل تطارده دائمًا هي ورائحتها… ألا يذكرنا ببروست مرة أخرى، حين يبدأ مطلع روايته بوصف ما يحدث له عندما لا يحصل على قبلة ما قبل النوم من أمه. ناهيك أن العلاقة بالأم ظلت تحمل بين طياتها الكثير من الالتباس والظلال الزائفة التي حاول الكاتب أن يستوضحها طوال أجزاء الرواية. لا مجال طبعًا للحديث عن سرقة أدبية لكنه تشابه غريب يستوقفنا نحن الأكاديميين، ويبين للقارئ العادي إلى أي مدى كتب لورو رواية بوليسية مغايرة ومتمردة على الشكل التقليدي.
ويؤكد أن حداثة لورو واضحة في مواضع أخرى أيضًا، كما يقول جوليان سيمونز، وقد لاحظ أن “مخطط المنزل الذي يبين مكان العثور على الجثة، وكذلك خريطة الأراضي التي تظهر الحديقة وملحق قلعة جلاندييه “المنزل الصيفي” هي إكسسوارات مرجعية لقصة فترة “العصر الذهبي”، المستخدمة في العملين. في الرواية الأولى يحصل القارئ على مساعدة من رسم واضح للجناح حيث تتم محاولة اغتيال ابنة البروفيسور ستانجرسون، في الرواية الثانية لا يتم تزويد القارئ فقط برسم تخطيطي شامل لحصن هرقل، حيث تحدث سلسلة غريبة من الجرائم التي حقق فيها رولتابي، ولكن أيضًا بمخطط تفصيلي للجزء الداخلي من البرج المربع وحتى بخريطة كاملة لشبه جزيرة هرقل. في كلتا الحالتين، تكون نية المؤلف واضحة تمامًا: التحدي السافر لذكاء القارئ. أما نقطة تميزه الثانية فهي خبراته وعلاقاته بالجريمة، والمجرمين، وساحات القضاء، يكفي أن نذكر القارئ أن لورو ظل لمدة ثلاثة عشر عامًا يكتب لصحيفة “الصباح “Le Matin، وخلال تلك الفترة كان يغطي محاكمات الفوضويين الشهيرة، وأجرى مقابلات مع المستكشفين السويديين الذين عادوا بعد قضاء عامين في نفايات أنتاركتيكا، والناجين الروس من القصف الياباني في إنشون، كذلك كان يقدم تغطية صحفية عن المحاكمة الثانية لقضية الضابط اليهودي ألفريد دريفوس في عام 1899، والثورة الروسية عام 1905، واندلاع بركان فيزوف عام 1907، حتى وقع فجأة خلاف غير متوقع مع رئيس تحرير الصحيفة، وكان ذلك لحسن حظنا، لأنه في تلك اللحظة اتجه لكتابة الروايات الجماهيرية، رغم أنه قبل بضع سنوات كتب قصة غريبة بعنوان “الحياة المزدوجة لتيوفراست لونجيه” 1903، حول تناسخ روح أحد رجال العصابات الباريسية كارتوش من القرن السابع عشر في جسد صانع معدات مكاتب بسيط تخونه زوجته.