عطسة سورية ….

داهمت عطسة عابرة للأنفس والضمائر رجلا فقيرا معدما أمام جمع من المتزلّفين والمنافقين وباغتته في مجلس لـ” كبير العضوات”، انطلقت من أنفه الصغير وكادت أن تودي به وتقسمه إلى نصفين.. فلم ” يشمّطه ” أحد … ولم يقل له ابن أنثى “رحمك الله ” ولو على سبيل جبر الخاطر و رفع العتب .. بل و قد تعالت أصوات من هنا وهناك بالاستهزاء والتشفّي والدعاء عليه بعبارات شعبية موغلة في الإهانة والتحقير على شاكلة ” ورصاص ينتر نيعك، خازوق يخلعك، عطّسك وحدة تسهّل أمرك .. العمى ضربك شو غليظ وجفص ” ..!…. فكأنما الفقير المسكين مجرّد عنزة قد عطست في قطيع من التيوس أمام مرياع كبير، بل أتفه وأوحش من ذلك بكثير .

فوجئ الرجل الفقير بكبير العضوات يترجّل من عليائه، يتجه إليه، يربّت على كتفيه ويقول له في لطف “رحمك الله “، تعالت بعدها الأصوات الداعية له بالرحمة والرأفة … لكنّه لم ينصت ولم يستعذب إلاّ “تشميطة ” الكبير، صاحب المجلس وسيد المكان .

ظلّ الرجل الفقير كامل الوقت ينتظر “عطسة ” من كبير العضوات ليردّ له الجميل بأحسن منها في نبل لا يتقنه إلاّ أصحاب الحق ومناصروه …كذلك ـ وبالمقابل ـ بقي “صاحب المجلس ” يفكّر في سماع آخر دعاء له بالرحمة إن كان قد خرج صادقا من قلوب المنافقين قبل أفواههم ..فلم يجد ولم يتذكّر شيئا …لعلّها بحّة الحقيقة حين تتساوى مع صراخ النفاق .

يقول الراوي “…ولو تحالف من وقتها القوي الواضح الغني مع الفقير الصادق المظلوم لانقرض المنافقون والأوغاد وحلّ السلام ..لكنّ خللا ما، مازال عالقا بين الاثنين فيملؤه الانتهازيون والمزايدون بالنفاق ليصبح وجع الفقير مكتوما وعطسة الغني صدّاحة تجوب الآفاق , يشمّطها الناس فلا يسمعها ولا ينتبه إليها حتى صاحبها “.

قس على ذلك في علاقة الدول العظمى بالشعوب المستضعفة والتوّاقة للكرامة والحرية، إذ لا يهرع الأشقاء لنجدتها إلاّ بإيعاز من السادة الكبار …الكبار الذين ليسوا في حاجة أصلا لمسانداتهم، فيما خلا بعض المواقف المعنوية والإعلامية التي يستأنس ولا يحتكم إليها .

لو اجتمع الحضور لدى مجلس كبير العضوات وتعاضدوا لجبر خاطر أخيهم المستضعف في ” تشميطة رجل واحد “” لنظر إليهم سيد المجلس بعين الاحترام والتقدير والحذر في أحيان كثيرة.

أمّا وإن توحّدوا في إهانة صاحبهم وازدراء حالته لدى مجالس الكبار فلن يحسب لهم عندئذ أي حساب , لن تقوم لهم قائمة… ولسوف يفتحون عل أنفسهم باب التبعية والتحقير فتمسي كل الحلول بأيادي أجنبية على اعتبار أنها تملك المبادرات، فالأرض لزارعها، كما الخيل لسائسها والفجر لمن صلّاه.

كيف تغلق أيها العربي باب دارك أمام أخيك السوري المنكوب، تنظر إليه من العين السحرية ـ يسمونها بالمصادفة والمناسبة في الترجمة الفرنسية “عين الثور” ـ ثمّ تستشير وليّ الأمر أن تفتح له أم لا …. أو ربما تبقي الباب موارباً في أحسن الأحوال.

كيف تواسيه قائلاً “الله يسعدك ويبعدك “، أين تكمن سعادته في الابتعاد عنك ؟!!.. كيف تأتي له بألطف وأنعم أنواع المناديل لكفكفة دموعه وتهديه أفخم أخشاب التوابيت وتضع على قبره أبهج أكاليل الورود .. ولا تعالج أسباب محنته وموته !؟؟

أليس الأقرب إليه هم أولئك الذين شاركوه الطعام قبل اللغة والمسكن قبل بيت الصلاة والملابس قبل الأكفان، المدارس قبل الخيام، الابتسامة قبل الدموع والحلم قبل الكوابيس .

أيها الجمع ممّن ضمّت مجالس السادة والأمم، إنّ الرجل الطيب الفقير لم يطلب منكم الدعاء له بالرحمة إذ عطس، لكن لا تدعوا عليه بالإبادة و الانقراض والرصاص لأنه لم يكتم عطسته الثائرة والرافضة لـ” بلغم” الذل الذي تبتلعونه كل يوم أيتها الكائنات المخاطية .

دعوا الكبار يهتدون بمفردهم إلى الكبار ويصافحون العزة التي في نفوسهم وعيونهم وأنوفهم …ابق محلّك ولا تردّد أيها الكورس إلاّ ما تسمح لك به عصا المايسترو.

رغم كل الأوجاع ـ وبوطن ممزّق وجريح ـ وجد السوريون أنفسهم بين الكبار وانتصر التاريخ على الجغرافيا بعطسة من أنف مرتفع وشموخ … وليس كتلك العطسة الروسية الذليلة في قصة تشيخوف … تشيخوف العظيم طبعاً… وليس من جاء على وزنه كـ “كلاشنكوف” هذا العصر بعد أن كان فيما مضى رمزاً لكل حركات تحرّر العالم حتى قبل أن يعطس أو يصيبه زكام .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى