عطيّات الأبنودي.. السينما كوثيقة وقصيدة

تدخل المخرجة عطيات الأبنودي عامها الـ76 بحالة من الرضا والسكينة في ركنها الهادئ الأنيق، في ظلّ عائلة ابنتها بالتبنّي أسماء يحيى الطاهر. على يمينها، صُوَر لأمها ولصديقها الروائي الراحل عبد الفتاح الجمل، وللطبيب الراحل علي النويجي، والدها الروحي كما تقول أسماء. على يسارها، جدران تحكي تاريخاً مترعاً بالإنجاز والعطاء، من خلال الأيقونات والشهادات والجوائز التي استحقّتها بجدارة خلال 40 عاماً أمضتها برفقة كاميرتها التي وثّقت صُوَراً غنية ومتنوّعة لعوالم البسطاء والمنسيين.

تمضي صاحبة «أيام السفر» وقتها في متابعة الأخبار، غير راضية عمّا يجري في الخارج. حالتها الصحية (تعرّضت لجلطة دماغية في العام 2011، شُفيَت منها لاحقاً) تمنعها من التعبير عمّا يجول داخلها. لكن، لدى سؤالها عن رأيها بتجربتها السينمائية، أشرق وجهها بابتسامة عريضة، رافعة رأسها بثقة كأيكة ضاربة جذورها في الأرض، بينما أوراقها حدّ السماء. هي هكذا. عطيات الأبنودي الفتاة قدمت من مدينة «سنبلاوين» في دلتا النيل في ستينيات القرن الـ 20، محمّلةً بدفء وصلابة أرضها، وبأحلامٍ استطاعت تحقيقها عبر كدّ ودأب متواصلَين بهدف المعرفة والتطور. نالت ليسانس حقوق من «جامعة القاهرة» في العام 1963، ودبلوم دراسات عليا من «المعهد العالي للسينما» في القاهرة في العام 1972، ونالت درجة الزمالة من «مدرسة الفيلم والتلفزيون الدولية» في بريطانيا في العام 1976. عندما استكملت أدواتها بتعلّم مكوّنات اللغة السينمائية الحديثة (الصورة والصوت واللون)، وظّفت هذا المخزون في البلد الذي لطالما أيقنت بعظمته، وأدركت أهمية السينما التسجيلية في عكس واقعه والتعبير عنه.

غيّرت عطيات الأبنودي في اتجاه السينما التسجيلية، بجعلها أبطال أفلامها يتحدثون عن أنفسهم من دون استخدام صوت معلِّق كما كان شائعاً حينها. مادتها الخام مصر وأهلها وطبيعتها: الصيادون والرعاة والباعة، وأوجاع النساء، وأحلام الفتيات والأطفال. وثّقت أيامهم وأعمالهم، وشقاؤهم وفرحهم، وأوصلت صوتهم إلى أنحاء بعيدة في مصر والعالم. «حصان الطين» (1971) أول أفلامها، يحكي عن شظف الحياة التي يعيشها الناس البسطاء، تحديداً أولئك الذين يعملون في صناعة الطوب: عمل شاق ومجهد، يستهلك كل من يعمل به، حتى ذلك الحصان الذي لم يستطع أن يتواءم وتلك الظروف الشديدة، معرِّجة على العجز والانكسار اللذين يعيشهما أبناء هذه الطبقة، والحرمان من التعليم، أو مزاولة عمل يليق بإنسانيتهم، إلى درجة أن ترى أحلامهم غائرة في ذاك الطين الذي لم يمنّ عليهم يوماً إلا بالأخاديد والشقوق المحفورة في أقدامهم. يقول الناقد أحمد يوسف عن الفيلم هذا إنه «نقطة تحوّل في مسار السينما التسجيلية المصرية، لأنه برهن على أن الفيلم التسجيلي يمكن أن يكون قصيدة وبحثاً في آن واحد. قصيدة شاعرية تعبيرية باختياره الحصان، ذلك الحيوان الجميل النبيل، رمزاً للامتهان في عمل شاق يستلب حتى من الحيوان وجوده» («عطيات الأبنودي، وصف مصر بين الواقع والحلم»، وزارة الثقافة المصرية، 1999).

العاديون

«آه يا ليل.. طويل يا ليل على الغلبان» جملة تستهل فيلمها الثاني «أغنية توحة الحزينة» (1972 ـ جائزة «اتّحاد النقّاد الفرنسيين» من مهرجان غرونوبل في فرنسا، 1973)، الذي يوثّق حياة يوم كامل لفرقة شعبية تطوف الشوارع، وتقدّم الأراغوز وخيال الظل والأكروبات واللعب بالنار، بهدف إسعاد الآخرين، في حين أن حياتهم مثقلة بالألم والأعباء التي جعلت أيامهم رمادية، على الرغم من أنهم يلوّنون حياة الناس فيما يقدّمون. يرصد الفيلم تفاصيل الوجوه المتعبة والتائقة إلى الراحة التي تختلسها في لحظات الطعام والاسترخاء، مروراً بمتابعة المتفرّجين، ووصولاً إلى مغادرة الفرقة المكان.

أولعت عطيات الأبنودي بتسجيل تفاصيل يوميات الناس بحرفيتها: صنع الخبز، قراءة الفنجان، طقس المساومة أثناء البيع والشراء، كما في «سوق الكانتو» (1975)، الذي يدور حول الفقراء الباحثين عن احتياجاتهم في سوق الأشياء المستعملة، راصداً تفاصيل السوق، حيث الملابس والأحذية والأيقونات وأدوات الزينة والكتب، بينما العجائز والأطفال والنساء والرجال، الباحثين عما يحتاجون إليه هناك. و»بحار العطش» (1980) يحكي معاناة قرية «البرلس» على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. الكاميرا ترافق شباك الصيادين، والمساومات بينهم وبين تجار الجملة، وصولاً إلى وقت شرب الشاي، وتدخين الجوزة، وتنظيف الشباك تحت أشعة الشمس بانتظار أن تنصفهم الحياة، حتى لو بالقليل من المياه النظيفة، عوضاً عما يشربوه من الماء المالح. ويشكّل «إيقاع الحياة» (1988) ذروة أعمالها في محاولتها «وصف مصر»، كما يؤكد أحمد يوسف، مشيراً إلى أنها جمعت فيه كلّ عشقها للحياة الحقيقية التي يعيشها المنسيون، بينما هم يحملون في أعماق وجدانهم رحيق التاريخ الذي ترك بصماته كالنقش على الحجر في كلّ تفاصيل حياتهم (الجائزة الكبرى في «المهرجان القومي للأفلام التسجيلية» في مصر 1989، وجائزة أحسن إنتاج مشترك لفيلم تسجيلي في «فالنسيا» الإسبانية، 1990). يصوّر الفيلم إيقاع الحياة في 4 لوحات ترصد شؤون حياة البسطاء التي يأتي وقت تصبح فيه أثراً من الماضي، كبائعي الحلوى والملابس الشعبية، وصانع الأدوات الفخارية.

التوثيق

«مثلُ أجدادي المصريين الفراعنة، أؤمن بالتوثيق. إنهم أول من وثّقوا تفاصيل حياتهم اليومية على جدران المعابد والبيوت والمقابر، بأدوات عصرهم، كالهندسة والنحت والحفر على الجدران، والكتابة على أوراق البردى»، تقول عطيات الأبنودي في مقدمة كتابها الأول «أيام الديموقراطية» (1996)، مؤكّدة أن تقنية السرد بالصوت والصورة تختلف عن تقنية السرد بالكلمة المكتوبة، وإن حملت كلتاهما مقوّماتها الفنية التي تستقلّ بها كوثيقة. الكتاب يوثّق تجربة النساء المصريات، ومشاركتهن السياسية في انتخابات مجلس الشعب في العام 1995، التي رصدتها في فيلم بالعنوان نفسه، لم يتّسع بحسب قولها للتفاصيل كلّها، كعدد الشخصيات والتعبير عن مكنوناتها. فللفيلم قواعده الخاصة التي لا تسمح بعرض كل ما تلتقطه الكاميرا، لذلك اختارت أن تجمع رحلة الفيلم وشخصياته وتفاصيله الدقيقة في كتاب طبعته على حسابها الخاص، وترجم فيما بعد إلى اللغة الإنكليزية. في كتابها الثاني «أيام لم تكن معه» (1999)، توثّق يومياتها عندما كان زوجها السابق عبد الرحمن الأبنودي في المعتقل، راصدة صعوبة الحياة وسعيها ـ مع زوجات باقي المعتقلين ـ إلى خروجهم من السجن، إلى جانب الرسائل المتبادلة بينهما حينها، مختتمة إياه بخروجه من المعتقل.

لاحقاً، حصلت عطيات الأبنودي على منحة تفرّغ من وزارة الثقافة، لإصدار كتابها الثالث «أيام السفر» (2006)، عن تجربتها في السفر بداية حياتها المهنية مع فيلم «حصان الطين»، وتجربة دراستها السينما في إنكلترا في 3 أعوام، والأفلام التي قدمتها، والجوائز التي نالتها. «السينما الثالثة» (2012) آخر إصداراتها: عن سينما القضايا والالتزام، باستعراضها أفلاماً مصرية وعالمية تنتمي إلى السينما الثالثة، وتسعى إلى بثّ روح الثورة والمقاومة والمطالبة بالحرية والكرامة الإنسانية.

ابنتي

في العام 1981، بعد وفاة الكاتب يحيى الطاهر عبدالله، لملمت عطيات الأبنودي أوراق صديقها وكتاباته ومتعلقاته من بيته، وجمعتها في «الأعمال الكاملة» له. وثيقة وحيدة عنه لغاية الآن، بحسب قول ابنته أسماء، التي تعتبر حياتها مع الأبنودي تجربة فريدة، منذ اللحظة الأولى حيث طلبت منها أن تتبناها وهي في الخامسة من العمر بعد وفاة والدها، في مشهد أقرب إلى السوريالية. وافقت عائلة أسماء على الطلب. 35 عاماً عاشتها الإثنتان معاً كأيّ أم وابنتها، في بيت يفيض بالحيوية والثقافة ومختلف أنواع الفنون، الأمر الذي أثرى تجربة أسماء، فكان من الطبيعي أن يثمر ذلك نيل الصبيّة شهادة دكتوراه في المسرح. لدى سؤال عطيات عن أسماء، تكتفي بكلمة واحدة: «ابنتي»، محمَّلة بدمعةٍ تفيض حباً وامتناناً.

عطيات الأبنودي لا تتعامل مع الصدمات بشكل مباشر، بحسب تأكيدات أسماء، لافتة إلى أن أمها علمت منها بخبر وفاة زوجها الأسبق الأبنودي. تلقّت الخبر بهدوء، بل حاولت تهدئة ابنتها لشدة تأثّرها بخبر وفاته، كردة فعل طبيعية لفتاة عاشت في كنفه 5 أعوام. بهدوء، تابعت المخرجة التغطية الإعلامية لوفاة الشاعر، مع غصّة ودموع محمّلة بملح العمر الذي عاشاه معاً (22 عاما من الزواج والشراكة والنضال). وكانت ذروة اشتعال العلاقة بينهما عندما كتب لها: «الهوا هوايا. ابنيلك قصر عالي. واخطف نجم الليالي. واشغلك عقد غالي. يضوي أحلى الصبايا» وغنّاها عبد الحليم حافظ لميرفت أمين في «أبي فوق الشجرة» (1969) لحسين كمال.

قدمت عطيات الأبنودي 24 فيلماً تسجيلياً على قدر عالٍ من المسؤولية والجرأة، أثبتت عبرها قدرة الإنسان المتجدّدة على مواجهة الحياة، حتى لو انتصر الموت في النهاية. لعلها وثيقة تاريخية للأجيال اللاحقة، كما يقول أحد أبطال أفلامها «حديث الغرفة رقم 8» (1990)، الشاعر أمل دنقل: «ربما ننفق العمر كلّه كي نثقب ثغرة ليمرّ النور للأجيال.. مرة».

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى