
الدخول في عوالم فئات معيّنة تعدّ من الأقليات في المجتمعات العربية والحديث عنها وعن تفاصيل عقائدها وعاداتها وتقاليدها، أمر أصبح شائعاً في الرواية العربية الحديثة.
في العام الماضي، وصلت إلى قائمة «بوكر» العربية روايتان: الأولى «ميثاق النساء» التي طرقت باب الطائفة الدرزية في لبنان، والثانية «البكّاؤون» للبحريني عقيل الموسوي (منشورات تكوين) التي أخلت المتلقين إلى عوالم شيعة البحرين والبكائين. ومن هنا ننطلق للحديث عن الرواية.
تبدأ الرواية بولادة صادق ـــــ التي حلم فيها جده عبد علي بأن يسمّيه «جمال» على اسم قائده الخالد جمال عبد الناصر ــــ في منتصف الثمانينيات حين كانت الثورة الإيرانية قد وصلت وسيطرت على أفكار الشيعة البحرينيين واستقرت واستتب لها الأمان.
هذا ما تخبرنا به الرواية منذ بدايتها، ونبدأ مع «جواد» الذي قال لأمّه إنه سيسافر معها إلى العراق في زيارة دينية. ومن هنا تبدأ الأحداث بالخوض في تفاصيل حياة شيعة البحرين عبر سيرة صادق ابن جواد وحفيد عبد علي والملاية السيدة «حسينية».
شيعة البحرين
يكبر صادق يتيم الأم، بعيداً من أبيه الذي يتزوّج ثانية وألهته أفكاره السياسية وانغماسه في قضايا البلاد، وقضايا شيعتها على وجه الخصوص. تجمعه علاقة متينة بجده الذي كان صادق أيضاً ملجأه وابنه أكثر من كونه حفيده، مع سيطرة للجدة على كل تفاصيل الحياة في تلك العائلة. وعبرها دخلنا، أو أدخلنا النص في حياة الشيعة وهمومهم ومشكلاتهم وقضاياهم.
لكن ما قدّمه النص بالنسبة إلى تلك العائلة يعرفه المتلقون، ويعرفه أبناء الطائفة وأبناء الطوائف، أو فلنقل يعرفون معظمه… فما الجديد الذي قدمه النص؟
حكى النص قصة صادق الذي سافر ليدرس في لندن، وهناك نشأت علاقة حبّ بينه وبين فتاة نكتشف أنّها من «البهائيين».
أحداث توثّق
لمرحلة حساسة
في تاريخ البحرين
وتكمل الرواية في تلك المرحلة للحديث عن الظلم الذي تعرّضت له ضياء وصادق من العائلتين اللتين لم تقبل إحداهما التنازل للأخرى من أجل إتمام الزواج. وهنا أيضاً لا جديد سوى المعلومات التي عرفناها عن البهائية بوصفها طائفة لها أتباع وعقيدة بتفاصيل تشبه تعقيدات كل الطوائف والمذاهب والأديان الأخرى.
أسلوب الكاتب سلس وجاذب في الحديث عن العلاقة ووصولها إلى حائط مسدود، لكنها تبقى من ضمن العادي والمتوقَّع.
مرحلة النضال
لم نعرف عن البحرين سوى القضايا المتعلقة بالشيعة، وهو أمر جيد، فتركيز النص على هذا الأمر يجعله صاحب قضية واضحة. نقد الكاتب ما أراد نقده، وأوضح ما يقبله وما لا يقبله. وأدخل معه قضية الأستاذ غازي وجماعة السفارة.
وفي نهاية الرواية، نجد الحاج جواد، النائب جواد، يعتزل السياسة وكل ما ناضل من أجله مستسلماً للأمر الواقع الذي أدّى إلى إقفال جمعيّته… كلها أحداث توثّق لمرحلة سياسية حساسة من تاريخ البحرين، وهو أمر أجاده الكاتب وقدمه في قالب مقبول من دون الانحياز إلى جماعة ضد أخرى.
عبر ما قدّمه وخصوصاً شخصية صادق، كان النصّ حذراً وعقلانيّاً في إيصال النقد والانتقاد وإيصال الظلم الذي تفرضه الطائفة على أبنائها وفي مقابله الظلم الذي يتعرض له أبناؤها في محيطهم بوصفهم أقليةً، ليقول إنّ الظلم واحد، مهما اختلفنا حول مصدره وضحاياه.
أدخلت الرواية كل الخلافات داخل الطائفة أيضاً، ولم تركز على الخلافات مع الطوائف الأخرى إلا عبر بعض التلميحات السياسية. وهذا أمر أرادته الرواية بشكل واضح، حتى يكون التركيز والتوجيه للمتلقي على قضية واحدة مع ما يتفرّع منها من قضايا، رغم تداخل قضايا كثيرة معها، خصوصاً ما يتعلّق بالبحرين وأبنائها، ومنها بشكل ملطّف علاقة زاهر بكرة القدم، وعلاقات الأعمام وأبنائهم، وقصص الحب التي نقرأ الكثير منها، وخصوصاً انتصار الحبّ في حياة صادق وضياء في النهاية في مواجهة ظلم الانتماء إلى طائفة.
قضايا برأينا كانت أقوى من التركيز على تفاصيل حياة الشيعة. ولو تم التركيز على الشخصيات والخوض في قضاياها النفسية والاجتماعية وعلاقاتها ببعضها وبالمكان وبالزمان وبكلّ مكونات النص الأخرى، وعدم التركيز على صادق ومظلوميته، لكان النص أقوى وأعمق، ولكانت غاية الكاتب منه وصلت بشكل أقوى.
أخطاء اللغة والطباعة
مأخذنا الأساسي على الرواية هو بعض أخطاء اللغة والطباعة. أخطاء الطباعة قد تبرَّر، ولكن أخطاء اللغة لا يمكن التغاضي عنها. هي ليست كثيرة ولكن مسؤولية الكاتب والناشر أن يحرَّر النص بشكل أفضل. أما لغة الرواية بشكل عام، فكانت لغة سهلة وبسيطة، مناسبة لما حمّلته لشخصياتها، ابتعدت قدر الإمكان عن المحكية، وهو أمر كان يمكن الإفادة منه أثناء التعريف بفئة اجتماعية، من أجل واقعية النص، ولكنّ الكاتب أخذ خياراً آخر وهذا حقه، ولكن كان هنالك بعض الاستسهال، والاستعجال، في بعض الصياغات والسرد… كان يمكن التدقيق فيه أكثر من أجل الإبقاء على لغة النصّ قوية ومتماسكة.
نهاية الرواية هي الأعمق، خصوصاً عندما نعرف أنّ صادق، الثائر على كل الموروثات، سمّى ابنه حسين وبدأ بالحديث معه عن الحسين والبلاد التي قرّر عدم العودة إليها. وهنا نقطة قوة لو أنّها أخذت مساحة أطول على حساب المساحة التي أخذتها السرديات المعروفة عن الشيعة، أو عن البهائيين، لكان النصّ دخل في صميم الصراعات الفكرية والنفسية للشخصيات بشكل أعمق.
مفهوم الانتماء
«البكاؤون» رواية عن الشيعة (والبهائيين) بكل تفاصيل حياتهم وشعائرهم، وبكل تفاصيل انتماءاتهم واختلافاتهم وخلافاتهم، طرحت القضايا ولم تعطِ الإجابات، بل تركت للمتلقي التفكير في انتمائه الخاص، وإسقاط حياة هذه الفئة على ما يعيشه أو ما يعانيه بسبب انتمائه الطائفي أو الديني أو الحزبي…ونجد غاية الكاتب من نصه بشكل واضح، فمفهوم الانتماء إلى الفئات وإلى الطوائف هو في صميم مشكلات هذه البلاد، وقد طرحت الرواية مسائل أكثر عمقاً، وصلت إلى مساءلة الانتماء إلى الوطن، ولكنها في النهاية أعطت إجابة واحدة، كانت في ما يتعلق بالوطن.
فها هو صادق يقول لحسين ابنه «لو تدري يا حسين! في بلادي السفن مصنوعة من خشب، والبحر أزرق، ويصغر كلما كبرت المدينة، والسوق تملؤها رائحة البهار، والرجال يثرثرون كل عصر عند دكة الحي، والأطفال لا يتوقفون عن لعب الكرة في الأزقة». هي نهاية رائعة، تمنّينا لو أنها كانت في أساس بنية النص!
صحيفة الأخبار اللبنانية