علاقة تفاعلية تضمنها المواثيق

المتوجسون مما يمكن تسميته بالاجتياح التكنولوجي للقيم الديمقراطية يتصفون بكونهم ذوي ” نظرة حولاء” فهم من جهة يحتفون بالتقدم العلمي والثورة الرقمية الهائلة، ومن جهة ثانية يتوقعون أن لا تتأثر نظمهم الاجتماعية والسياسية بهذه التكنولوجيا، وتناسى هؤلاء بأن سن القوانين في ظل إرادة سياسية حرة، كفيل بطرد شبح التكنولوجيا المهددة للقيم الديمقراطية.
الآلة الدعائية قد واكبت التقدم العلمي واستفادت منه عبر التاريخ القديم والحديث، وهذا أمر منطقي بل مخطئ من لا يعترف بذلك، فمنذ ظهور النظم الديمقراطية سخّر المرشحون والقائمون على الحملات الانتخابية لأنفسهم شتى الطرق الممكنة في سبيل ترشيح الكفة لصالحهم، وهذا أمر”مشروع” ضمن قواعد اللعبة الديمقراطية، ويمكن الطعن فيها وفق اللوائح والقوانين.. فما الذي تغير حتى ترتفع الأصوات المحتجة على مواقع التواصل وكأنها ” ضرة” الديمقراطية ولا يُستطاب التعايش بينهما؟
كل ما في الأمر أن المُنجز التكنولوجي تحول إلى دجاجة تبيض ذهبا لدى الأخيار والأشرار على حد سواء، ولا أحد ـ طبعا ـ لديه الرغبة في ” ذبح هذه الدجاجة “. كل ما يتطلبه الموضوع هو إيجاد توازن يبدو صعبا لكنه ممكن، بين القيم الليبرالية والحقوقية وبين الانفتاح على المنجزات التكنولوجية. فحتى الأنظمة الدكتاتورية والفاسدة تطوع التكنولوجيا لتشديد قبضتها وممارسة شتى أنواع الرقابة.
إنها مسألة خيارات ونوايا فمن المؤكد أن فرض الرقابة على المعلومات والتلاعب بها اتجاه قديم قِدَم الأخبار ذاتها. لكن ذلك النوع من الحرب الهجينة -التي ترعاها دول ونشهدها اليوم- شيء جديد. فقد حولت القوى المعادية شبكة الإنترنت المفتوحة إلى بالوعة من التضليل، وقسم كبير منها ينتشر بواسطة روبوتات آلية تستطيع المنصات الكبرى تطهيرها دون تقويض المناقشة المفتوحة، هذا إن كانت لديها الرغبة في القيام بذلك.
التعايش بين الثورة الرقمية والقيم الديمقراطية ممكن بل هو واقع لا مفر منه، ولا يتم هذا التعايش إلا عبر الإرادات السياسية وسن المزيد من القوانين الرادعة، بالإضافة إلى المواثيق الأخلاقية المنظمة رغم الصعوبات الناجمة عن المنطق التنافسي بين الشركات المنتجة وما ينجم عن ذلك من لغة احتكارية لا يمكن لجمها إلا بسن المزيد من القوانين الصارمة.
الأنظمة القادرة على حظر المواقع الالكترونية بمنطق الرقابة والتضييق على الحريات، قادرة أيضا على حماية الحريات وصون مؤسساتها الديمقراطية إن هي أرادت ذلك.. إنها مسألة إرادة سياسية لا أكثر ولا أقل.
الحقيقة التي ينبغي أن يتوقعها الجميع في خضم الدور التضليلي أو التشويهي الذي يمكن أن تلعبه المنصات الالكترونية في العمليات الانتخابية وغيرها من المؤسسات الديمقراطية هو أن شركات التكنولوجيا العملاقة ستواصل إصرارها على الادعاء بأنها مجرد وسيلة لتوزيع المعلومات. والواقع أنها تعمل عمل شركات النشر، وينبغي لها أن تخضع للضوابط التنظيمية والمواثيق الأخلاقية؛ ليس فقط كشركات نشر، بل وأيضا بوصفها موزعة شبه احتكارية.
في عصرنا هذا الذي يستقي فيه أغلب الناس الأخبار من وسائل التواصل الاجتماعي؛ لم تعد دول المافيا تجد صعوبة كبيرة في فرض الرقابة على محتوى وسائل التواصل الاجتماعي، التي يرى قادتها أنها ضارة بمصالحهم.
ومن منظور الديمقراطيات الليبرالية؛ لا يُعَد تنظيم وسائل التواصل الاجتماعي أمرا واضحا إلى هذا الحد، لأنه يستلزم أن تعمل الحكومات على إيجاد التوازن بين مبادئ متنافسة.
منصات وسائل التواصل الاجتماعي لا تلعب دورا بالغ الأهمية كقنوات لنقل المعلومات المتدفقة فحسب؛ بل وتواجه أيضا انتقادات شديدة لفشلها في ضبط المحتوى غير القانوني أو المسيء، وخاصة خطاب الكراهية والدعاية المتطرفة.
لقد دَفَعَت هذه الإخفاقات العديد من الحكومات الأوروبية والاتحاد الأوروبي ذاته إلى التحرك. وفي هذا الصدد، أصدر الاتحاد الأوروبي مبادئ توجيهية لشركات الإنترنت، وهدد بمتابعة الأمر بإصدار تشريعات رسمية إذا لم تمتثل هذه الشركات.
وكما لاحظ روبرت هانيجان، وهو المدير السابق لوكالة الاستخبارات البريطانية (مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية) فإن نافذة الفرصة التي تستطيع شركات التكنولوجيا انتهازها لإصلاح نفسها طوعا بدأت تضيق بسرعة، لكنها ممكنة وليست مستحيلة.
ألمانيا، مثلا، ذهبت فعلا إلى سن قانون يقضي بفرض غرامات شديدة على المنصات التي لا تزيل محتوى المستخدم غير المشروع ضمن إطار زمني محدد.
وتُعَد مثل هذه التدابير من أفضل طرق التصدي لاستخدام منصات وسائل الإعلام الاجتماعي كسلاح من قِبَل وكالات الاستخبارات، وجماعات متطرفة تسعى إلى بث الفُرقة والانقسام في المجتمعات الغربية، من خلال خطاب الكراهية والتضليل.
المشكلة تتمثل في أن المنظومة الديمقراطية قد ضيقت على نفسها من خلال التراخي في ملاحقة بعض مواقع التواصل، وذلك باسم احترام الحريات الفردية وتناست بأن هذه المواقع سمحت لنفسها بأن تصبح أداة لعمليات خاصة مثل التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية 2016. ونفس هذه المنصات الكبرى عزفت عن تزويد الحكومات الديمقراطية وعامة الجماهير بالمعلومات.
شركات وسائل التواصل الاجتماعي لديها القدرة على فرض قدر كبير من النفوذ والتأثير على المجتمعات، ولكنها لا تملك حق وضع القواعد. فهذه السلطة تنتمي إلى المؤسسات الديمقراطية، وهي ملزمة بضمان تصرف شركات وسائل التواصل الاجتماعي.
الأمر الحاسم في هذه المسألة هو أنه، وعندما تكون الديمقراطية ذاتها عُرضة للخطر، فإنه يُصبِح لزاما على منصات وسائل التواصل الاجتماعي أن تتحمل المسؤولية وتتحلى بالشفافية.