
تعود الحكاية إلى أواخر التسعينيات من القرن الماضي، عندما كنا في جمعية القصة والرواية في اتحاد الكتاب العرب نسعى بيأس إلى تنشيط الحالة الثقافية من حولنا، وكان الكاتب الدكتور حسن حميد مقررا لتلك الجمعية، عندما حضر معه شاب أسمر عرّفنا عليه بأحمد جاسم الحسين ضيف اجتماع اليوم.
وبعد أيام قام ذلك الشاب بالكتابة عن اجتماع الجمعية في أحد الصحف المحلية، وعرض طبيعة الاجتماع والقصص التي قرئت فيه، فلاقت الخطوة ثناء من الجميع.
تصادفت معه في أكثر من لقاء اجتماعي وثقافي، فأصبحنا أصدقاء، وكان لي رأي أن المؤسسات الثقافية تقيد النشاط الثقافي رغم ضرورتها، وأن من السهل تفعيل هذا النشاط ليعود كما كان في الستينيات أو ليصبح مشابها لحراك مصر الثقافي الذي نتعلم منه حتى الآن ، وكانت الآراء الأخرى يائسة لاتتوقع أي تفعيل ممكن في سورية.
عرفت من أحمد أنه يُعد أطروحة الماجستير حول القصة القصيرة في سورية، وسألني عن مراجع تفيده، فدعوته لتناول الغداء في بيتي، وهناك استعرض الكتب التي عندي، وأخذ مايحتاج..
في ذلك اللقاء أعدتُ طرح فكرتي حول تفعيل النشاط الثقافي، وأخبرتُه أنني نجحت في إدخال القصيرة القصيرة جدا إلى برنامجي التلفزيوني (آخر المشوار) الذي أعده في القناة الثانية، وكانت الفكرة محفزة بحيث انهالت علي في بريد البرنامج الورقي (لم يكن هناك بريد إلكتروني) عشرات المشاركات التي أدرجتها تباعا في الحلقات اليومية التي نالت شهرة كبيرة في زمانها، وبرز من أولئك المشاهدين أصدقاء نشروا مجموعات لهم فيما بعد، وشاركونا الأنشطة.
اتفقنا على إطلاق جمعية أصدقاء القصة القصيرة جداً، وإضافة أسماء جديدة إليها وكانت الدكتورة مية الرحبي أولها، وشرعنا بالعمل وإقامة الأمسيات اللازمة لذلك ، وتعهدتُ بتغطية إعلامية واسعة لنشاطها . وبالفعل ذهبت إلى صحيفة الثورة وزرت الصديق الرائع خالد مجر الذي رحب بالفكرة، وكان مسؤولا عن الصفحة الأخيرة، كما اتفقت مع الصديق أنس الأزرق وكان يقدم زاوية متابعات ثقافية عدة مرات في الأسبوع، فرحب بالفكرة.
كذلك اتفق هو مع الكاتب الراحل عبد الإله الرحيل على تغطيتنا في صحيفة تشرين، وكان عبد الإله صديقه، وكانت تشرين (الحرية حاليا) مركز استقطاب لكتاب سنتعرف على مهاراتهم تلقائياً كالصحفي نبيل الصالح والصحفي محمد منصور ..
سافرتُ أنا والدكتور أحمد والدكتورة ميا إلى أكثر من محافظة وقرية ووصل نشاطنا إلى الميادين التي غصت القاعة بالمتابعين، وهناك زرته في بيته، وتعرفت على أبيه رحمه الله، ونمت أنا والدكتور قاسم المقداد في غرفة من غرف ذلك البيت على ضفاف الفرات .
وانطلق المشروع الصغير فكبر بسرعة، واستقطب عشرات الأسماء من كل أنحاء سورية، انضم إلينا كتاب كبار مثل وليد معماري والدكتور يوسف الحطيني والدكتورة شهلا العجيلي وشارك نقاد مهمون في أنشطتنا كالدكتور لبانة مشوح والدكتور نبيل اللو، وكثيرون غيرهم، ووصل الأمر إلى عقد أول ملتقى للقصة القصيرة جدا وعقد ثلاثة ملتقيات سنوية شارك فيها العشرات من مختلف أنحاء سورية، كذلك صدرت مجموعات قصصية (ق.ق.ج) متتالية لي وله ولكثيرين وغدت بالمئات، وعلى هامش هذه الظاهرة تم إصدار أول مجموعة قصصية مشتركة ساهم فيها عشرات الكتاب.
اشتهرت مبادرتنا، واتسع مداها، إلى أن غدت ظاهرة عربية تنشط بشكل دوري، وجاء كتاب الدكتور أحمد جاسم الحسين عن القصة القصيرة جدا ليجعل مبادرتنا قضية أدبية في متناول النقد، وعرف الجمهور أن الظاهرة قديمة لكن عودتها كانت بهذه المجموعة الصغيرة، وكثيرا ما اتهمنا بأننا نشوش على الأدب السوري بما هبّ ودبّ من شطحات الكتابة التي لم ترق للكتاب الكلاسيكيين، ومن جهتي انشغلت بالرواية ورأيت فيها وهجاً آخر نحتاج إليه، وانشغلت بالدراما والسينما وغدت تجربتي في ال (ق.ٌ ق. ج) مجرد مجموعات قصصية لا أعود إليها.
اليوم ، يتولى الدكتور أحمد جاسم الحسين رئاسة اتحاد الكتاب العرب، وقد انقطعت عن العلاقة به طيلة الحرب وطيلة سفره، ولم يجر أي تواصل ودي بيننا لأسباب لا أريد الحديث عنها. وعند قراءة الخبر استعدت كل ذلك التاريخ الذي قارب الثلاثين عاما، وسألت نفسي : من يحرك الركود الثقافي في سورية، وخاصة بعد سقوط النظام البائد؟ واستعدت أيضا قناعتي التي دعمتها تجربتي الطويلة حول أن المؤسسات تعيق الحراك الثقافي الذي نطمح إليه، رغم ضرورتها، فصدقوني لم يقف في وجه الفعاليات الثقافية طيلة السنوات الثلاثين الماضية إلا المؤسسات الثقافية، وخاصة وزارة الثقافة التي أسستْ مكتباً شبه أمني للموافقات اصطدمتُ معه أكثر من مرة.
وهنا يأتي دور اتحاد الكتاب الذي ظل يسعى بإمكاناته الضعيفة لدفع العملية الثقافية، ودائما تعيقه المستجدات، فهل سيتم كسر هذه القناعة بجلوس الكاتب وراء الكرسي الذي كثيرا ما قتل صاحبه؟!
بوابة الشرق الأوسط الجديدة