عماد عبدالمحسن: الثورة المصرية ردّت الروح إلى الشعر (أحمد زين)

 

أحمد زين


لم يتعمد الشاعر المصري الشاب عماد عبدالمحسن العنف الذي طبع ديوانه الجديد «أختار من جلدي أريكة لقاتلي» (دار الأدهم للنشر والتوزيع)، إنما هو عنف المشهد ذاته، عنف اللحظة التي كتَبَت القصيدة. يأتي الديوان في شكل نص واحد، لكنه يقدم نفسه في شذرات وتوقيعات باترة وحادة، وتختلف من شذرة إلى أخرى، ومن توقيع إلى آخر، أما العنف الذى يتم تطويقه، فلا يخرج النص، الذى يتميز هنا بالقصر والكثافة، وأقرب ما يكون إلى اللقطة أو التوقيع، من شعريته. طغيان العنف لدى عماد عبدالمحسن، ليس سوى دم تلك اللحظة، التي لا تزال مستمرة، «أما دمي فلم يكن بارداً، بل كان مراقاً على صفحات القصائد، التي كان أصحابها أكثر جسارة وجرأة مني، ومن أمثالي الذين اكتفوا برصد ما حققه شهداء هذه الثورة، الذين لم يبالوا بأن تسيل دماؤهم، وكانوا أكثر قدرة على قراءة الحدث، والإصرار على استكماله من دون التفكير في العواقب، إنهم صناع هذه القصائد وأبطالها».
الشاعر، الذي يجزم أنه سعى إلى أن يكتب الثورة المصرية وفق رؤية شعرية خاصة، لا ينكر أنه وجد صعوبة في التخلص من المباشرة والتوثيق للحدث، خصوصاً أنه جزء منه، مثل كل مصري عايش تلك اللحظات من قريب أو بعيد وكان جزءاً من المشهد. ويظن أنه عايش تجربة شعرية جديدة، «وإن كان الشاعر منغمساً بطبعه في الأحداث، حتى وإن لم يكن جزءاً منها، فهو قادر على استشعار حالتها والكتابة وكأنه في داخلها».
أعوام كثيرة مضت قبل أن يعاود عماد عبدالمحسن الكتابة الشعرية، غير أن أحداث ثورة 25 يناير أيقظت روح الشاعر فيه «أو بالأدق جعلتني أكثر جسارة لأن أصدر نصوصاً بين دفتي ديوان جديد، فقد كنت سابقاً غير راضٍ عما أكتب أو غير متجاسر لأن أطلع القارئ على نصوصي الشعرية الجديدة». كتب خلال تلك السنوات الكثيرة، التي أعقبت ديوانه الوحيد «نصف حلم فقط» (1996) القصة لكن بعين شاعرة، وأنجز نصوصاً مسرحية وقصصاً للأطفال وقصائد غنائية. تؤكد عودة عماد عبدالمحسن إلى الشعر ثانية، وبروح جديدة، صعوبة التنصل من روح الشعر.
دواوين شعرية عدة صدرت في أعقاب الثورة المصرية، بعضها ليس جديراً فقط بالاحترام، ومنها ديوان عماد عبدالمحسن، إنما أيضاً تؤرخ لعودة الروح إلى الشعر العربي، «الذي افتقد حماسة القضايا في السنوات الأخيرة، ودفع الكثير من الشعراء للركون إلى كتابة الرواية، والقصة، ربما لأنهم وجدوا في أطرها مساحة أكبر للتعبير الهادئ المتروي، هاربين من إطار القصيدة التي تحتاج إلى دوافع تفجّرها، وتمكّنها من المكوث في قلب ووجدان المتلقي».
ولئن لم يحدد أوجه الفرق بين ديوانه، وبين ما كتبه الشعراء الآخرون، إذ إن الشعر يمتلك بصمة صاحبه، فإن عماد عبدالمحسن، الذي جرب الاغتراب وعاش في مدينة الرياض، ثم ما لبث أن عاد إلى القاهرة، ومن هناك سافر إلى روما للعيش والعمل، على يقين بأن ما كتبته عاش بين ضلوعه قبل أن ينضج ويصبح شعراً مكتوباً، «فقد عشت قرابة عامين أتحدث مع شخوص الديوان في نومي ويقظتي وأتخيلهم، فهم من شقوا لنا طريقاً جديداً، مليئاً بالمتاعب في بدايته لكنه فتح طريقاً للحرية التي ننشدها».
يعتقد الشاعر عماد عبدالمحسن أن السبب في المناداة بالتريث قبل الكتابة عن حدث، في حجم ما يمر به العالم العربي من ثورات، هو تجنب الوقوع في فخ المباشرة والسطحية، «بخاصة أن ما جرى من تقلبات مفاجئة يحتاج إلى وقت لاستيعابه وهضمه، والتعامل حياله في شكل إبداعي راقٍ». بيد أن هناك، من جهة أخرى، لحظات لا يمكن، في رأي عماد عمدالمحسن، استعادتها بسهولة، «كما وهناك شحنات حياتية من الصعب استحضار سخونتها ومفارقاتها بعد مرورها، واصطيادها بحرفية الكاتب أو المبدع في شكل عام ليعكسها بطزاجتها النادرة».
يلجأ الشاعر إلى نص الومضة، الذي يختزل حالة شديدة التعقيد أو يكثف مشهداً بكامله. فما كان يحدث بالنسبة الى الشاعر ليس سوى لقطات متسارعة، مشاهد منفصلة متصلة، ومن هذا المنطلق كتب تجربة الديوان التي يغلب عليها نص الومضة، «ومثلما كانت مشاهد الثورة وشهداؤها، وقدرتهم الجسورة على الذهاب إلى الموت، وما صاحب ذلك من تفاصيل مكثفة، متسارعة، كانت القصيدة بالنسبة إلي ترصد هذه الدهشة فتعكس بعضاً منها، وتقتطف من الحدث تفاصيله الصغيرة المؤثرة، فتكتبه في نص قصير لائق برهبة الحدث الذي يحتاج إلى مسافات من الصمت بين كل تفاصيله، وهكذا كان الصمت يحل بين نصوص الديوان القصيرة».
يعتبر عماد عبدالمحسن نفسه من «أدباء الأقاليم»، هذا المصطلح الذي صك «للتفرقة بين أدباء العاصمة وغيرهم من الذين يعيشون في أقاليم مصر المختلفة». ومر جيله بمراحل مختلفة سياسية واجتماعية أثرت في نتاجه الأدبي. قضى الشاعر سنوات الجامعة، التي تشكلت خلالها رؤيته الشعرية في محافظة أسيوط، المحافظة التي تأثر بكتّابها وأدبائها، وعاش سنوات الجامعة 1989 -1992 متنقلاً بين نادي أدب جامعة أسيوط، ونادي أدب قصر الثقافة، «كنا لا نزال نعايش سخونة الشعر، والتأثر بشعراء الستينات أمثال أمل دنقل وصلاح عبدالصبور».
لكن بمجرد دخوله إلى القاهرة، اتسع المشهد أمامه، «وأُصيبت القضايا التي نكتب من أجلها بالترهل، وأصبنا باليأس والإحباط». ومع ذلك وجد بعض الشعراء من جيله، طريقهم إلى الظهور والانتشار، وخاضوا مغامرة كتابة قصيدة مختلفة، ونجح بعضهم في أن يصل إلى صياغة شعرية جديدة وتجربة جديرة بالاحترام، «والبعض الآخر تاه في خضم محاولة التخلص من التأثر بجيل الستينات وما تلاه، ومحاولة أن يكتب ذاته، وانتشرت مصطلحات كتابة «اليومي»، و «الذاتي» وغيرها، وقاد البعض الآخر مسيرة محاولة كتابة قصيدة النثر، التي استطاع أيضاً بعض أبناء هذا الجيل التوصل إلى صيغة إبداعية مقبولة من خلالها، كما فشل آخرون في إقناعي كمتلقٍ بها». يعكس الجيل الذي ينتمي إليه عماد عبدالمحسن، الوضع العام في عالمنا العربي، «تَفرق من دون أن تجمعه حالة إبداعية واحدة، أو توجه ما في الكتابة، وشق كل منا طريقه بنفسه، وقد أكون الأقل وجوداً على الساحة بينهم، لكنني أرصد إبداعهم، بعين ثاقبة ومُحبة».
المشهد الشعري في مصر والوطن العربي، وفق عماد عبدالمحسن، يشهد حراكاً كبيراً، ويكتظ بمبدعين جدد على قدر عالٍ من الحرفية والقدرة على الابتكار والتجديد، «إلا أن القصيدة الجديدة، تتميز ببعدها عن الجماهيرية، والصوت المرتفع الذي قد يعجب العامة، لكنه أصبح غير مناسب للحظة الراهنة، وللأسف، فإن تراجع الثقافة العامة لدى المواطن العربي في شكل عام، ساهم في تراجع قيمة الشعر والشعراء الجادين، حيث استبدلت هذه القيم، بمفاهيم استهلاكية تعد أبعد ما تكون عن الشعر والإبداع».
أصبحنا نعيش أزمة الافتقار إلى رصد الإبداع المتميز، يقول عماد عبدالمحسن، ومواكبته بحركة نقدية ترصده وتحلله وتؤرخ له، «لكن الشعر باقٍ وسيأتي الوقت الذي نكتشف فيه رموزاً شعرية جديدة، مختبئة بين ركام الأحداث التي نعيشها، وفوضى التقنيات الحديثة التي شغلتنا عن غذاء الروح والوجدان».

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى