عمـلية تـزويـر

هل يحق للشاعر بعد سنين أن يعيد النظر في مجموعته الأولى فيغير و يبدل فيها و كأنه يعيد صياغتها بلغة أخرى ثم ينشر المجموعة بشكلها الجديد على أنها نسخة طبق الأصل عن الأولى ؟.. قبل أن أجيب على هذا السؤال أطرح نموذجا من هذا النوع قام به نزار قباني – الشاعر المعروف جدا – في مجموعته الأولى (( قالت لي السمراء)) التي ظهرت عام 1944 من خلال قصيدة واحدة عنوانها (( نهداك )) التي تتألف في طبعتها الأولى من 35 بيتا موزعه على ستة مقاطع من خمس أبيات لكل مقطع ما عدا المقطع الأخير فهو من عشر أبيات في حين يتألف النص نفسه في الطبعات الأخيرة من سبعة مقاطع متساوية موضوع القصيدة دعوة الشاعر صبية سمراء مترددة إلى ممارسة الجنس معه ..

في المقطع الأول : يغير في السطر الثاني :” نهداك كأسا شهوة حمراء تشعل لي دمي” إلى هذه الصياغة ” نهداك نبعا لذة حمراء تشعل لي دمي ” و كأن الشاعر أكتشف بعد سنين أن كلمة (كأس) غير كافية للتعبير عن حالته فبدلها إلى (نبع ) و كلمة ( شهوة ) إلى ( لذة ) . و في البيت الثالث يغير نزار البيت بأكمله من قوله : ” مترجرجان تراقصا في الصدر رقص مرنم” إلى هذه الصياغة : ” متمردان على السماء على القميص المنعم ” و هو تعبير غامض بعض الشيء و كأن المقصود إقحام السبب الذي جعل النهدين يترجرجان بقوله : متمردان على السماء و كأن المقصود أن السماء خلقت النهدين للرضاعة و لكنهما هنا تحت قميص الفتاة يخالفان تعاليم السماء إلى إثارة الشهوة فقط .

و في المقطع الثاني : الذي يبدأ بهذا البيت الجريء في صراحته : “فكَي الغلالة و احسري عن نهدك المتضَرم ”
أما البيت الثاني : ” لا تكبتي المتع الجموحة و ارتعاش الأعظم ” فيغيره إلى ” لا تكبتي النار الحبيسة و ارتعاش الأعظم ” و كأن الشاعر يريد أن يزيد من درجة حرارة المتعة في النهدين إلى نار حبيسة محروقة … يالطيف!
و في المقطع الثالث : يجري الشاعر تغييرا شبه كامل للمقطع الذي كان على هذا الشكل :

“قومي أحللي هذي الحرائر للعنيف الحالم ” ” دعيه في دنيا نهودك يستريح و يرتمي ”
“إغفاء بسكرى على نهديك تغني ألمي ” “فأهيم في تهويم عربيد و هزة مُلهم ”

مغير المقطع بأكمله إلى قوله :

“نَهْداكِ وحشيَّان.. والمصباحُ مَشْدوهُ الفمِ

والضوءُ مُنْعكسٌ على مَجرى الحليبِ المُعتِمِ

وأنا أمُدُّ يدي.. وأسْرُقُ من حُقُول الأنْجُمِ

والحَلْمَةُ الحمقاءُ.. ترصُدُني بظِفْرٍ مُجْرِمٍ

وتَغُطُّ إصْبَعَها وتغمسُها بحبرٍ من دمي”

و هو حقا مقطع أسوأ من سابقه إذ يستخدم نزار عبارات دموية قاسية حين يشبه “الحلمة ” بحمقاء تهدد الشاعر بظفر مجرم . أهذا كلام معقول في وصف الجمال الأنثوي و المشاركة في متعة الجنس ؟ و لكن نزار لا يبالي أو على الأصح لا ينتبه كما يبدو إلى هذه اللغة الوحشية التي يستخدمها في وصف ملذات الغرام فالمهم عنده في ذلك العمر الذي كان فيه -21 عاما- عند نظم تلك القصيدة أن يشعل النار في قرائه المساكين حتى في لقاء ناعم مثل الذي كان فيه!.

نكتفي بهذا القدر من الملاحظات على التغيير في النصوص بعد نشرها بأعوام كثيرة كي نؤكد أن الأمانة تقتضي أن تبقى النصوص الأولى المنشورةعلى حالها كي تكون دراسات النقاد عنها أكثر دقة و بمعنى آخر ليست مزورة كما صنع نزار كي يوهم النقاد أنه كان شخصا آخر أرقى حتى في ريعان شبابه !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى