عندما تُضرب المرأة التركية تلمع «الحلي الزرق» في عينيها


كاتارينا وينكلر ممثّلة مسرحية نمسوية لم تكن تفكّر أبداً في الكتابة قبل أن تلتقي بشابـــة تركيــة في عيادة والدها الطبيب وتُصدَم لدى إصغائها إلى قصة حياتها الرهيبة. صدمة لن تلبث أن تدفعها إلى تحويل هذه القصة إلى رواية صاعقة بنثرها الشعري الأسوَد، صدرت العام الماضي في فيينا تحت عنوان «الحُلي الزرق»، قبل أن تصدر ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «جاكلين شامبون» الباريسية.

قصّة هذه الشابة تشبه قصص نساءٍ كثيرات، ومع ذلك تمسّنا بعمق لأن وينكلر تنجــح داخل روايتها في خلق شعورٍ بفرادة قدر بطلتها، مبرهنةً في طريقها عن قدرة الكتابة الروائية على محاصرة الواقع القاسي وقوله.

في الرواية، تدعى الشابة التركية فيليز. وفي البداية نراها في سنّ السادسة تعيش في مزرعة عائلتها التي تقع في قرية نائية في جنوب شرق تركيا. طفلة تقتصر حياتها على العمل المضني في المزرعة وتتسلّط عليها مخاوف كثيرة، أبرزها ضرورة المحافظة على «عذرائها الصغيرة» (أي عذريتها)، وإن كانت تجهل كلياً ماذا يعني ذلك. ولأنها سمعت أيضاً ومراراً بـ «الحُلي الزرق» من دون أن تدري أي رعبٍ تخفيه هذه العبارة، تقول: «حين أكبر، سأكون امرأةً زرقاء، وآمل أن أحظى بأزرقٍ فاتح مثل سماء شتوية».

ولن تلبـــــث هـــذه الأمنية أن تتحقق مع بلوغ فيليـــز سن الثالثة عشرة، إذ سيعود يونس من ألمانيا، وهو الفتى الذي كان يحوم حولها في طفـــولتها، وتشعر الفتاة بضعفٍ تجاهه، إلى جانب تجسيده لها مستقبلاً أفضل، بعيداً مـــن القرية والأشغال الشاقة في الحقول ورعي الماشية وشراسة الذئاب وطبعاً عنف الوالد. وبما أن هذا الأخير يرفض طلب يونس الزواج من ابنته، تفرّ فيليز مع «حبيبها» وتتزوجه، من دون أن تدري أن ما ينتظرها معه هو سجنٌ عائلي جديد وأخطر بكثير من سجن والدها.

وفعلاً، ما أن تمرّ ليلة العرس، مع طقس بقعة الدم على شرشف السرير التي تثبت عذرية العروس، تغطّي «الحلي الزرق» جسد قيليز، فنعرف عندها أن هذه العبارة هي استعارة لآثار الضرب المبرح الذي تتعرّض له معظم النساء في منطقة الأناضول. آثار – وهنا المفارقة – تتباهى بها هذه النسوة كـ «حُلي» وأيضاً ككمٍّ من الإثباتات على أن أزواجهن يسهرون جيداً على تربيتهنّ. وبـ «تربية» نعني منعهنّ من الضحك، من مغادرة المنزل، من النظر إلى رجلٍ آخر، من التزحلق على الثلج… واللائحة تطول وفقاً لمخيّلة الأزواج – الجلادين التي لا حدود لها.

ولا يشذّ يونس عن هذه القاعدة، بل نراه يثور على زوجته من دون سبب ويضربها يومياً في منزل والدته الكريهة، حيث يعيشان. وبين صمت هذه الوالدة المحقِّر وعنف ابنها المجانّي، لن يلبث هذا المنزل أن يتحوّل إلى بيت عنكبوت تلتف خيوطه حول فيليز وتخنق جميع رغباتها وأحلامها. وكما لو أن ذلك لا يكفي، تختبر هذه الشابة اغتصاباً يومياً على يد زوجها الذي لا يعرف طريقة أخرى لمعاشرتها، فتحبل ثلاث مرّات منه وتنجب له ثلاثة أولاد، من دون أن يقيها ذلك شرَّه: «أنظرُ في المرآة ولا أرى نفسي. أنا بقعةٌ عمياء. على مدى ساعات أبقى جالسةً على طرف السرير، كما ينبغي حين نكون مجرّد بقعة عمياء. أبقى مسمَّرة مكاني إلى أن يتغلغل سواد الليل داخل الغرفة. وحين يعود يونس إلى المنزل، يعود ثملاً. يقتلعني من خيوط العنكبوت ويرمي بي على السرير».

وعبثاً تأمل فيليز بتحسّن ظروف حياتها، حين ينتقل يونس بعائلته إلى منزل يقع في بلدة صغيرة وبعيدة من منزل أمّه، ثم إلى شقّة في إسطنبول. وحتى حين تلحق به مع أولادها إلى النمسا حيث استقرّ للعمل، لا يتغيّر شيء من جحيم واقعها اليومي. فعندما يقرر يونس تعليمها قيادة سيارة مثلاً، تتلقى فيليز لكمات على وجهها بعدد الأخطاء التي تقع فيها. ومع أنها تتعلّم في النهاية الكذب عليه لتجنّب عنفه، وتجرؤ في الخفاء على إقامة علاقات مع جاراتها اللواتي تشاء الصُدَف أن يكنّ طيّبات مثل شخصيات خارجة توّاً من حكاية سعيدة، لكن يجب انتظار دخولها المستشفى وشخوصها بعيني الموت، إثر مبالغة يونس يوماً في «تربيتها»، كي تحمل أولادها وتغادره من دون رجعة.

ومنذ الصفحة الأولى، تمسك بنا قصة فيليز البريئة. ولا شك في أن ذلك يعود إلى اعتماد وينكلر صيغة المتكلم الحميمية لسردها، وعدم وقوعها إطلاقاً في السرد الميلودرامي. ففي بوحها، لا تتكلم فيليز أبداً عن خوفها أو غضبها أو ألمها، بل تبدو مجبولة بصمتٍ أصمّ، كما لو أنها جدارٌ يقارع بخَرَسه جدران سجنها. وإذ لا نستشفّ لديها أي رغبة في الانتحار للإفلات من جحيمها، لكن هذا لا يعني أنها مجرَّدة من المشاعر.

ولقــــصِّ أحداث مأساتها، لجأت وينكلر إلى فصولٍ قصيرة جداً تحضر كشرائح حياة أو لقطـــات سينمائية سريعة. تشييدٌ مينيمالي بـــارع تلسعنا الكلمات البسيطة والفجّة فيــــه مثل سياطٍ، بينما تعبّر الجُمَل، بنبرتها الشعرية السوداء ودقّتها، عن شخصية الراوية وكابوسها اليومي. ومع أن القصة المسرودة مبنــــية على وقائع حقيقية، لكن الكاتبة لم تسْعَ إلى منح روايتها طابع الوثيقة، بل وضعتها علـــــى شكل نصٍّ خيالي، ملحمي، تراجيدي، من هنا وقعها البليغ على قارئها. رواية تستحضــــر بسرعة إلى أذهاننا فيلم «موستانغ» (فرس) للمخرجة التركية دونيز غمزة إرغوفين، الذي يصوّر السجن الذي تعيش فيه خمس أخوات في تركيا ومحاولات فرارهّن منه، علماً أن بطلة «الحُلي الزرقاء» تبدو أكثر رضوخاً لمأساتها من هذه الأخوات. ومع ذلك، تتمكّن وينكلر من منحها حضوراً قوياً، ومن خلالها، من منح صوتٍ وصورةٍ لعنفٍ مخيف بوحشيته وجانبه الطقوسي.

وفعلاً، لا مهادنة أو تلطيف في النظرة الثاقبة التي تلقيها الكاتبة على حياة فيليز، بل كشف مقلِق بدقّته الباردة لطبيعة العلاقات المعقّدة التي تربط المرأة المتزوجة بذلك الذي يصبح بسرعة جلّادها، لعدم قدرته على التحرّر من تقليدٍ يمنح الرجل سلطة مطلقة على زوجته ويجعـــل منها مُلكاً له. وبدلاً من قراءة سطحية تقـــوم فقط على فضح ثقافة بربرية ورجعية متجذّرة لدى بعض الشعوب أو المجتمعات، تتحوّل قصة فيليز ويونس تحت أنظارنا إلى نموذجٍ مستعار من بيئة شرقية ذكورية من أجل تسليط الضوء على سلوكٍ وحشي يتجاوز هذا الإطار لانتشاره مع الأسف في أنحاء العالم.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى