عندما يَضرِب المُتظاهرون اللبنانيّون مثَلًا بسورية وأوضاعها الأفضل رغم الحرب.. فهذا يعني أنّ الحُقن التّخديريّة لن تُوقِف انتفاضتهم المَشروعة.. هل يكفي الانتصار الأوّل بإلغاء الضّرائب في امتِصاص الغضب؟

 

فشِلَت خطوة رئيس الحُكومة اللبنانيّة سعد الحريري والكُتل المُشاركة فيها بإلغاء جميع الضّرائب التي كانت مُدرجةً في الميزانيّة الجديدة في امتِصاص حالة الغضب المُتصاعدة في أوساط المُواطنين الذين واصلوا مُظاهراتهم واحتِجاجاتهم بزَخمٍ أكبر اليوم الأحد، والشّيء نفسه يُقال عن الورقة الإصلاحيّة، والمُبادرة التي قدّمها الحريري لحَل الأزَمة.

المُحتجّون اللبنانيّون ناموا في الشّوارع والميادين ليلة السبت الأحد، وتدفّقوا بأعدادٍ أكبر صباح اليوم من كُل الطوائف مُطالبين برحيل جميع السّياسيين من المشهد اللّبناني، باعتبارهم المَسؤولين عن الفساد والانهِيار الاقتصاديّ وتدهور الأحوال المعيشيّة.

كان صادِمًا بالنّسبة إلينا ما قالته سيّدة لبنانيّة مُحجّبة، عندما تساءلت “سورية فيها كهرباء ومياه وطعام وهي التي تعيش حربًا مُنذ سبع سنوات، بينما نحن الحرائق تأكُل بيوتنا، وتلتهم أرزاقنا وأشجارنا، والكهرباء والمياه شبه معدومة.. سنُواصِل الاحتجاج حتى تتحقّق جميع مطالبنا، وأوّلها إسقاط هذه النّخبة الفاسِدة بجميع عناصرها”.

تراجُع الحُكومة عن قرارها بفرض الضّرائب جميعها، صغيرها وكبيرها، كان أوّل انتصار تُحقّقه الاحتجاجات في أُسبوعها الأوّل، ولكنّه يظل انتِصارًا غير كاف، لأنّ المُحتجّين من كافّة الأعمار والمذاهب، يرون فيها مُجرّد حُقنة تخدير للتّهدئة، وامتِصاص الغضب لتعود الأوضاع إلى حالها السّابق، الأمر الذي يعكِس وَعيًا سِياسيًّا واجتماعيًّا غير مسبوق، ممّا يُؤكّد مُجدّدًا إنّها انتفاضة مُختلفة عن كُل سابقاتها، ومِن الصّعب التنبّؤ بتوقّفها قبل تحقيق جميع مطالبها المَشروعة في الإصلاح الحقيقيّ، واجتِثاث الفساد بأنواعه كافّة، واستِرداد الثّروات المَنهوبة، ومُحاكمة جميع الفاسدين.

لا نعتقد أنّ استقالة وزراء حزب القوّات بزعامة السيّد سمير جعجع ستُغيّر كثيرًا من الوضع، ويَصِفها البعض بأنّها خطوة “انتهازيّة” لتأجيج الأوضاع، وحَرف الانتفاضة عن مسارِها الوطنيّ الحاليّ، والشّيء نفسه يُمكن قوله عن أيّ استقالة مُماثلة لوزراء السيّد وليد جنبلاط وكُتلته، فكلّهم في قاربٍ واحدٍ، ويتحمّلون مسؤوليّة هذا الانهيار في لبنان، إن لم يكُن بقَدرٍ أكبر، وكذلك المُبادرة الاقتصادية التي طرَحها رئيس الحكومة سعد الحريري اليوم لحل الأزَمة.

المسألة في لبنان ليسَت مسألة ضرائب جديدة، وإنّما مسألة فساد مُتجذّرة، وإقطاع سياسي، ونُخبة حاكمة مُنعزلة عن مُحيطها، وفئة الفُقراء والمحرومين خاصّةً، جثَمت على صدر اللّبنانيين مُنذ الاستقلال، وتنافست فيما بينها في نهب المال العام وتكوين المِليارات من الثّروات، وعاشت في فُقاعاتٍ عاجيّةٍ بَعيدًا عن مُعاناة الشّعب ومَطالبه بالحد الأدنى من لُقمة الخُبز مجبولة بالكرامة.

الانتفاضة اللبنانيّة الحاليّة لا تُفرِّق مُطلَقًا بين مُلوك الطوائف على أرضيّة الدين والمذهب، وتضعهم جَميعًا في مرمى الاستهداف، ولم تخدع الشّعارات شبابها من الجنسين، ولكن يظل هُناك خوف مُبرّر من المُندسّين الذين يُريدون إغراق لبنان في حالةٍ من الفوضى وزيادة مُعاناة أبنائه وحرفهم عن قضاياهم الحقيقيّة المُشرّفة، داخليًّا وإقليميًّا، ولهذا الحَذر مطلوب؟

الظّاهرة اللّافتة وغير المسبوقة في لبنان توحّد النّخبة الفاسدة أو مُعظمها ضِد المُتظاهرين، وإصرارها على استمرار الوضع الراهن تحت عُنوان المُحافظة على الدولة ومُؤسّساتها، وتَجنُّب الأسوأ والانهيار الأمني خاصّةً، وتوحّد الشعب بكافّة ألوان طيفه ضدّها والمُطالبة برحيلها وبِدء صفحة لبنانيّة سياسيّة واقتصاديّة جديدة نظيفة من أيّ شوائب، وهُنا تَكمُن عظَمَة الشّعب اللّبناني.

هذه الانتفاضة التي انطلقت من قُمقُم الحِرمان، ومُعارضة الفساد والفاسِدين، ستستمر وتُحقِّق جميع مطالبها في إقامة لبنان الجديد على أُسُس الكرامة، والتّعايش، وتكسير صنَم الطائفيّة البَغيض.

صحيفة رأي اليوم الألكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى