عندما يُشاغب جلال أمين جورج أورويل
يبقى جلال أمين مفكّراً من طرازٍ رفيع، وبعد أن تجاوَز الثمانين يزداد إنتاجه الفكريّ عُمقاً واستشرافاً، عبر قدرة رفيعة إنسانيّة على تحليل الظواهر تحليلاً دقيقاً، وكأنّه يقرأ الأحداث بلغة الأرقام التي برع فيها، يفكِّكها ويحلِّلها في قدرةٍ عجيبة على إدهاش قارئه ومحدِّثه، لا يكلّ عن التفكّر والتدبّر، مهموم بل محموم بشؤون الحداثة وخصوصيّة الإنسان، والتضادّ شبه المؤكّد بين العَولمة وحرّيات البشر، وكأنّه كلّما ازدادت البشريّة صعوداً نحو آفاق التكنولوجيا، تردّى الإنسان سقوطاً في عالَم التجسّس والتنصّت وفقدان الخصوصيّة، وقد تحدَّث مؤخّراً الرئيس الأميركيّ الأسبق “جيمي كارتر” بالقول: “عندما أريد أن أرسل خطاباً، أمضي به إلى صندوق البريد”.
عُرِف الصحافي والروائي البريطاني “إريك آرثر بلير”، المعروف باسم “جورج أورويل”، بوضوحه وذكائه وبخفّة دمّه. وكان من أبرز المحذِّرين من عواقب غياب العدالة الاجتماعية، ومن أبرز المُعارضين للحُكم الشموليّ، ولاسيّما أنّه كان مؤمناً بالاشتراكية الديمقراطية. لكنّه منذ أن كَتَبَ رائعته الروائيّة “1984”، دفَع العالَم إلى نقد جدليّة “الأخ الأكبر” الذي لا يترك شاردة أو واردة إلّا ويرصدها، في محاولةٍ منه لتضييق هامش الفضاء الخاصّ للأفراد، في مقابل توسيع سلطة الدولة أو الأجهزة والمؤسّسات المعنيَّة.
في هذا الإطار كانت كراهية “جورج أورويل” منصبَّة على النّظام أيّاً كان لونه الإيديولوجي، لا يجد الفرد فيه مهرباً من استعباد التكنولوجيا الحديثة. هذه التكنولوجيا الحديثة لا تتمثّل في ما لدى أصحاب السلطة من أسلحة وسجون ومعتقلات فقط، بل في ما لديهم من وسائل تجسُّس وتنصّت وغسيل مخّ، وكلّها وسائل لا تزال مُتاحة لمختلف الأنظمة اليوم.
على أنّ ما يشاغل عقل “جلال أمين” اليوم ويشاغبه هو: هل يجب أن نتعاطى مع أورويل بقراءة جديدة تتجاوز المألوف، ولاسيّما أنّ العالَم قد تغيّر منذ العام 1950 تغيّراً جذريّاً شكلاً وموضوعاً؟
في كتابه “تجديد جورج أورويل” الصادر في القاهرة حديثاً عن دار الكرمة المصرية، يميل المفكّر المصري الكبير إلى أنّه من المفيد، بل من الضروري “تجديد جورج أورويل”، ويرى أنّ هناك ضرورة لتتبُّع ما جدَّ من تطوّرات من حول العالَم، ومُراجَعة الأسباب التي أدّت إلى هذه التطوّرات، ونوع الرسائل التي يرسلها أصحاب السلطة الجُدد إلى الناس من قبيل غسيل المخّ.
الكارثة التي يضع “جلال أمين” يده عليها هي أنّ ما طرأ من تطوّر لا يقتصر على أساليب الكذب، بل يطاول أيضاً مضمون الكلام الكاذب، ويُظهر عبر صفحات كتابه كيف أنّ القهر النفسيّ، بإثارة الشهوات والرغبات التي يصعب أو يستحيل إشباعها، حلَّ محلّ الحرمان من الأجر العادِل والتعذيب المادّي، وكيف تغيّرت تبعاً لذلك طبيعة شعور المرء بالاغتراب، وما ضاع منه، وما تبقّى له من وسائل لمُقاوَمة الأنواع المختلفة من القهر.
في عمليّة التجديد هذه، يفتح “جلال أمين” أعيننا ومن جديد على أنّ “أورويل” الشخص المُلتزِم، صاحب الرسالة منذ كتاباته الأولى، لا يكتب لتسلية القارئ أو لتسلية نفسه، ولا يكتب لمجرّد الوصول إلى فهْمٍ أعمق للحياة أو الطبيعة الإنسانية، وإنّما يكتب بهدف الإصلاح دائماً، وهو غاضب غضباً شديداً على ما يراه، وخائف أشدّ الخوف ممّا يُمكن أن تتطوّر إليه الأمور، وبخاصّة ازدياد قهر الدولة الشمولية للفرد وحرّيته، وعلى الأخصّ حرّية الفرد في التفكير.
يخبرنا البروفيسور “أمين” عن الكُتب التي يطويها النسيان عادةً بعد فترة طويلة أو قصيرة، وعن قليل جدّاً من الكُتب التي تظلّ عالقة في الأذهان، على الرّغم من مرور الزمن، فتُطبع ثمّ يُعاد طبعها، وتظلّ نسخٌ منها على رفوف المكتبات لأنّ أصحاب المكتبات واثقون من أنّ هناك مَن سيأتي لطلبها، ولا تتوقّف الإشارة إليها في الكُتب والمجلّات والصحف، من دون حاجة إلى التعريف بها، إذ يفترض أنّ القرّاء يعرفونها ولديهم فكرة ما عن مضمونها.
من هذا النوع الأخير من الكُتب بلا شك، رواية “1984”… لماذا؟
الشاهد أنّ قرّاء هذا العمل العابر للعقود قد فهموا الرواية على أكثر من وجه، قرأها كثيرون على أنّها نقد للنظام السوفياتي أو الاشتراكي أو الشمولي، كما كان يراه “أورويل” وقت إتمامه الرواية، وهو الوقت الذي بدأت فيه الحرب الباردة بين المعسكرَين الرأسمالي والشيوعي. لكنّ كثيرين من قرّاء الرواية – وصاحب الكِتاب منهم – يرون فيها في الأساس، تصويراً ورفضاً لما يتعرّض له المرء من قهر في العصر التكنولوجي الحديث، كذلك نجد في كتابات “أورويل” الأخرى دلائل على أنّ كراهيّته لم تكُن للنظام السوفياتي حبّاً في النظام الأميركي، أو في الرأسمالية، إذ ظلّ أورويل متعاطفاً مع الاشتراكية طوال حياته، بل كانت كراهيّته منصبّة على أيّ نظامٍ يسعي لاستعباد الإنسان.
أراد أورويل بالرواية أن يُطلق تحذيراً ممّا يُمكن أن يأتي به المستقبل، بل كان واثقاً من أنّ المستقبل سيأتي به، ما لم يتنبه الناس إلى حقيقة الأمر قبل فوات الأوان، لهذا اختار “أورويل” كعنوان للرواية رقماً دالّاً على سنة تبعد بنحو ثلث قرن عن الوقت الذي يكتب فيه، لكنّ هذا الرقم لا قيمة له في ذاته، فأورويل لم يقصد به إلّا وقتاً ما في المستقبل.
هل لهذا السبب يزداد الإقبال على قراءة رواية الرجل حتّى كتابة هذه السطور؟
يُمكن أن يكون ذلك كذلك قولاً وفعلاً، ولاسيّما أنّ مصدر الخوف الذي كان يسيطر على أورويل حقيقيّ، وقد اتّضح أنّ له ما يبرِّره، أكثر فأكثر، كلّما مرّ الزمن؛ وها نحن بعد مرور أكثر من 65 عاماً على صدور الرواية لأوّل مرّة، نجد أمثلة من مختلف بلدان العالَم، أيّاً كانت الإيديولوجية التي تتبنّاها، عن زيادة تضاؤل الفرد تجاه أصحاب السلطة، نتيجة زيادة ما بأَيدي أصحاب السلطة من وسائل التكنولوجيا الحديثة، وعن زيادة حجم الأكاذيب التي تُقدَّم للإنسان المُعاصِر على أنّها حقيقة، وتضاؤل قدرة الفرد على المُقاوَمة، يوماً بعد يوم، بمعنى تضاؤل قدرته ليس على تحدّي أوامر السلطة ومُعارضتها فقط، بل على التمييز بين الكذب والصدق في ما يُقال عن طريق وسائل الإعلام.
على أنّ القراءة المجدِّدة لأورويل اليوم، والتي يطرحها الدكتور “أمين”، تتوقّف عند العالَم الذي تغيّر بشدّة خلال السنوات التي مرّت منذ أن كَتب أورويل كتابه.
إنّه يدعونا إلى ضروة الاعتراف بأنّ ما يتعرّض له الفرد اليوم من غسيل مخّ من جانب المُمسكين بالسلطة هو أشدّ ممّا كان عليه في أيّام أورويل، وأنّ ما يتمتّع به هذا الفرد من حرّية سياسية أقلّ في الحقيقة ممّا كان حينئذ، على الرّغم من شيوع الادّعاء بعكس ذلك.
على أنّه من المهمّ كذلك ونحن نُقارِن الأحوال والأزمات أن يستلفت انتباهنا أنّ المُمسكين بالسلطة ليسوا الآن مَن كانوا يمسكون بالسلطة أيّام أورويل أنفسهم، وأنّ وسائل غسيل المخّ لم تعُد هي نفسها الوسائل القديمة، كما أنّها أصبحت تصل إلى أعماقٍ في المخّ والنفس لم تكُن تصل إليها من قبل؛ بل أكثر من ذلك، فإنّ بعض الوسائل التي كان يَعتمد الفردُ عليها في مقاومته لغسيل المخّ لم تعُد مُتاحة له الآن، أو ضعفت بشدّة.
هذا كلّه يجعل من المفيد وربّما من الضروري “تجديد جورج أورويل”، أي أن نتتبَّع ما جدَّ من تطوّرات في طبقة المُمسكين بالسلطة الذين يمارسون القهر في العالَم، والأسباب التي أدَّت إلى هذه التطوّرات، ونَوع الرسائل التي يرسلها أصحاب السلطة الجُدد إلى الناس من قبيل غسيل المخّ، وما طرأ على أساليب الكذب وعلى مضمون الكلام الكاذِب (كحلولِ الإرهاب محلّ الحرب، والتخويف من الإرهاب محلّ التخويف من هجوم دولة أجنبية).
هناك جانبٌ أخر من الإشكالية يشير إليه الدكتور أمين بعمق، هو إشكالية البُعد الزمنيّ في القصّة، بمعنى أنّه عندما كان “أورويل” يكتب روايته “1984” كان العصر لا يزال “عصر القوميّات” ولم يكُن قد حلّ بعد “عصر العَولمة” بالدرجة والشكل اللّذَين نعرفهما اليوم.
كان المصدر الأساس للقهر في عصر القوميّات هو “الدولة القوميّة”، ووسائل القهر تمثَّلت في شبكات التجسّس والمُخابرات والسجون، وفي أدوات التعذيب، وقد قدّمها أورويل في صورة بالِغة القوّة. وكان القاهر الأعظم هو “الأخ الاكبر” الذي لا تكفّ وسائل الإعلام عن ذكر اسمه والتسبيح بحمده، والحرب كانت تُشَنّ من دولة أو مجموعة من الدول ضدّ دولة أو مجموعة أخرى، وتجري تعبئة الناس للحرب بشعارات الوطنيّة والولاء للوطن، كما كان قيام دولة قويّة بإخضاع دولة أضعف منها يتّخذ صورة الاستعمار، أي الاحتلال العسكري والاستغلال الاقتصادي.
ما الذي تغيّر إذن ودَفَع “أمين” إلى المضيّ في طريق إعادة قراءة أورويل؟
الشاهد أنّه خلال العقود الستّة الماضية حدثت أشياء كثيرة أدّت إلى تراجع سلطة الدولة لصالح الشركات العملاقة، وتضاءلت أهمّية الحدود الفاصلة بين الدول، بعد أن أصبح من المُمكن لهذه الشركات ولوسائل الإعلام والاتّصالات القفز فوقها.
اقترن هذا أيضاً بزيادة انتقال العمالة من بلد لآخر، ممّا قوّى الشعور بالولاء للشركة محلّ الولاء للدولة، وأدّى هذا وذلك إلى انحسار نموذج الحاكِم القويّ المُهيمِن لمصلحة نموذج الرئيس الذي يدير مهمّة العلاقات العامّة، وحلَّ محلّ الدبلوماسيّين الذين يخدمون الدولة ورئيسها، دبلومسيّون ووكلاء يتكلّمون باسم الشركات الكبرى.
أدّى تطوّر الأسلحة الحديثة أيضاً إلى أن تُصبح الحروب القائمة بين دولة وأخرى أو “الحروب العالمية” القائمة بين مجموعة من الدول ومجموعة أخرى، باهظة التكاليف، بل أصبح أيضاً من الصعب الاعتماد على الشعور بالولاء للوطن، في ظلّ ما أصاب الدولة القومية من ضعف.
كما قد يكون الضَّرر من هذه الحروب في ظلّ العَولمة أكبر من نفعها، إذ لا تدري الدولة الآن ما إذا كانت بضربها دولة أخرى، تضرب أيضاً شركاتها هي ذات الفروع في مختلف الدول.
هل لهذا السبب بات من الأجدى شنّ الحرب الأهلية بين مُواطني الدولة الواحدة، ممّا يحتّم تغيير أسلوب الخطاب المُستخدَم في غسيل العقول، من استخدام شعارات القومية والولاء للوطن، إلى شعار مكافحة الإرهاب مثلاً، الامر الذي يناقشه الدكتور أمين في الفصل الخامس من كتابه؟
يقرع كِتاب الدكتور أمين جرس التنبيه لكثير من إشكاليّات الحداثة والمُعاصرة. وكما أكَّد أورويل أنّ ظواهر الأمور غير بواطنها، يجب أن نوقن بدَورنا أنّ كثيراً ممّا يُقال لنا عكس الحقيقة بالضبط، وأنّه يجدر بنا بذل جهدٍ فائق لكي نرى ما يدور أمام أعيننا وهذه هي الفائدة الحقيقية من عمليّة “تجديد جورج أورويل”.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)