عنوان جاف ومضمون طري !
حكاية الجمعة الماضية ، ما كان لها ان ترى النور ، كونها حالة انسانية ذات طابع شخصي ، غير ان شعوري بأن امرها ، خرج من عباءة الشأن الخاص الى الفضاء الأعم .. وباختصار ارويها :
صباح تلك الجمعة ، اتفقت مع صديقي الكاتب والباحث د. عبد الحسين شعبان ، الذي يزور بغداد في مهمة اكاديمية ، ان نذهب الى شارع المتنبي .. وفعلاً كانت جولة جميلة ، عانقت عيوننا عشرات عناوين الكتب القيمة ، اخترنا بعضها ، واحتسينا شاي مقهى الشابندر ، ومررنا على اطلال شارع حسان بن ثابت ، حيث ذكريات العمل الصحفي البكر في حياتي .. ثم كان موعد الغداء على حدائق نادي العلوية تحت دفء شمس شتائية غاية في الامتاع مع شلة من الاصدقاء .
حتى الآن ، الموضوع اعتيادي ، لكن غير الاعتيادي ، كان عليّ التوجه الى قاعة فندق المريديان ، عقب الغداء مباشرة ، حيث موعد محاضرة للدكتور شعبان ، تلبية لدعوة من مؤسسة اكاديمية هي ” بيت الخبرة ” التي يرأسها د. صائب الكيلاني ، وتضم نخبة مرموقة من الاكاديميين .. عنوان المحاضرة ، لم يثرني ، بل هو اقرب الى جبل جليد في زمهرير قاس .. وحتى لا ازيد من كلمات التوجس ازاء عنوان المحاضرة فأسرع الى القول ان عنوانها هو ( اسئلة في العنف واللاعنف ) … اظنكم معي حين اردتُ الاعتذار عن الحضور ، غير ان التزامي مع د. شعبان وقف حائلاً دون تحقيق رغبتي … ومع توافد المدعوين من اساتذة جامعات ومراكز ابحاث ودراسات الى المحاضرة ، ازداد تململي ، مع تساؤل غلب عقلي : ما معنى الحديث في العنف واللاعنف في زمن اختلط فيه دم المواطن مع تراب الوطن ، والرصاص اصبح بديلا عن لغة الود
والسلام ..
وبدأ المحاضر حديثه ، ومع الدقائق الخمس الاولى ، وجدتُ نفسي ، مثل الآخرين ، منشداً الى المحاضرة بشكل عجيب من خلال اسلوب المحاضر في طرح زبدة محاضرته ، فحوّل جماد عنوانها الى حديث طري ، وبدأت العيون ، قبل الاذان تتابع شفاه المحاضر ، فتأكد لدي ان المحاضر الناجح هو من لديه خطة وبرنامج ، ومعرفة بما يريد ايصاله لمتابعيه وأن يكون خبيراَ وضليعاً في مجال تخصصه ، وعلى استعداد للإجابة على أسئلة الموجدين بسلاسة ورحابة صدر وعلمية واقناع ، وهذا ما قام به د. شعبان ..
ان الصفة الأساسية التي يجب ان يمتلكها المحاضر المتميز بعد معرفته العميقة بما يحاضر فيه ، هي مهارة ايصال المعلومة لمتابعيه مهما كانت جافة ، وهي مهمة جداَ ، فهناك الكثير ممن حضرت لهم ندوات ، كانوا يحملون تخصصات دقيقة في مجال علمهم ، لكنهم في محاضراتهم لم يستطيعوا إيصال افكارهم بطريقة بسيطة ، عذبة ، يهضمها الجميع.. فصاحبهم الفشل!
د. شعبان ، كان متميزاً في طرحه ، وجعل المحاضرة التي اتسم موضوعها كما ذكرتُ ، بعدم الجاذبية والجفاف ، واضحة مثل وضوح الشمس وسهلة الهضم بأسلوب شيق وممتع جعلنا نصغي بانتباه لما يقول ، لاسيما ان حديثه كان مباشرا ، اعتمد على ذاكرته في طرح الحوادث وتواريخها واسماء ابطالها بشكل اضفى على الحاضرين نشوة الاستماع ، والشوق لأسئلة ومفهوم العنف واللاعنف ، خطوة بخطوة وبأسلوب سلس واضح بدون تعقيد ، وجدته مستمتعاً بمحاضرته ، ونقل متعته الى الحضور بإلقاء رخيم ، بعيداً عن الملل ، وقد ربط محتوى محاضرته بواقع حياتنا اليومية .
بكلمة صغيرة اقول : ان القاء المحاضرات في عالم اليوم ، اصبح فناً واسلوبا ، وهدفاً علميا ، وما عداه فهو الفشل بعينه ، ليس للمحاضر وحده ، بل ينسحب هذا الفشل الى المتابعين من طلبة الجامعات ، او طلبة الدورات في مختلف التخصصات ..
ما احوجنا الى محاضرين ، يتناولون الشأن الجاد والجاف ، بلغة الحور الحسان!
صحيفة بغداد الاخبارية