عن أزمة الجندية في سوريا: بين المطلوب والمُستطاع

يقاتل الجيش السوريّ، منذ خمس سنواتٍ ونيّف، في كلّ أنحاءِ البلاد. يخوض حربَ استنزافٍ ضد ميليشيات صار السواد الأعظم منها أجنبياً، أمّا التشكيلات المحليّة فلم يتبقَّ منها إلّا ما يحفظ ماء وجه معارضة الخارج، ويسمح لها أن تُفاوض سياسياً، وإن بالوكالة عن رعاتها الدوليين، بحجّة وجود فصائل تمثّلها عسكرياً على الأرض.

الاقتتال الدائر في سوريا اليوم، كان من شأنه أن يُفتت الجيش وذلك لجهة إحداث انشقاقاتٍ واسعة في صفوفه، تليها حربُ إنهاكٍ طويلة تحوّل درع البلاد الأوّل إلى قوّاتٍ مسلّحة كرتونية على غرار الجيش العراقي المتشظّي، الأمر الّذي يُسهّل على المتمرّدين المدعومين من خصوم دمشق إسقاط النظام على الطريقة الليبية.

إلّا أنّ حسابات قمح «الفريق» السعودي ـ القطريّ ـ التركيّ ـ الأميركي، ومن خلفه كلّ من بريطانيا وفرنسا بشكلٍ رئيس، لم تطابق حساباتِ بيدر النتائج الّتي جاءت صادمةً بالمعنى الواسع للمفردة،
وإذا كانت الحكومة السورية سوف تفاوض في كانون الثاني 2016 من موقع قوّة، فإنّ الجيش السوريّ، مدعوماً بحلفائه الإقليميين والدوليين، هو صاحب الفضل الرئيس في ذلك.

ما قيل قبلاً، لا يُلغي حقيقةً ملحوظة مفادها أنّ الجيش مُنهَك. بعضُ أفراده يقاتلون منذ خمس سنواتٍ ولم يحصلوا على إجازةِ يومٍ واحد يلتقون فيها أهلهم المشتاقين، والبعضُ الآخر لم يتبقَّ في جسده شبرٌ لم تخترقه رصاصة، ولكنّه ظلّ يحارب برغم كلّ شيء. هذا الشكل من الثبات صالحٌ للغزل، وقد يصحّ مادة ممتازة لكتابة نصوصٍ شعرية وأدبيّة تتغنّى بعزيمة الجنود وقادتهم، لكنّ الوجه العملانيّ للقضيّة يقول إنّ هؤلاء المقاتلين متعبون للغاية، وإنّه لا بدّ من تغذية الجيش بعناصر جديدة تُريح الرعيل القديم من المحاربين. الجيش يتعرّض، بصورةٍ يومية، إلى نقصٍ في عديد مرتّباته. عدّاد الضحايا والمصابين لن يتوقّف حتّى انتهاءِ الحرب. هذا النّقص جرى تعويضه من خلال تشكيل «كتائب الدفاع الوطنيّ» والفرق الرديفة العاملة في كنفه، يُضاف إلى ذلك الحضور المتنامي لـ «حزب الله» الّذي شكّل قوّة وازنة حسمت أكثر من معركةٍ مفصليّة في عمر الحرب السورية.

التخلّف عن الخدمة

ضمن سياق حاجتها لعديدٍ جديد على مستوى الجنديّة، لجأت الدولة السورية، مؤخّراً إلى حملةِ عسكرية واسعة في شوارع العاصمة تهدف إلى «إلقاء القبض» على الشبّان المتخلّفين عن خدمة العلم، والمطلوبين للخدمة الاحتياطية، وسوقهم إلى ساحات القتال. هذا الحلّ ربمّا كان مجدياً آنياً، لكنّ فعاليته انتهت مع تنبّه الشباب إلى ظاهرة «التفييش» على عموم حواجز دمشق، الأمر الّذي دفعَ عدداً لا بأس به منهم إلى الاعتكافِ في منزله ريثما تنتهي عملية التّمشيط الواسعة هذه. في المحصّلة، أوشكت شوارع الشّام أن تصير خاليةً إلّا من النّساء والعجائز.

خلاصة القول، إنّ الجيش يحتاج إلى مزيدٍ من الرّجال، والدّولة مطالبةٌ بإيجادِ السّبل اللازمة لإشباع هذا النقص في بنيان القوّات المُسلّحة.

لن تُعلن الدولة السورية النّفير العام. هذا الاحتمال شبه مستبعَدٌ وعصيّ على التطبيق. العراق مرّ بظروفٍ عسكرية أكثر صعوبةً وتعقيداً من ظروف الرّاهن السوريّ، ولم يُتّخذ فيه قرارٌ كهذا. النّفير العام، إن جرت الدعوة إليه، فإنّه يعني، بالضرورة، شلّ القطاعات المدنية في البلاد بالمعنى الواسع والعريض للمفردة، ويعني أيضاً أنّ الدولة أفلست وصارت قاب قوسين من الانهيار الأخير، وهذا فتحٌ إعلاميّ لن تقدّمه دمشق إلى خصومها بهذه البساطة. حسناً، ماذا في البدائل؟

لا أحد يستطيع أن يُنكر الأثر الفاعل لكتائب «الدفاع الوطنيّ» في الحرب السوريّة، هذه التشكيلات العسكرية مكوّنةٌ من متطوّعين يقاتلون إلى جانب الجيش لقاء الحصول على مرتّبٍ شهريّ يمكن أن يصل إلى عتبةِ أربعين ألف ليرة سورية لعسكريّي المهام الخاصة، وهو ما يفوق رتبة ملازمٍ أوّل في مرتّبات الجيش النظامي. هذه نقطةٌ أولى.

مشكلة الهجرة

سوريا سوف تخرج من هذه الحرب وقد خسرت جزءاً كبيراً من بنيتها التحتية. إعادةُ إعمار البلاد تتطلّب كفاءاتٍ علميّة وكوادر شبابيّة ضخمة، أغلب أصحابِ الكفاءات يُفضّلون الهجرة على أن يُساقوا إلى الخدمة العسكرية ويُصار إلى الاحتفاظ بهم، أسوةً ببعضِ رفاقهم، خمس سنواتٍ وربمّا أكثر. يقضي هؤلاء أربع سنواتٍ خارج البلاد، بعضهم يؤسّس لحياةٍ كاملةٍ في المهجر، فيصير عطاؤه مكسباً لدولٍ احتضنته واعتنت به، أمّا العائدون إلى سوريا فإنّهم يسدّدون مبلغاً قدره ثمانية آلاف دولار يصيرون بموجبه معفيين، رسمياً وبصورةٍ قانونية، من الخدمة الإلزامية. هذه نقطةٌ ثانية.

في محصّلة النقطتين، نستطيع أن نصل إلى نتيجتين اثنتين، النتيجة الأولى تُفيد بأنّ الدولة السورية لا تُمانع في «توظيف» شبّان سوريين بمهنةِ «مقاتل»، فتصير الحرب مهنة هؤلاء الّتي يعتاشون منها. والنتيجة الثانية تُفيد بأنّ الدولة تحتاجُ المال حتّى تدفع لأولئك المقاتلين مستحقّاتهم.

ضمن هذه المعطيات ربمّا يكون من المُفيد بمكان أن يُفتح، مجدداً، باب النّقاش حول مقترح البدل الداخليّ الّذي سبق أن طُرح قبيل اندلاع الأزمة في سوريا، وكان يقضي بإعفاء الشابّ السوري من خدمة العلم، من دون أن يُضطر إلى مغادرة البلاد، وذلك مقابل مبلغٍ ماليّ ضخم نسبياً (يعادل ما يزيد عن ضعفيّ قيمة البدل الخارجي)، الأمر الّذي من شأنه أن يُحافظ على الفتوّة السورية ويحدّ من هجرة الشباب، إضافةً إلى رفدِ خزينةِ الدولة بكميّات كبيرةٍ من القطع الأجنبيّ، بصورةٍ قد تساعد على رفع رواتب العسكريين والمتطوّعين كشكلٍ من أشكال تشجيع السوريين على الانضمام إلى القوّات المسلّحة بتشكيلاتها المختلفة.

هنا قد يعلو صوتُ أحدهم رفضاً للاقتراح بحجّة أنّه يحوّل الجيش السوريّ إلى جيشِ للفقراء فقط مُعفياً الأغنياء من واجبهم في الدّفاع عن الوطن. وكأنّ أغنياءَ سوريا اليوم يقاتلون في كلّ شبرٍ ملتهبٍ من البلاد!

هل من حلول؟

إن مواجهة الواقع ببشاعته كلّها تفرض علينا أن نعترف بأنّ سوريا دولةٌ ينخرها الفساد، وأنّ هناك ألف ثغرةٍ قانونية وألفَ طريقةٍ تُمكّن النافذين والمقتدرين مادياً من تفادي الالتحاق بصفوف الجيش والقوّات المسلّحة، ولإصلاح هذا العطب التكوينيّ فإنّ الدّولة تقف أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما. الخيار الأوّل يتمثّل في تمكين ارتباط السوريّ بأرضه، والمساواة بين الغنيّ والفقير وبين المواطن البسيط وصاحب النفوذ ووضع الجميع تحت سلطةِ القانون، فتفنى حجّة الفقير الّذي يرى أنّ في بلاده قوماً يغرقون بالمال أيّامَ السّلم، ويتهرّبون من حمل السلّاح أيّام الحرب تاركين أمثاله للموتِ على جبهاتِ النّار. وبعبارةٍ أبسط: خير البلد لأولاد البلد كلّهم، والدّفاع عن البلد مسؤولية أولاد البلد كلّهم. وهذا الطّرح يبدو أفلاطونياً للغاية قياساً بالأداء الكرتونيّ للحكومات الّتي تعاقبت على سوريا قبل الأزمة وأثناءها.

الخيار الثاني يتمثّل في تطويع التجاوزات الحاصلة في الخفاء، وتحويلها إلى قوانين مرحلية تُعطي جملة نتائج إيجابية، كزيادة رواتب المتطوّعين للقتال في صفوف الجيش الأمر الّذي سيؤدّي، حتماً، لمضاعفة أعداد هؤلاء المتطوّعين وسيؤدّي، أيضاً، إلى إراحة المقاتلين الّذين تمّ الاحتفاظ بهم لفتراتٍ طويلة، إضافةً إلى عدم تهجير الكفاءات العلمية السورية إلى منافٍ كثيرة، والسّماح لهم بالبقاء داخل سوريا والعمل فيها وخدمتها مدنياً، فضلاً عن رفد البنك المركزيّ بكميّاتٍ وافرةٍ من القطع الأجنبيّ الّذي يجري استنزافه يومياً.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى