
لم تكن الأيام الأولى التي تلت سقوط النظام مجرد لحظة فرح، بل كانت أيضًا لحظة مسؤولية ثقيلة. كنت أفكر: كيف نحافظ على سوريا التي عادت إلينا أخيرًا؟ كيف نمنع أي سلطة جديدة من أن تستولي على البلاد كما فعلت سابقتها؟ وكيف يمكن لنا، كشعب، أن نبني سلطة حقيقية تُمثلنا وتحمينا من الاستبداد؟
سجلت في ذلك الوقت فيديو قصيرًا حذرت فيه من أي انتهاكات قد تظهر في المرحلة الجديدة. قلت إن علينا أن نكون يقظين، وأن نرفع أصواتنا فورًا إذا لاحظنا أي انحراف، كي لا تُسرق سوريا منا مرة أخرى. لكن ردود الفعل فاجأتني؛ تلقيت العشرات من الرسائل التي تسألني:
“لماذا تُخوّفين الناس من الحكم الجديد؟” وقال آخرون: “نحن نثق بك لأنك كنت تنتقدين النظام
السابق، فلماذا تستمرين في النقد اليوم؟”
كانت تلك الرسائل تعكس رغبة جامحة في طي صفحة الماضي والثقة العمياء في كل ما هو
جديد. لكنني كنت أرى أن الثقة لا تعني الصمت، وأن بناء دولة حقيقية يتطلب مراقبة دائمة،
مهما كانت هوية الحكام الجدد..
في تلك الفترة، لم يكن الصراع الطائفي في سوريا قد وصل إلى ذروته الدموية بعد، لكنه بدأ
يطل برأسه بعد أسابيع قليلة. تحوّل النقد أو الدعم للسلطة إلى “بطاقة هوية” طائفية أو سياسية. وجدت نفسي في خضم معارك مع جميع الأطراف؛ فمن يدعم السلطة الجديدة كان يريدني أن
أكون في صفه، ومن يعارضها كان يتوقع مني الوقوف معه..
أصررت على أن موقفي ليس سوى انتمائي لسوريا، دون أي راية أخرى. لكن هذه الفكرة بدت غريبة في عيون الكثيرين، الذين اعتادوا على التصنيف: إما معنا أو ضدنا. حتى عندما أكتب
مقالًا أو أطرح فكرة، يتحول النقاش فورًا إلى تساؤلات: “هل هي معنا؟ أم ضدنا؟” وكأن التفكير المستقل أصبح جريمة..
اليوم، بعد كل ما حدث، أدرك أن الخوف الحقيقي لم يكن من النقد، بل من ثقافة الخوف ذاتها التي زرعها النظام السابق، خوف الناس من بعضهم، بما يجعلهم يحتاجون سلطة تحميهم من بعضهم البعض، وبذلك يتحولون إلى خاضعين للسلطة، أو معارضين لها دون تمحيص.
السؤال الأصعب هو: كيف نتعلم أن نختلف دون أن نتهم بعضنا؟ وكيف نبني وطنًا لا يُختزل فيه الإنسان إلى انتماءٍ ضيق؟
سوريا لا تحتاج إلى أصوات تصفق فحسب، بل إلى أصوات تفكّر أيضًا. لأن الحرية ليست
مجرد غياب القيود، بل هي القدرة على قول “لا” عندما يكون الصمت خيانة.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة