عن التواطوء الأميركي – التركي للتغيير الديمغرافي في سوريا

بين مناورة التحالف الأميركي المُفرطة في تدمير مدينة الرقة، مع استبعاد أيّة أعمال فعّالة وجدّية حتى الآن لإعادة إعمارها أو لِتأمين البنى التحتية الأساسية فيها حتى الآن، وبالتالي تهجير أبنائها، وبين مناورة الأتراك الخبيثة في عملية غصن الزيتون، لتهجير كرد إقليم عفرين بشكلٍ شبه كامل، تظهر ملامح التواطوء الأميركي – التركي، والهادف إلى إحداث تغيير ديمغرافي في سوريا ما بين شرق الفرات وغربه، من خلال إبدال إسكان كرد اقليم عفرين بالكامل بعرب الرقة ومحيطها بالكامل، وبالعكس.

في الظاهر، يبدو أن الأميركيين والأتراك مختلفين “وبالعُمق” حول موضوع الكرد السوريين، وتصريحات مسؤولي الدولتين تُظهر وكأن الحرب بينهما على قاب قوسين، من ناحية الأميركيين بسبب الدخول التركي في عفرين وضرب مشروع الانفصال الكردي المدعوم أميركياً “مبدئيا”، ومن ناحية الأتراك بسبب الدعم العسكري والدبلوماسي الأميركي للكرد، في شرق الفرات بالكامل وفي غربه ما بين منبج وعفرين.

مبدئياً، لا يمكن لأيّ متابع إلا أنّ يُصدّق جدّية هذا الخلاف، وذلك بعد أن يستمع إلى تصريحات الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان والتي يهاجم فيها الأميركيين بهذه الطريقة الفظّة، متّهماً إياهم مباشرة بالتسبّب بقتل الجنود الأتراك الذين هم حلفاؤهم في الناتو، من خلال دعم وحدات حماية الشعب الكردي أو قوات سوريا الديمقراطية “الإرهابيين” كما يوصفهم دائماً، بأسلحة نوعية، ليس أقلّها صواريخ متطوّرة مضادّة للدروع من نوع تاو، وأيضاً صواريخ فعّالة مضادّة للطائرات محمولة على الكتف.

هذا في الإعلام وفي التصريحات، وربما في بعض الوقائع الميدانية الصحيحة، و”المطلوبة” لإكمال تركيب المشهد، والتي تظهر فيها بعض الدبّابات وحاملات الجُند التركية، تحترق بعد استهدافها من قِبَل وحدات الحماية الكردية بتلك الأسلحة الأميركية النوعية، على سفوح جبال “راجو” أو تلّة “برصايا” أو في وادي “بلبل”، وغيرها من مواقع حدودية بين تركيا والشمال الغربي السوري.

في الواقع والحقيقة وتِبعاً للنتائج الميدانية على الأرض، يختلف الموضوع عن ذلك بشكلٍ كاملٍ، وبمعزل عن معادلة استراتيجية ثابتة، لا يمكن الذهاب بعكسها، وهي أنه من المستحيل دخول الوحدات التركية إلى عفرين بوجود اعتراض جدّي أميركي، يبقى لإثبات هذا التواطوء ومن خلال دراسة ميدانية واستراتيجية، متابعة نتائج أغلب معارك الشرق والشمال السوري، والتي كانت تحت عنوان قتال داعش، أو تحت عنوان القتال بين الكرد من جهة، وبين الوحدات التركية والمجموعات المسلّحة المنضوية تحت رعايتها من جهة ثانية، وإستنتاج ما يلي:

لم نشاهد هذا الاستنفار التركي عن التواجد والنفوذ الكردي شرق الفرات، مثلما هو عن ذلك التواجد غرب الفرات، وخاصة في عفرين ومنبج، لا بل يبدو أن الرئيس أردوغان لم ينتبه لمسافة تتجاوز الـ 600 كلم من الحدود مع تركيا، يسيطر عليها الكرد في أرياف القامشلي والحسكة والرقة وعين العرب، ولكنه انتبه وبشراسة لمسافة تقلّ عن الـ 50 كلم من تلك الحدود في عفرين، تسيطر عليها وحدات الحماية الكردية منذ بداية الأزمة السورية من دون أنّ تشهد أيّ حادث حدودي أو أي تصرّف أمني أو عسكري من الجانب الكردي السوري بمواجهة الداخل التركي.

في معركة تحرير الرقة تميّزت مناورة الأميركيين في دعمهم لقوات سوريا الديمقراطية بتقديم تغطية جوّية كاسِحة، صحيح أنها أمّنت سيطرة “قسد” على الرقة ودحر داعش، مع الكثير من علامات الاستفهام حول عمليات مشبوهة لوحدات التحالف ساهمت بإخلاء عناصر التنظيم وتوجيههم إلى مواقع أخرى، ولكن كانت نتيجة تلك التغطية الجوية المُفرِطة، بالإضافة إلى سقوط عشرات الآلاف من المدنيين أبناء المدينة، بين شهداء ومصابين، أنّ تدمرت المدينة بالكامل، وهي حتى الآن غير صالحة لعودة أبنائها، ولا يبدو أن هناك قراراً أو إجراءً عملياً على الأرض يؤمّن تلك العودة.

في عفرين، والتي كانت عملية احتلالها من قِبَل الأتراك والمجموعات المسلحة المتعاونة معهم، خير دليل على التواطوء الأميركي – التركي، كانت نقطة الفصل في تلك المعركة، هي اجتماع وزير الخارجية الأميركي السابق ريك تيلرسون مع المسؤولين الأتراك في أنقرة، وحيث شهدت بعدها جبهات المواجهة بين الوحدات التركية و وحدات الحماية الكردية تدحرجاً لافتاً لمصلحة الأتراك الغزاة، تبيّن أنّ سبب ذلك هو توقّف استهداف آليات الأتراك المتقدّمة بأسلحة نوعية مثل الصواريخ الاميركية الصنع المضادّة للدروع وغيرها، بالأضافة إلى توقّف ولِغياب استهداف أيّة طوافة تركية، كنا قد شهدنا قبلها أسقاط إثنتين منها.

ثم أنه تبيّن وبشكلٍ لا يقبل الشكّ أبداً، من المتابعة الميدانية لمراحل مناورة الوحدات التركية في عملية غصن الزيتون، أنّ تلك المناورة تشكّلت وبَنَت عناصرَها العسكرية والميدانية بهدف إجبار المواطنين الكرد السوريين على الفرار من دون محاصرتهم، وذلك حتى اليوم الأخير من تنفيذها قبل السيطرة النهائية على مدينة عفرين، وحيث كان من الممكن ميدانياً تنفيذ محاصرة المدينة منذ بدايات المعركة، وذلك عبر التقدّم من محورين مُتزامنين، الأول شرقاً من أعزاز باتجاه مريمين على تخوم مدينة عفرين، والثاني غرباً انطلاقاً من ريحانلي التركية الحدودية ومن أطمة في ريف إدلب الشمالي، باتجاه باسوطة جنوب عفرين، فقد اختارت الوحدات التركية المحتلة الضغط الواسع على كامل الاقليم، ودَفْع المدنيين ومسلّحي الحماية الكردية على الفرار نحو أماكن سيطرة الجيش العربي السوري، وبالتالي إخلائهم بشكل كامل لمناطقهم.

في منبج أيضاً، لا يبدو أن هناك مشكلة جدية أميركية – تركية، وتصاريح مسؤولي الطرفين تذهب تقريباً باتجاه تأمين انسحاب مسلّحي قوات سوريا الديمقراطية شرق الفرات، الأمر الذي صوّبَ عليه دائماً الأتراك، وكان من نِقاط الخِلاف “الظاهرية” مع الأميركيين.
وهكذا، بين مناورة التحالف الأميركي المُفرطة في تدمير مدينة الرقة، مع استبعاد أيّة أعمال فعّالة وجدّية حتى الآن لإعادة إعمارها أو لِتأمين البنى التحتية الأساسية فيها حتى الآن، وبالتالي تهجير أبنائها، وبين مناورة الأتراك الخبيثة في عملية غصن الزيتون، لتهجير كرد إقليم عفرين بشكلٍ شبه كامل، تظهر ملامح التواطوء الأميركي – التركي، والهادف إلى إحداث تغيير ديمغرافي في سوريا ما بين شرق الفرات وغربه، من خلال إبدال إسكان كرد اقليم عفرين بالكامل بعرب الرقة ومحيطها بالكامل، وبالعكس.

صحيفة الميادين الالكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى