عن الحرب التي قتلت سوريا (نصري الصايغ)

 

نصري الصايغ

خبراء النسيان لم يعترفوا بثمالة الذاكرة. المشهد السوري فائض عن كفاية الاحتمال، والصور تتدافع في المخيّلة، كأن القتل فضيلة. يتنافس الطرفان، في ممارستها والاعتناء بحسن أهدافها السياسية.
إنها السنة الثالثة. ثلاث سنوات بعمر ثلاثة عقود أو أكثر. ونبض الدم السوري ليس إلى انحسار وليس بوسع أحد أن يحسم موعد النهاية. الذكرى الثالثة لاندلاع «الربيع الدامي» في سوريا لا تغري أحداً بالتذكر. لا وقت للعودة إلى الوراء أبداً. هي مناسبة للتوقع فقط. السنة المقبلة، لن تكون الأخيرة. قد تندفع إلى ما بعد العاشرة. هكذا يتوقع خبراء الحروب والفتن والقتل، وهكذا يقرأون ما ستؤول إليه سوريا، إن ظلت حيّة تُرزق.
لذا، ليس مجدياً تذكر البدايات. اجترار الماضي لا يفضي أبداً إلى إعلان الندم. كأن يقال مثلاً، لو «أنه» أدرك ماذا تعني أصابع أطفال درعا، لكان وفر على سوريا هذا الدمار وهذه المذبحة. أو، كأن يُقال، كان لا بد من عصمة الحراك السوري من السلاح. أو، كأن تُستعاد فصول الجولات السياسية والعسكرية بهدف تبرئة الذات المذنبة. أو كأن تبرر المعارضة لجوءها إلى السلاح بعنف النظام. أو، كأن يستمر النظام في اتهام المؤامرة وبأن درعا لم تكن حادثة «صبيانية» بل خطة محكمة الخيوط. أو، كأن تفسر المعارضة لسبب انتمائها المزدوج إلى داخل مشتت وخارج لا يشبه ربيع العرب. أو، كأن ينفي النظام أحقية الحراك ويصر على ارتباطه بالسعودية وقطر والإمارات وأوروبا والغرب.
لم يعد مجدياً استعادة سردية المعارضة المتهافتة ولا سردية النظام المتداعية. لا مجال لإقحام البراءة لأي من الفريقين. فالنظام مرتكب والمعارضة ارتكاب. فلتُحذف من المشهد السوري مقدماته. المبادئ والشعارات والممانعة والديموقراطية، سقطت جميعها.
ولم تعد الساحة تحتمل غير لغة القوة، فمن كان الأقوى كان له أن يفرض سرديته في المستقبل. وبما أن القوى ليست مفضية إلى انتصارات، بل إلى مكاسب موضعية، فسوريا ماضية بثبات إلى ما بعد السنة الثالثة، بحزم وجدارة.
المبارزة الدائمة بين الفرقاء حول الحق والحرية والعدالة والديموقراطية والممانعة، صارت بلقاء وحملة. المشهد المرتسم لا يحتاج إلا إلى إجادة التطلع وجودة البصيرة. سوريا ضحية النظام والمعارضة. لا أحد كان يتوقع، لا في النظام، ولا في المعارضة، أن تصبح سوريا أرضاً لحروب داخلية وإقليمية ودولية، مباشرة أو بالواسطة. لا أحد من أبرياء «الربيع العربي»، والسوري تحديداً، كان يتوقع أن تقع المعارضة أسيرة تحالف موضوعي!!! وإغرائي!!! مع «قطر العظمى» (أين الحرية؟) ومع السعودية الوهابية (أين كل الكلام؟) مع تركيا الإخوانية (أين العلمانية؟) مع الولايات المتحدة الأميركية (أين فلسطين؟) ومع حلفاء، ليس بينهم غير اليتم الأخلاقي والمبدئي، ولا يتمتعون إلا بفحولة مالية استئثارية ومصالح تهدف إلى تدمير سوريا وتدمير الثورة معاً…
لا أحد من الذين خرجوا بعد درعا في شوارع وميادين المدن، على مدارات أيام «الجمعة»، بشعارات نبيلة ونقية، أن ينتهي الطواف بتسلم إسلاميين، جاؤوا من وثنية النصوص وجاهلية التكفير، مناطق ورقابا، أعملوا فيها شرع السيف والبتر والقطع والجز؟
لقد معست المعارك البدايات وهتكت الأهداف. فقر حال وطني. بؤس ديموقراطي. إفلاس قومي. تشتت ممانعة… لم ينتصر غير القتل المتبادل، بكل ما لدى الفريقين من أدوات تدمير واقتلاع وانتقام وثأر وهمجية. لقد فاضت سوريا بعنفها على شعبها الذي أصبحت ملايينه السبعة، نازحة أو لاجئة أو هاربة أو قيد الاعتقال والقتل والسراب.
لا هدف راهنا، غير استمرار القتال… سوريا فاضت على جيرانها عنفاً وبؤساً ولاجئين. استضافت على أرضها جحافل بربرية مدعومة بعقيدة دينية، قُيّدت لحساب «القاعدة» و«النصرة» و«الاخوان» وفرق لا عدد ولا حصر لجرائمها. استضافت أموالاً وسلاحاً ودولاً ومنظمات، ففتحت جبهات لم تهدأ. روسيا وأميركا وإيران وأوروبا هناك. ومع ذلك، فلا حل، ولا جنيف. لا صوت يعلو فوق صوت الدمار المتبادل والمعاد والمكرَّر…
في مثل هذه الحالة، صار الاحتفال بـ«الانتصارات» يثير الشفقة والبكاء. لا انتصار بعد لأحد. كرّ وفر. إلا إذا تخلى حليف خارجي عن دعم حليفه في الداخل، وهذا غير متوقع. لا إيران ولا روسيا ولا «حزب الله» والمجموعات العراقية، ستتخلى عن النظام. ليس حباً بالنظام، بل دفاعاً عن الذات…
ألم يكن ذلك مفهوماً منذ البداية لدى المعارضة. أما درسوا أن النظام السوري حلقة في سلسلة. وأن التحالف بين الدول، ليس على مبادئ بل على مصالح، وإذا تيسرت المبادئ، كان ذلك أفضل، وهو من النوادر؟ ألم يعرف النظام، أن المعارضة ستلجأ إلى طلب المساعدة من «أي خارج»، نعم، من أي خارج يمد لها يد المساعدة؟ لهذا، تُترك المعارضة تسقط. السعودية باقية في سوريا ولن تخرج منها، وهي منشرحة كثيراً في أنها انضمت إلى معسكر مكافحة الإرهاب، الذي كان ذات يوم قريب، هو إرهابها. وهي قادرة على أن تحالف نظام مصر وتشترك في حربه على «الاخوان» وتقاتل نظامي دمشق وبغداد، بالإسلاميين أيضاً.
بعد أوكرانيا، ستذوق سوريا طعم الحرائق. الحلول التي كانت صعبة في جنيف، صارت مستحيلة.
الكلمة ستبقى للسلاح.
الحاضر تحكمه الأسلحة.
المستقبل تقتله هذه الأسلحة وما سيرد إلى سوريا بعد ذلك. ولجميع الأطراف.
أمس، أطفأت سوريا شمعتها الثالثة الكالحة وأشعلت الرابعة، والعتمة أمامها… خبراء النسيان ينصحون بالابتعاد عن المشهد السوري كي لا ينزلق إلى الاعتياد على تحمل الفظاعات وإلى تبلد الإحساس وتجلد المشاعر. ينصحون بأن تستمر بالحياة بعيداً عن الحرائق.
لعل المطلوب هو المزيد من الوعد والمزيد من الإحساس والمزيد من الانخراط والمزيد من التذكر، ليبقى هذا الألم الفظيع والفائض، سوطا يحث ضميرنا على الالتزام بالمستقبل وعدم نسيان الماضي، ويدفعنا إلى ابتداع اصطفاف جديد: «ضد الحرب» مهما كان الثمن.
لا ننسى ما أبكانا وما أدخلنا في الفجيعة، بعيداً عن الحجج السياسية والذرائع المتبادلة… لا ننسى درعا، دوما، داريا، الميدان، برزة، السويداء، تلبيسة، الرستن، تلكلخ، معرة النعمان، باب عمرو، باب السباع، كرم الزيتون، حمص، حماه، بصرى الحرير، اللاذقية، بانياس، طرطوس، إدلب، الرقة، الحسكة، القامشلي، الزبداني، النبك، القصير، السلمية، حبلة، حلب و… ولا ننسى ما ومن كان فيها، وما لم يكن فيها بعد ذلك.
هل هذا تفاؤل غبي؟
ربما، لكنه أفضل من الاستمرار في المشهد الذي وصفته هالا محمد، الشاعرة السورية بالكلمات التالية: «من أعالي الجبال، من القرى، من المدن، من الأحراج، من الغابات، من الحدائق، من تخوت البيوت… خشب الجنازات».

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى