بكين ــ اعتدتُ الاستيقاظ في الساعة السادسة صباحا من كل يوم، خاصة وأني بحاجة لاستغلال يومي منذ لحظاته الأولى، كي أكسب وقتا كافيا للقيام بكل ما أرغب القيام به من مهام متنوعة بدءا من تعلم اللغة مرورا إلى عملي الهندسي وصولا إلى الإعلام.
تمضي معظم أيامي مزدحمة فكل يوم يجلب معه الانشغالات الكثيرة التي تجعلني غير قادرة على التواصل حتى مع نفسي، وقد بدأ كثيرون يعتبون علي بسبب عدم التواصل معهم، وباتوا يعتقدون أني وبعد حصولي على الدكتوراه أصبحت أتعالى، وهو ماكان يثير سخريتي لا سيما وأني حصلت على الدكتوراه نظرا لمحبتي للعلم وليس طمعا بالمرتبة أو المكانة.
المهم، أمس وبعد يوم شديد التعب، قررتُ أن أمضي بعد الظهر في المنزل كي أعمل بهدوء. باغتني هاتف من ابنة عمتي، والتي ما إن أقول “ألو” حتى تسألني “متي ستأتين إلى سوريا؟” ..حاولت أن أضيّع الحديث مرارا فكانت تعيد السؤال بإلحاح، إلى أن أخبرتها عن موعد من المتوقع أني قد استطيع القدوم فيه إذا لم يحدث أي تغيير على مواعيد عملي.
أثناء مكالمة الفيديو تلك، عادت بي الذاكرة إلى خمس سنوات مضت قبل أن أسافر،حيث كان اجتماعنا العائلي كل يوم خميس، هذا الحنين إلى العائلة دفعني إلى إضافة “عمتي” إلى المكالمة علّ هذا اللقاء الافتراضي يقرّب المسافة. وجهتا إلي الكثير من الانتقادات حول طباعي الصعبة التي تتمسك بالقراءة والعمل أكثر من أي شيء آخر. كانتا تتحدثان حول قدرتي على هذا الصمود بعيدا عنهم، فخمس سنوات من الغياب ليست بالمدة القصيرة. كنت أسمعهم ضاحكة، و أقول لنفسي ما نضمره نحن الغائبون في أرواحنا أعمق من أن يُقال، ولذلك لم يبق لي من وسيلة سوى وضع هذا القناع الضاحك. فهل تعرفون ما الذي يجعل الغائب يؤخّر موعد اللقاء، ربما هو طول الغياب، ربما هو الخوف من رؤيتكم، من رؤية البلاد، من رؤية الشوارع. نعم..إنها الخشية نفسها التي أعمل جاهدة على تجاهلها حتى في مكالمات الفيديو، خشية أن تكون تجاعيد وجوهكم قد فاقت أعماركم بسنوات، نعم إنها الخشية من كل شيء.
تذكرت في الوقت ذاته أحاديث مجموعة من السوريين الذين قد أمضوا سنوات منذ بداية الحرب خارج سوريا، وأصبحوا يخشون العودة ليس لأي لسبب إلا لأنهم يخشون ملاقاة أهاليهم كهلة وقد تركوهم شبابا، يخشون ملاقاة البلاد وهي عاجزة وقد تركوها آملين في أن تتحسّن في جانب ما…..نعم إنه الخوف، الخوف الذي يصل إلى درجة الرعب، لأنه خوف مما نحب وعلى من نحب.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة