نوافذ

“عن النكران”

لُجين سليمان

في خضمّ الأحداث السورية الأخيرة – التي نتفادى تسميتها صراحةً نظراً للانقسام العميق حتى حول المصطلحات – تشهد الساحة انتشاراً واسعاً لعروض الهجرة التي تُقدَّم كـ “فرص ذهبية”. لكنّ جوهر هذه الظاهرة ليس سفراً طوعياً بقدر ما هو هروبٌ مرير من وطنٍ لم يعد قادرا على حماية أبنائه، أو هجرةٌ سياسيةٌ بامتياز حيث تلوّح “الدول المتقدمة” بمنطق “الخالة الرحيمة” التي تُقنع المهاجر بأنّ وطنه الأم قد تخلّى عنه، بينما هي تقدّم له “البديل الحضاري”.

هنا تُولد مفارقة وجودية: فالسوري الذي يجد نفسه فجأةً في أحضان “العالم المتحضر” يُبهر بالفرق الشاسع في مستوى العيش، فيستقرّ في وعيه أنّ “الوطن” ليس مجرد جغرافيا، بل هو المكان الذي يمنحك الكرامة

الإنسانية. لكنّ هذه الرؤية غالباً ما تأتي مصحوبةً بانزياحٍ خطير في الذاكرة الجمعية، حيث تُختزل تجربة

التخلف السوري في فشل الحكام المحليين فحسب والذين هم فاشلون وفاسدون وسيئون فعلا، إلا أن المشكلة

الأكبر أن تُغفل حقيقة أنّ هذه الدول “المتقدمة” نفسها هي من صنعتْ أساسَ التخلّف عبر استعمارٍ مباشر، أو عبر دعم أنظمةٍ استبدادية، أو عبر سياساتٍ اقتصاديةٍ استنزافية.

الأكثر إيلاماً هو تحوّل هذا النسيان إلى ضربٍ من التطبّع النفسي مع المُستعمِر، حيث يتحوّل الاستعمار

الجديد إلى “استعمار ناعم” يفرض نفسه عبر سحر الثقافة: طاولة الطعام الفرنسية التي تُوثَّق كرمزٍ للأناقة،

أو الضباب البريطاني الذي يُروَّج له كعلامةٍ على العراقة، بينما تُمسي جرائم الاستعمار القديم والجديد مجرّد هامشٍ في سردية “المنقذ الحضاري”. هكذا يُعاد إنتاج التبعية تحت غطاء الهجرة، حيث يُستبدل الاستعمار

العسكري باستعمارٍ ثقافيٍ واقتصاديٍ أكثر دهاءً، يُذوّب الذاكرة النقدية في انبهارٍ زائفٍ بـ “الآخر” الذي لم

يتوقف عن كونه جزءاً من المشكلة.

أخيرا وكنداء إلى كل الشباب الذين يرغبون في الهجرة وهم محقّون: “الهجرة ليست مجرّد انتقال من مكان إلى آخر، بل هي رحلةٌ معقّدة بين الذاكرة والنسيان؛ بين هروبٍ من وطن لم يعد يحتمل ألمه، واستسلامٍ لسردية المستعمِر الذي يقدّم نفسه منقذاً بعد أن كان شريكاً في صناعة الكارثة. الخطر ليس في مغادرة الأرض، بل في تحوّل الهجرة إلى نكرانٍ للتاريخ، حيث يُستبدل الحنين بالانبهار الزائف، فتفقد سوريا ليس جغرافيتها فحسب، بل شرعيتها كضحيةٍ وحقّها في رواية نفسها. الهُوية هنا ليست انتماءً إلى تراب، بل التزاماً بألاّ نكرّس هزيمتنا مرتين: مرةً بالرحيل، ومرةً بالتنازل عن حقّنا في الغضب.”

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى