عن ذكرى الوحدة المصرية – السورية و «الربيع العربي» (أكرم البني)
أكرم البني
ما كان لذكرى إعلان الوحدة المصرية – السورية في 22 شباط (فبراير) أن تضع الفكر القومي في ساحة النقد، لولا توظيفها من بعض المثقفين لشن هجوم واسع على «الربيع العربي» بصفته فاتحة لهزيمة المشروع القومي الذي هيمن على الحياة السياسية العربية طيلة عقود، مرة طعناً بوجهه الإسلامي وأحياناً الليبرالي ولدوره في إيصال تيارات سياسية إلى سدة السلطة تكنّ عداءً مستحكماً لفكرة العروبة، ومرة لأنه نقل الصراع من جبهته المركزية، كصراع بين الشعوب والقوى الامبريالية والصهيونية، إلى صراع داخلي من أجل الحريات والديموقراطية، الأمر الذي أفضى، في رأيهم، إلى تفكيك الوحدة الوطنية للمجتمعات العربية وحفز روح التمايز والاختلاف ومطالب الأقليات الدينية والقومية، وفتح الباب لإضعاف العرب وتمكين أعدائهم من السيطرة على مقدراتهم ومصائرهم.
صحيح أن الثورات العربية تواترت كأنها حلقات في سلسلة واحدة، وبدا الترابط بين هموم الشعوب العربية وشعاراتها كما لو أن معركتها من أجل نيل حريتها وكرامتها معركة واحدة، ولكن الصحيح أيضاً أن الهم القومي لم يكن حاضراً كعنوان للثورات العربية وغابت عن الحشود الجماهيرية شعارات الوحدة ومقاومة الاستعمار والصهيونية وتحرير فلسطين والأراضي المحتلة، وحيث بدت القوى التي يشكل الهم القومي مركز اهتمامها هي الأضعف حضوراً وتأثيراً في الحراك الشعبي، أمام تقدم القوى الاسلامية والديموقراطية والليبرالية.
ويبدو أن انحسار تعاطف الشعوب العربية مع قضاياها العامة وتراجع إيمانها بدور الفكر القومي كحافز نضالي ونهضوي، يعودان الى أنها لمست لمس اليد ما آلت إليه أوضاعها والنتائج السلبية المثيرة للقلق التي حصدتها سنوات طويلة من تغليب النضال القومي على ما عداه، وكيف استخدمت الأنظمة العربية العقيدة القومية وشعاراتها لتسويغ الاستبداد وتعزيز سلطانها واستئثارها بالامتيازات، والأهم نتيجة عجز الفكر القومي عن تقديم إجابات شافية عن العلاقة المفترض أن تحكمه مع حقوق الانسان والديموقراطية وبناء الدولة المدنية، وتالياً عجزه عن التحرر من الأوهام التي استمد منها مشروعيته، وأهمها التشويهات البنيوية في ادعاءات التميز والتفوق القومي وما يعنيه ذلك من سيطرة اللاعقلانية والحلم والعواطف على التحليل الموضوعي وإمكانات الواقع الملموس.
ولكن، حين يعيد «الربيع العربي» الناس إلى السياسة ويمهّد لقيام أنظمة عربية منتخبة ديموقراطياً، لا بد من أن ينعكس ذلك بتضافر من طراز جديد بين الشعوب العربية، معطياً معنى جديداً لنضالها القومي، بخاصة إذا اقترن بمراجعة نقدية تحرره من جملة التباسات أحاطت به، ومن أخطاء واندفاعات بالغة الخطورة ارتُكبت باسمه، وأساساً لتحريره من نزعة إيديولوجية حوّلته إلى عصبية شوفينية لا إنسانية، دأبت على نكران التنوع والتعددية الثقافية في المجتمعات العربية ورفضت الاعتراف بخصوصية الأقليات القومية واحترام حقوقها، ودأبت أيضاً على مقايضة القضايا القومية بالديموقراطية، بينما هذه الأخيرة هي الضمانة الرئيسة لفتح أوسع الآفاق أمام الفكر القومي وقضية الوحدة العربية، ليس فقط لاتصال مسألة الحريات العامة والخاصة بتشابه معاناة الإنسان العربي، وليس لأن الديموقراطية بما توفره من مشاركة شعبية واحترام لكرامة البشر هي الصيغة الأسلم للعلاقة بين السلطة والشعب، وإنما أيضاً لأن الديموقراطية تفسح في المجال لإرادة الغالبية كي تقول كلمتها بحرية وتُظهر ما يعتمل في صدرها من أحاسيس قومية ومواقف وحدوية ورغبة في التحرر من التجزئة والاستعمار والصهيونية، مثلما تشكل صيانة للوحدة الوطنية المهددة داخل عدد من البلدان العربية من خلال جرأتها على إنتاج الأشكال الدستورية التي تؤكد احترام خصوصية مختلف مكونات المجتمع وحقوقها، ولنا في التقسيمات الفيدرالية التي أعلنتها القيادة اليمنية أخيراً خير مثال.
والحال، فإن تبني الفكر القومي مواقف جديدة تواكب الثورات العربية وما يحصل من متغيرات وإغناء شعاراته بقيم الحرية وحقوق الإنسان، يشجع على التفاؤل بقدرة هذا الفكر على تجاوز أزمة انحطاط وموات نحو إرهاصات أزمة نمو تضعه أمام لحظة انطلاق جديدة تعيد إلى الواجهة دوره النهضوي وأفكاره الوحدوية والتحررية والتنموية.
واستدراكاً، إذا كان من العدل والإنصاف الإقرار بأن أزمة التيار القومي سابقة على هبوب رياح التغيير، وتالياً تفهم تنامي هواجس ومخاوف بعض المثقفين القوميين بأن المستهدف من رياح التغيير ليس الأنظمة الاستـبـدادية بـل الفكرة القـومية في حد ذاتها، تأثراً بامتداد الثورات العربية بصورة رئيسة إلى الدول والأنظمة التي اتخذت من شعارات القومية العربية نهجاً ومساراً، في مصر وسورية وليبيا واليمن، فليس عدلاً ولا إنصافاً أن يسوغ هؤلاء المثقفون لهذه الأنظمة، بحجة الموقف القومي، ممارسة أشد أنواع الفتك والتنكيل ضد قوى التغيير وشعب يطالب بحقوقه.
في الماضي، أُهملت الديموقراطية واتجه الفعل السياسي العربي بصورة رئيسة نحو القضايا القومية، وبالأخص القضية الفلسطينية وبناء الوحدة العربية، الى ان بددت التجارب المرّة هذه الصورة وكشفت زيف الشعارات القومية، وأكدت أن تغييب حقوق الناس وفرض الوصاية عليهم أديا إلى تردي أوضاعنا، ليعلن «الربيع العربي» بالفعل تراجع الفكر والشعـور القـومي كموجّه للسلوك السياسي مقابل نهوض مشروع الانتقال الى الديموقراطية بصفته خياراً لا غنى عنه لمواجهة أمراضنــا وأزمــاتنا وتـدشين مرحلة حقيقية تمكن البشر من تقرير مصيرهم.
بين 22 شباط (فبراير) و «الربيع العربي» ستبقى القضايا القومية وطموح الشعوب بالوحدة مجرد حلم جميل، إذا لم يترافق بنضال مستميت ضد الاستبداد كفكر وممارسة سياسية، ليس فقط الاستبداد الذي يتم تبريره باسم الدين وإنما أيضاً باسم القومية، وأيضاً إذا لم يقترن بالعمل على تحرير الانسان وترسيخ الديموقراطية وبناء الدولة المدنية الحديثة، والأهم إذا لم ترفع الوصاية عن الشعوب ويفتح الباب أمامها لترسم مستقبلها بنفسها، فما يُبنى على القمع والإكراه لا يبقى، وما يدوم هو التعايش والمشاركة بالقناعة والرضا وباحترام حقوق مواطنين متساوين من دون تفرقة أو تمييز.
صحيفة الحياة اللندنية