عن مجتمع ما بعد المصالحات في سوريا: حي الوعر مثالاً

حين ننظر إلى خريطة الحرب السورية اليوم، ونشاهد كلّاً من «حزب الله» وإيران ومن خلفهما روسيا يقاتلون في صفّ الدولة السوريّة التي تواجه فصائل مسلّحة محليّة وأجنبية مدعومةً من تركيا والسعودية والأردن، بشكلٍ رئيس، قد نتوه للحظة، وننسى أنّ هذا القتال، حين بدأ، كان أهلياً، وأنّ الرّصاصة الأولى في حرب السنوات الخمس أطلقها سوريٌ فاستقرّت في صدرِ سوريّ آخر.

علينا أن نُذكّر أنفسنا، على الدوام، أنّ اقتتال اليوم الّذي يجرّ كلّ سلاح الأرض إلى سوريا هو حاصل تنامي حربٍ أهليّة ما كانت لتحدث لولا أنّ المجتمع السوريّ كان مهيّئاً، جدّاً، للانقسام على نفسه في مستوياتٍ كثيرة، يعدّ المستوى الطائفيّ أكثرها بشاعةً وخطورة.

لم يعد حلّ الأزمة السورية بيد السوريين وحدهم. فالعالم يعيد تصفية حساباته في دمشق. صحيفة «الغارديان» البريطانية قالت إن «ما يحدث في حلب مؤخّراً سوف يرسم خريطة أوروبا». سلسلة مؤتمرات جنيف صارت الشغل الشاغل لساسة الأرض، والقوى العُظمى تُعيد قياسَ علو كعبها استناداً إلى إنجازاتها في الملعب السوريّ. بعبارةٍ أبسط: لم يعد السّوريّون أصحاب القولِ الفصلِ في زمنِ الحلّ وشكله، وهم اليوم ليسوا إلّا جزءاً من جوقة لاعبين ينتظرون صافرةَ نهايةِ «المرحلة الدولية من الحرب» لعلّهم يلتفتون، بعد ذلك، لشؤون داخلهم الغارقِ في أتونِ الثّأر والعصبيات.

إنّ الإقرار بتدويل الأزمة السورية، لا يعني الإقرار بأنّ حلّ هذه الأزمة بات دولياً، فقط، وأحاديّ البعد. فالحراك الدُوليّ المكّوكيّ الّذي سبق «جنيف 3» كان يهدف إلى إرساء قواعدِ تراضٍ أمميّ يُعيد المشكلة السورية إلى مربّعها الداخليّ، ليصير السوريّون بعدها أمامَ استحقاقٍ جديد يهدفُ إلى معالجةِ آثار هذه الحرب على المواطن أوّلاً، وعلى البنية التحتية للبلادِ ثانياً.

دعونا نفترض أنّ العالم قد اتفق على شكلِ الحل اللازم لإغلاق الملفّ السوريّ، وأنّ السعودية وتركيّا قد كفّتا عن لعبِ دورهما المعطّل لكلّ أشكالِ التفاوض الرامي إلى إنهاء الحرب في سوريا، وأنّ جميع التجاذبات السياسية التي تتعلّق بمستقبل الحُكم في البلاد قد جرى تجاوزها إلى غير رجعة، حسناً، ماذا عن الداخل السوري الّذي عاش سنواتٍ من التحريض والتجييش والحقن الطائفي والمناطقيّ؟ كيف ستتمكّن الدولة من ترويض النزعات الانتقامية التي تنامت عند هذا الطيف السوريّ أو ذاك؟

تحاول الدولة السورية أن تشتغل على ملفّ المصالحات الداخليّة بالتوازي مع المسارين السياسي والعسكريّ، ولعلّ تسوية حمص القديمة (نيسان 2014) تعدّ الأبرز على هذا المستوى وذلك نظراً لرمزيّة المدينة «عاصمة الثورة السورية»، والصعوبات التي حالت دون خروج المسلحين منها. وضمن سياق البحث في بنية «مجتمعات ما بعد المصالحة» يحضر اسمُ «حيّ الوعر»، آخر معاقل المسلّحين في مدينة حمص. ولعلّ القراءة الّتي سوف نجريها لحالِ سكّان هذا الحيّ، ما بعد التسوية المرتقبة، يُمكن أن تشكّل مثالاً يصح تعميمه على معظمِ الجغرافيا السورية، التي ينوسُ فيها صوتُ الرصاص لفائدة من بقيَ على قيدِ الحياة من أبناءِ هذا البلد.

عرف الوعر، قبل الحرب السورية، تنوعاً طائفياً لم يشهده حيٌّ آخر في مدينة حمص الّتي كانت، ولا تزال، مقسّمةً ديموغرافياً بصورةٍ تشرح، تماماً، الأسباب الّتي سهّلت تحريض جزءٍ لا بأس به من أبنائها على التظاهر والمطالبةِ بإسقاط النظام من ثمّ تنحّي رئيس الجمهورية.

بالتزامن مع بداية الأزمة السورية، فردت فضائياتٌ دينية عدّة ساعاتٍ طويلةً من بثّها لدعاةٍ وشيوخٍ لم يتردّدوا لحظةً في التحريض على نسف المدنية السورية وإعادة تخيير «النّصارى» بين دفع الجزية ودخول الإسلام. أمّا «العلويّون والشيعة» فلا بدّ من قتلهم من أجل تخليص سوريا من «رجس الروافض والنصيرية» بحسب توصيفات أولئك الدعاة. نسبةٌ لا بأس بها من سكّان حيّ الوعر كانوا يواظبون على مشاهدةِ هذه الوصلاتِ التحريضية، حتّى أنّ بعضهم لم يتردد في الاستجابة لتعويذة الشيخ عدنان العرعور، فخرجوا يكبّرون ويطرقون على الآنيات المعدنية ليلاً بعدما وعدهم الشّيخ إيّاه بأنّ النظام سيسقط خلال ثلاثةِ أيّامٍ إن هم واظبوا على تنفيذ وصيّته «الربّانية» في «القرع على الطناجر»، الأمر الّذي يُدلّل على سهولةِ اختراقِ كلّ الأوساط «السنيّة المغلقة» من خلال ثقوبِ الأيديولوجية والعقيدة، وهذا ما أثار حفيظةَ الأقليّات العلوية في الحيّ، فغادر هؤلاء بيوتهم على غير رجعة، ومثلهم فعلت نسبةٌ لا بأس بها من مسيحيي الحيّ. ومع فرار هؤلاء، وتدفّق المهجّرين من أحياءٍ شكّلت بيئةً حاضنةً «للثورة»، صار الوعر أحاديَ اللون بالمعنيين السياسي والطائفيّ للمفردة.

لاحقاً، دخلَ السلاح إلى الحيّ، وتلاه مقاتلو الفصائل المتشدّدة الّذين أعاقوا إنجاز جميع التسويات السابقة بين الدولة وخصومها في الوعر.

الوعر اليوم خالٍ من المقاتلين المتشدّدين الّذين جرى ترحيلهم إلى ريف حماه الشمالي ضمن سياق المرحلة الأولى من التسوية التي يبدو أنّها تسير بخطواتٍ ثابتة نحو نزع السلاح من الحيّ وإعادته، كاملاً، تحت سيطرة الدولة.

إذا حاولنا أن نُشرّح البنية المجتمعيّة للوعر ما بعد المصالحة، على افتراضِ أنّ هذه المصالحة قد تمّت فعلاً ولم تتعثّر في مراحلها الأخيرة، سنجد أنّ المقاتلين المتشدّدين قد غادروا الحيّ بعدما عاشوا فيه وبين سكّانه فترةً كافية لنشر الفكر المتعصّب في وسطٍ سكانيّ يتألّف أغلبه من وافدين تقاطروا إلى الوعر من مناطق حمصيةٍ ذاتِ بيئةٍ منغلقة ميّالةٍ إلى التديّن «غير المضبوط»، الأمر الّذي سيسهّل انتشار العقيدة المتشدّدة بين عددٍ لا بأس به من سكّان الحيّ الحاليين، وذلك لأسبابٍ تبدأ بعدم اشتغال الدولة على خلقِ فكرٍ وسطيّ موازٍ خلال عمر الحرب، ولهاثها خلف إثبات حرصها على المقدّسات الإسلامية حتّى في أنصافِ المناسبات، وانتهاءً بمزاج الثّأر الذي يسكن صدور نسبةٍ لا بأس بها من «الوعريين» الّذين خسروا أقرباء وأصدقاء قيل لهم إنّ «جيش النظام»، العلويّ القوام، هو من قتلهم.

في المُحصّلة، غاب المتشدّدون، وسيظلّ فكرهم حاضراً في حيّ سترفع فيه أعلامُ الدولة السورية وتعودُ فيه المؤسّسات الحكومية للعمل مجدداً، لكنّ هذه «المغريات» كلّها لن تُشجّع السكّان الفارّين من جحيميّ الحرب والتطرّف على العودة إلى بيوتهم القديمة، فالشّرطة لن تستطيع أن تُطهّر النّفوس وتمنع وقوع الجريمة الفرديّة، والدولة لن تستطيع أن تُقنع كلّ متشرّبي الفكر المتشدّد بأنّ الّذي عاد إلى داره ليس عدوّاً إلهياً لهم لمجرّد كونه منتمياً إلى دينٍ مختلفٍ أو طائفةٍ مختلفةٍ أو حتّى فكرٍ سياسيّ مختلف.

ما قلناه في السطور السابقة عن حيّ الوعر قد يصحّ كمثال يُقاس عليه في أغلب مناطق المصالحات السورية ـ السورية.

حمص القديمة مدمّرة عن بكرة أبيها، ورئاسة مجلس الوزراء تُفاخر بتخصيص مبلغٍ وقدره 300 مليون ليرة سورية لترميم جامع خالد بن الوليد. أمّا المستشفيات والمدارس والمصانع ودور الثقافة فيجيء دورها ثانياً، الأمر الّذي يعني أنّ العقل الشعاراتيّ البائس الّذي أدار سوريا قبل الأزمة، والّذي تسبّب فعلياً في تهيئة كلّ الظروف لاندلاع الحرب الأهلية في البلاد، ما زال في طورِ جمودٍ يجعل الحديث عن طيّ صفحة الاقتتال الأهليّ وطيّ بذوره، بُعيد إتمام المصالحات، أقربَ إلى كلامٍ إنشائيّ لا يُطمئن السوريين الّذين يُمنّون النفس بدولةٍ تعمل وفق ذهنيةٍ تستأصل أسباب الشقاق بصورةٍ تمنع تكرار مأساة اليوم في قادمات السنين.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى