
أفكّرُ هذه الأيام بأنّ الماديّات عندما تُؤهَل بالمعنى لا تبقى مجرّد ماديّات، إنّها تخلع جمودها المألوف لتتوقّف عن كونها أشياء ماديّة، وتبدأ بالتنفّسِ كما لو كانت حيّة. عندها فقط يصبحُ لوزنها قيمةٌ أخرى، قيمةٌ لا تُقاس بالوحدات الدوليّة كما هو معتاد، وإنّما بمدى ما تُثقِلُ بهِ القلبَ من المشاعر والذكريات.
وصلتني هديّة منذ أيام لا أعرف كيف يمكنني أن أُنصِف شعوري تجاهها بمنحهِ التوصيف الدقيق الذي يستحقّه. للحقيقة لم يكن شعوراً واحداً؛ كان مزيجاً معقّداً من مشاعرَ شتى، مشاعر مختلطة ما بين دهشةٍ سعيدة تريد أن تغنّي بصوتٍ عالٍ ليسمعه الجميع، وما بين هدوءٍ شفيفٍ يريد أن يستمتعَ بكنزه وحيداً دون أن يشي به لأحد.
هي ليست كأية هدية؛ إنها هديّة تعرفُ عنوان قلبي جيّداً، جاءتني من مكان أبعد من أن تعرفه كتب التاريخ والجغرافيا، وأعقد من أن تحلَّ لغزهُ معادلات الرياضيّات والكيمياء، مكان بعيد جداً أفقد المسافات وطأتها وجعلها مجرّد تفصيل صغير لا يجرؤ على الوقوف بين شخصين يفهمان بعضهما جيداً.
كم هو غامرٌ شعورُ أن نرى الأحداث تتكثّف في معنىً واحد، وأن نجدَ التفاصيل الصغيرة تتجمّع إلى جانب بعضها البعض لتصنعَ لنا حبالاً طويلةً من الذكريات المتينة. حينها فقط نكتشف أن الحياة لم تكن يوماً في كثرةِ أحداثها؛ وإنما في تلك الكثافة الصادقة التي تكتنفها.
هديتي كانت تعرفني جيداً، تعرف ما أحبّ، وما يجذبني أكثر من غيره، وما أسعى لالتقاطهِ من بين يديّ العالم بحماسة. تعرف كم أحبّ اكتشاف قيمة الأشياء بنفسي دون أن تحدّني الإطارات أو أن تكبّلني قيودُ الأحكام المسبقة. تعرف أنني لا أبحث عن الشيء بحدّ ذاته وإنما عن قصّته التي يمكن ألّا يكون أحدٌ قد سمعها من قبل.
إنّها تعرف أيضاً كم أحبّ أن تكون الهدايا مغلّفة بالرمز والمعنى أكثر من الأغلفة الاعتياديّة اللمّاعة، وذلك لأجل أن أضيفها إلى ما أكونه، لا إلى ما أملكه. كما أنها تعلم أنني أجيدُ الإصغاء إلى ما حولي وبأنني لا بدّ أن أسمعها، لذا كانت تهمسُ إلي كلّما اكتشفتُ تفصيلاً جديداً من جماليّتها: “أنتِ مفهومة وقريبة حتى من أبعد مكان”.
إحدى أجزاء الهديّة كانت عملة يونانية قديمة استخدمت في عام 1926 أيام كازانتزاكيس وسيصبح عمرها قرن كامل بحلول العام الجديد. إنها عملة جمهورية اليونان الثانية والتي تدعى ب “الدراخما اليونانيّة الثانيّة”.
لم أستطع منع نفسي من البحث عن معنى” الدراخما” ووجدتُ بأنّ الاسم وحدهُ يروي الكثير، إنّها كلمة يونانية تعني ما يُقبَض عليه باليد، ما لهُ وزن، وما يترك أثرهُ في الكفّ. كل ذلك يعني بأنّ الدراخما أكثر من مجرّد عملة، صحيحٌ أنها شيء صغيرٌ بما يكفي لوضعه في الجيب، لكنّه كبير بما يكفي أيضاً ليختصرَ شرحاً قديماً موغلاً في العمق عن مفهوم القيمة، إنه يرى بأنّ القيمة تكون في كل ما نستطيع أن نمسكه ونشعر بوزنه، بعيداً عن كلّ ما يمرّ بنا عابراً دون أن يترك أثراً. إذاً؛ وكما علّمتني الدراخما؛ إنّ القيمة تأتي من الأثر، ويا لهُ من أثر ذاك الذي يغفو في قلوبنا عندما نحظى بالهدايا التي تعرفنا!
بوابة الشرق الأوسط الجديدة



