عودة القرم إلى «الأمبراطورية»! (هاني شادي)

 

هاني شادي

في الحادي عشر من آذار الجاري تبنى مجلس السوفيات الأعلى في القرم إعلاناً للاستقلال عن أوكرانيا يجسد نية الانضمام إلى روسيا، وذلك من دون انتظار موعد الاستفتاء على تقرير مصير شبه الجزيرة الأحد المقبل. ويعني هذا أن نتيجة الاستفتاء محسومة تماماً، وهذا هو واقع الحال على أرض القرم حيث يعيش نحو 60 في المئة من الروس. وتشير المعلومات الواردة من القرم إلى أن أكثر من 80 في المئة حالياً من الناخبين سيصوتون لمصلحة الانفصال عن أوكرانيا والانضمام إلى روسيا. والمرجح أن يصوت الأوكرانيون والتتار (25 في المئة و12 في المئة على التوالي) في القرم على رفض الانفصال أو سيقاطعون الاستفتاء.
روسيا اعتبرت «إعلان الاستقلال»، الذي تبناه برلمان القرم شرعياً ويساعد عملية الاستفتاء، التي ستتضمن سؤالين: «هل تؤيد انضمام القرم الى روسيا كأحد كيانات الاتحاد الروسي؟، و«هل تؤيد العودة إلى دستور جمهورية القرم للعام 1992 وتدعم وجود القرم كجزء من أوكرانيا؟». ولكي يتم الاعتراف بنتائج الاستفتاء يجب ألا تقل نسبة المشاركين فيه عن 50 في المئة من الناخبين. وعلى الرغم من احتجاج البرلمان الاوكراني على قرار برلمان القرم بإعلان الاستقلال، إلا أن الخارجية الروسية تستند الى حالة انفصال كوسوفو عن صربيا العام 2008 من جانب واحد، وتؤكد أن الممارسة العملية على ارض الواقع «لا تدل على ظهور قاعدة جديدة في القانون الدولي تمنع اعلان استقلال القرم»، وأن ممارسات مجلس الأمن الدولي لا تتضمن «أي مانع لإعلان الاستقلال من جانب واحد». أي أن موسكو تلعب بالورقة نفسها التي لعب بها الغرب في كوسوفو من دون النظر إلى حالات قد تكون مماثلة بشكل ما في شمال القوقاز الروسي.
في الوقت ذاته يستعد مجلس الدوما الروسي (مجلس النواب) لمناقشة إقرار مشروع قانون في 21 من الشهر الجاري يُسهل عملية قبول مناطق جديدة في قوام روسيا الاتحادية. وبهذا الشكل سينتظر مجلس الدوما نتائج الاستفتاء في القرم، واعداً بتأييد الانفصال والانضمام إلى روسيا. والمرجح أن هذا القانون سيفتح الطريق أمام انضمام مناطق أخرى إلى الدولة الروسية الحالية، ربما أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية مسقبلا. كما أنه يمثل حالة احترازية لاحتمالات مستقبلية لتقسيم أوكرانيا بين شرق وغرب. واللافت أن حملات الدعاية والترويج الرامية لإغراء السكان بالتصويت لمصلحة الانفصال بدأت في مدن شبه جزيرة القرم باستخدام مقارنات لأجور العمل ورواتب التقاعد في كل من روسيا وأوكرانيا. وتشير المعطيات الى أن متوسط الراتب الشهري في روسيا يبلغ نحو 700 دولار، وفي القرم حوالي 315 دولاراً، وفي سيفاستوبول 330 دولاراً. كما أن متوسط الراتب التقاعدي في روسيا هو 271 دولاراً، وفي القرم وفي سيفاستوبول نحو 156 دولاراً شهرياً. أي أن عامل الإغراء المادي متوفر أمام سكان القرم من الروس للالتحاق بروسيا.
وينشغل الرأي العام الروسي هذه الأيام أيضا بكُلفة عملية ضم القرم إلى الاتحاد الروسي. وتشير مصادر روسية إلى أن التعويضات الاجتماعية وتسديد الرواتب للمتقاعدين في القرم سيكلف روسيا في العام الواحد نحو 330-420 مليون دولار، ويشمل ذلك العسكريين (600 ألف شخص) والطلاب (50-100 ألف شخص) والمعوقين. وستضطر روسيا للإنفاق على دعم عمل هيئات سلطة الدولة وسلطات الادارة المحلية في القرم ودعم ميزانية شبه الجزيرة. كما ستنفق روسيا حوالي 500 مليون دولار أخرى على الرعاية الصحية والتعليم وعمل الهيئات الامنية، ونحو مليار دولار على دعم الصناعة في القرم. ويرى مراقبون أن روسيا ستنفق ما بين 2,5 و3 مليارات دولار سنوياً على القرم. ويُذكر أن القرم يحصل من ميزانية الدولة الاوكرانية على 1,5-2 مليار دولار سنوياً، منها حوالي مليار دولار لتسديد رواتب التقاعد. ويبدو أن الكرملين يرى أنه قادر على مثل هذه النفقات، بالرغم من تراجع معدل النمو الاقتصادي في روسيا إلى 1,4 في المئة في العام 2013، وبالرغم من انخفاض العملة الوطنية الروسية (الروبل) أمام الدولار بنحو 20 في المئة منذ بداية العام الجاري. ويبدو أيضاً أن هذه النفقات مبررة من وجهة نظر المصالح القومية العليا للدولة الروسية، خاصة أن العوائد السياسية من ضم القرم قد تكون كبيرة من الناحية الجيوسياسية.
ويدعو البعض في روسيا للنظر الى العواقب الاقتصادية لضم القرم مع الأخذ في الاعتبار الحصار الاقتصادي الذي يحتمل ان تفرضه السلطات المركزية في أوكرانيا على شبه الجزيرة، حيث هددت كييف بقطع الغاز والكهرباء والمياه عن القرم. ولكن مراقبين روس يؤيدون ضم القرم لروسيا يعتقدون أن هذه الإجراءات لن تكون مؤثرة كثيراً على ارض الواقع. ويرون أن القرم لديه اكتفاء ذاتي من الغاز، حيث يُستخرج في الجرف القاري للقرم كميات مناسبة من الغاز الطبيعي. ففي العام 2013 بلغ الاستخراج 1,56 مليار متر مكعب، وهي كمية تزيد عن الاستهلاك السنوي للقرم من الغاز الطبيعي. وفي القرم توجد أيضا خزانات تحت الارض لتخزين الغاز يبلغ حجمها الاجمالي 1 مليار متر مكعب. وبالنسبة إلى تهديد كييف بقطع المياة عن شبه الجزيرة، فيرى الروس أنه يمكن التغلب عليه عبر استخدام الآبار الارتوازية وتحلية مياه البحر. وقد تلجأ روسيا أيضا إلى مد قنوات لنقل المياه من انهار جنوب روسيا، خاصة نهر كوبان، الى القرم عبر مضيق «كيرتش». ومن بين الإيجابيات الاقتصادية الهامة لانضمام القرم الى روسيا، حسب بعض المراقبين الروس، انتعاش القطاع السياحي في شبه جزيرة القرم. فهذا القطاع لا يعدّ من القطاعات الاساسية في اقتصاد القرم في الوقت الراهن، حيث تعود المكانة الأولى لقطاع النقل، الموانئ على وجه التحديد، والصناعات الكيميائية والزراعة والخمور وقطاع صيد الأسماك، الذي تبلغ حصة القرم فيه نحو 60 في المئة من إجمالي إنتاجه في الاقتصاد الأوكراني.
تشير بعض استطلاعات الرأي إلى أن نحو 70 في المئة في روسيا يدعمون موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحالي من أوكرانيا عامة، ومن ضم شبه جزيرة القرم خاصة. فالروس ما زالوا يحلمون بـ« الدولة العظمى»، ربما ليست السوفياتية وحسب، بل وما قبل السوفياتية. وهم يحلمون أيضا بالحلم «الغريزي الجيوسياسي»، ألا وهو الوصول إلى المياة الدافئة. ويمتزج هذا مع حلم السكان الروس في القرم بالعودة إلى «الإمبراطورية» في ثوبها الجديد.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى