عودة لدور المجتمع المدني

لم تعد مهمّات المجتمع المدني العربي تقتصر على الاحتجاج والاعتراض، فقد توسّعت حقول عمله ونطاقات حركته لتشمل حضوره كقوة اقتراح وشراكة للحكومات، سواء باتخاذ القرارات أو المشاركة في تنفيذها، خصوصاً أن التنمية المستدامة حسب مصطلح الأمم المتحدة، أخذت تعني التنمية الشاملة، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وقانونياً وقضائياً وثقافياً وتربوياً وغير ذلك، ولأن هذه التنمية لن تتحقق ما لم يسهم فيها المجتمع المدني، إضافة إلى القطاع الخاص، وبالطبع الحكومات، من هذا يأتي الدور الذي يمكن أن يلعبه المجتمع المدني كقطاع فاعل ولا غنى عنه .

ولعلّ مناسبة هذا الحديث هو الدعوة الرفيعة المستوى التي أطلقها المرصد اليمني لحقوق الإنسان بشراكة منظمتين أخريين بدعوة خبراء وأكاديميين وباحثين وناشطين حقوقيين لتفعيل دور المجتمع المدني وآلياته في تنفيذ القرار الذي أصدره مؤتمر البحرين لإنشاء المحكمة العربية لحقوق الإنسان، من خلال التشارك مع جامعة الدول العربية، لبلورة رؤية اقتراحية الإطلاق مبادرة لإقناع الحكومات بالوسائل المختلفة لاعتمادها، تنفيذاً لتوصيات مؤتمر المنامة، الذي يعد مفصلاً تاريخياً بإقراره تشكيل المحكمة العربية لحقوق الإنسان، التي كان مجرد الحديث عنها قبل عقدين أو نيّف من الزمان مجرد حلم يراود مخيّلات بعض الفقهاء والناشطين الحقوقيين العرب، خصوصاً في ظل أوضاع عربية وإقليمية ودولية غير مشجعة على أقل تقدير، فما بالك اليوم حين يتأسس تحالف إقليمي عربي لدعم الانضمام إلى المحكمة ومواءمة نظامها الأساسي مع المعايير الدولية، إضافة إلى دعوة الدول غير المنضمّة إليه بالانضمام والدول المنضمة غير المصدّقة بالتصديق؟

لقد كان الوصول إلى محطة التأسيس عملاً مضنياً وطويلاً، وتبقى مراجعة ما تم مسألة مهمة للغاية، خصوصاً أن ما تحقّق يعد إنجازاً على طريق إيجاد هيئة قضائية عربية وظيفتها الفصل في النزاعات المتعلقة بحقوق الإنسان، خصوصاً الانتهاكات والتجاوزات وسماع الشكاوى التي تقع على الأفراد أو الجماعات أو المجتمع ككل، مع أن قيوداً ليست قليلة وضعت في طريق اللجوء إلى المحكمة وهو ما كان المجتمع المدني يطمح إلى تجاوزه بهدف منع الإفلات من العقاب وضمان الحقوق والحريات الأساسية، وهو ما ورد بشأنه العديد من الملاحظات والتحفّظات بخصوص النظام الأساسي .

قد ينصرف الذهن أحياناً عند الحديث عن المحكمة العربية لحقوق الإنسان إلى محكمة العدل العربية التي وردت في المادة 19 من ميثاق جامعة الدول العربية، وهو ما حاول الفقيه القانوني حسين جميل إزالة مثل هذا الاشتباك منذ وقت مبكر حين بيّن أن اختصاص هذه المحكمة هو شبيه باختصاص المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان المنبثقة عن مجلس أوروبا، وذلك عند اقتراحه الريادي في ندوة مركز دراسات الوحدة العربية في العام 1982 “تأسيس محكمة عربية لحقوق الإنسان” في إطار بحثه الموسوم “دور الجامعة العربية في إنشاء محكمة عربية لحقوق الإنسان”، وهذا ما جرى الحديث عنه لاحقاً في إطار ندوة كبرى نظمها المركز ذاته في العام 2003 .

وإذا كان الحديث عن إنشاء المحكمة قد اقتصر على الجانب النظري والاقتراحي لعقود من الزمان، فإنه دخل الآن حيز التنفيذ الأولي بعد إعلان البحرين، ويحتاج الأمر إلى مراجعة وتدرّج وتراكم، وهو ما يستوجب استكماله بمواءمة النظام الأساسي مع قواعد المحاكمات العادلة، والسعي لتأسيس قوام المحكمة واختيار قضاة أكفاء ونزهاء، وادعاء عام على مستوى من المعرفة والحيادية، وكذلك الخطوات الأخرى الواجب اتباعها تنفيذاً للإعلان عن قيام المحكمة والشروع بمباشرة عملها، وهو ما يتطلّب من المجتمع المدني ومؤسساته أن تدلي بدلوها فيه وأن تقدّم اقتراحاتها وأن تنظم اجتماعات ومؤتمرات لهذا الغرض بغية اختيار الأفضل والأحسن واتباع الأساليب الأكثر نجاعة وصدقية وتقديم المشاريع الأكثر نضجاً وواقعية .

إن فكرة المحكمة أصبحت اليوم أكثر مواتية وفي ظروف أفضل على الرغم من التحديات الجديدة التي يشهدها العالم العربي حالياً، خصوصاً ظواهر الإرهاب والعنف والتطرف والتعصب والانقسام الطائفي والديني، فضلاً عن انتهاكات جديدة لحقوق الإنسان طالت فئات ومجموعات ثقافية واضطرت مئات الآلاف من العرب إلى النزوح عن مناطق سكناهم أو اللجوء إلى المنافي طلباً للأمن والأمان وحفاظاً على حياتهم، الأمر الذي يضع موضوع المحكمة والإجراءات التي يمكن اتباعها في صلب مهمة الدفاع عن حقوق الإنسان وحماية الحقوق والحريات الأساسية وتحقيق العدالة، خصوصاً أن العديد من نظم العدالة الوطنية لا توفّر آليات انتصاف فعّالة، كما أن بعضها لا يوفر ضمانات محاكمة عادلة، ويعود ذلك إلى بنيتها الدستورية والقانونية ونظامها القضائي، وهذا الأمر غالباً ما لقي نقداً حقوقياً .

ويبقى الدور الذي بحاجة إلى بلورة وتفعيل وتطوير هو للمجتمع المدني ومؤسساته ومنظماته من خلال اقتراح آليات يمكن لجامعة الدول العربية اعتمادها، لتفعيل دور المحكمة وإعطائها ما تستحقه من مكانة وهيبة ونفوذ قانوني واعتباري، يتجاوز في بعض قواعده ميثاق الجامعة ذاتها، وهو أمر بحاجة إلى تسليط ضوء عليه، خصوصاً إذا اعتمدنا جامعة الدول العربية كإطار مؤسسي يمكن له أن يساهم بصورة فعّالة وحيوية في تحقيق هذا المنجز التاريخي، فقد بقي ميثاق جامعة الدول العربية التي تأسست في 22 مارس/ آذار من 1945 دون تغييرات تذكر بما يستجيب للتطور الدولي في ميدان حقوق الإنسان، وهو نقص فادح لا بدّ من تلافيه، إذ لا توجد منظمة إقليمية واحدة لم تستجب للمتغيرات الدولية .

وبهذا الخصوص، ومن باب قوة الاقتراح فقد يكون مناسباً لمؤسسات المجتمع المدني أن تبلور اقتراحاً عملياً وأن تتقدم بخطوات ملموسة بشأن تعديلات ميثاق “الجامعة” فيما يتعلق بنظام التصويت ومشكلة صنع القرار وتنفيذه وإجراء إصلاحات هيكلية في أجهزة الجامعة وتعديل دور الموظف العمومي الإقليمي بحيث يكون ممثلاً للمؤسسة وليس لبلده، إضافة إلى الاهتمام بدور المجتمع المدني وإشراكه في صنع القرار وتنفيذه، فضلاً عن الاستماع إليه والتشاور معه .

ولا بدّ من اتباع جميع الإجراءات القانونية في التحقيق وصولاً إلى اتخاذ قرار من المحكمة وتيسير إمكانية تنفيذه، مع الأخذ في الاعتبار الالتزام بالمعايير الدولية للمحاكمة العادلة، وحق الدفاع، وتوكيل محام والاستماع إلى الشهود، والاطلاع على الأدلة والقرائن، وقد يحتاج الأمر إلى إعداد نظام أو بروتوكول يلحق بالنظام الأساسي، ويأخذ خصوصية البلدان والقضاء المختلف فيها، مع ضرورة اعتماد آليات سلسة وتقوم على تبادل الخبرة والمعرفة والاستفادة من التجارب الدولية على هذا الصعيد، وبالطبع فإن هدف إصلاح النظام القانوني والقضائي والأمني العربي ينبغي أن يكون مهمة أساسية للحكومات والمجتمع المدني على حد سواء، ولعلّ في الاتحاد الأوروبي والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تجربة يمكن الإفادة منها لا بالاستنساخ أو التقليد، بل كخبرة دولية ناجزة لدول جمعتها المصالح المشتركة بالدرجة الأساسية، في حين أن بلداننا يجمعها اللغة والدين والتاريخ والأهداف المشتركة .

صحيفة الخليج الاماراتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى